خطيئة الفراهيدي لدى اللسانيين المحْدَثِين النظام الصوتي أم الدلالة الموات؟

خطيئة  الفراهيدي لدى  اللسانيين المحْدَثِين النظام الصوتي أم الدلالة الموات؟

هل يعتبر البعض أن نظام التقليبات الصوتي سِجِلُّ نجاحٍ لدى الفراهيدي؟ ولماذا اعتبره الأكثرون غير صالح للتصنيف المعجمي؟ وهل استطاعوا الدخول إلى مـــنــهج  تــفكيره المعجمي  واللغوي والدلالي؟ وكيف؟
لعلّ مرحلة اللا معنى التي وُفّق بها وإليها الخليل بن أحمد الفراهيدي - يرحمه الله - هي سرّ نجاحه في اختراق المادة المعجمية وسرّ اختراقه كُنْه المعنى في عمليته الإحصائية الرائدة التي تفوق ذاكرة أكبر جهاز كمبيوتر في علم المعجم، عندما جرّد حروف العربية من مشاعرها وفكك شيفراتها بتقسيمه حروف العربية إلى تسع مجموعات غير متساوية عدديًا ولفظيًا ضمن النظرية الاحتمالية التجريبية، وصار أكثر اللسانيين والمعجميين من بعده حتى المعاصرين مُصرِّينَ على أن نظامَه تقليباتٌ صوتيةٌ فحسب، إذ أغفلوا الجانب الدلالي في تقسيمه حروف «العربية». فما هو ما لم يفطن إليه الدارسون عن تفكير الفراهيدي في معجمه «العين»؟

 

لا شك في أن معجم «العين» هو أول معجم عربي وُضع في التراث العربي ليخدم اللغة العربية، وأن أي معاجم لغوية موحدة الموضوع سبقت الخليل، في لغات العالم، ليست بمعاجم؛ لأن «العين» بُنِي على خطة ثابتة، استقصائية دقيقة وإحصائية مُتْقنة، نجدها في هيكل الكتاب وتقسيماته، كما بُنِيَ في مضامينه على أنْ يكون دائرة معارف للغة العرب. غامر واضعُه وجازف على أتون الصوت والفراغ الدلالي، أو الدلالة الموات المجرّدة من أي معنى وهي غير المهمل الذي قصده، ليحصل المعنى وظله واللفظة ودلالاتها، حتى يجمع مادته العلمية ويستجلب جذر الألفاظ، وكأني به وضع نصب عينيه النظريات الألسنية السَّنيِّة وغير السَّنيِّة منها، في زمن لم يتوفّر الإنترنت ولا الضوء ولا الشموع ولا الحبر ولا وسائل الطباعة وتسهيلاتها، ولا حتى البرامج الإحصائية المتطورة التي تشهدها الساحة البحثية المعاصرة. 
بكل بساطة ابتكر الفراهيدي وأبدع من دون وجود الإمكانات المتوافرة اليوم، غير أنه فاق إمكانات المعاصرين.
فلا جرم أن معظم من اهتم من الدارسين بمنهج الخليل، على زحمتهم، عَمَد إلى تسمية منهجه بالنظام الصوتي، أو نظام التقليبات الصوتية، استنادًا إلى الحروف ومخارجها عند الخليل، وهو الأبرز، إلا أنّ أحدًا منهم لم يلتفت إلى الجانب المعنوي في تمسكّه بذاك النظام، إذ عمد الخليل - يرحمه الله - إلى تجريد اللغة، بتصفير عَدّاد المعاني إلى مرحلة تلاشي الدلالة بتفكيك عُراها وتوضيب كلّ حرف بمفرده في مجموعة جرداء/ موات تعتمد ترتيبًا لفظيًا مُعَيّنًا من دون إمكانية تركيب لفظيّ دالّ، حيث جعل الناظر يحكم على أن كل مجموعة من مجموعاته منزوعة فتيل الحياة والحيوية. ولا تصح تسميتها اللغة المجردة المختصة بالمعجم خارج السياق، بتحويلها إلى موات جراء اعتماده نظام التقليبات الذي حصروه في الصوت فقط، وهذا ما نال رضى بعض اللسانيين الذين بنوا نظريتهم على ارتباط الصوت باللغة واللغة بالمعنى أو ظل معنى، باعتماد الصوت اللغوي ليس إلا، أو طوروه إلى اكتناه الدلالة ثم إلى السيمياء.

موات دلالي
نعم لقد وُفّق الفراهيدي إلى خلق حالة الموات الدلالي والفراغ المعنوي من خلال ذلك النظام المنعوت - ظلمًا - بالصوتي، لتصبح حروف اللغة مادة خامًا لا مشاعر فيها ولا دلالة، وجعل حروف الأبجدية والألفبائية العربية في مجموعات متفرّقة، كل مجموعة منها متنافرة التركيب، عصيّة على أن تشكّل لفظةً ذات دلالة أو فائدة ومغزى، وهي حروف في مجموعات غير متفاعلة من أجل تخزينها في «داتا» الدماغ المعجمي خشية الإنبات أو التعفّن والتلف، فلا معنى في تراكيب حروف المجموعة الواحدة ضمن مجموعاته التسع، على سبيل المثال: لا يمكن تشكيل كلمة لا باعتماد الجذر الثنائي ولا الثلاثي ولا الرباعي وغيره ضمن المجموعة الواحدة، إذ لا يصحّ اجتماع حرفين أو أكثر من المجموعة المعتمدة كالتالي:
<  المجموعة الأولى، وهي مجموعة الحروف الحلقية: ع، ح، ه، خ، غ. فمَنْ مِنَ اللغوين - قدامى ومعاصرين - يستطيع أن يعثر على كلمة واحدة ذات معنى  في جذور ثنائية كانت أو ثلاثية أو رباعية؟ نعم قد يعثر على تركيب لفظة، لكنّه لا يعثر على كلمة. 
لنأخذ مثلًا: تركيب  حرف العين مع أي حرف بعده ضمن المجموعة الأولى ثنائية الجذر أو ثلاثية أو رباعية ضمن التقليبات المعروفة التي اعتمدها: عحه، عحخ، عحغ، عهخ، عهغ، حغه، حهخ،... إلخ.
وهكذا دواليك ضمن المجموعة الثانية.
• المجموعة الثانية، وهما الحرفان اللهويان: ق، ك، ما المعنى المستفاد من تركيب لفظ القاف والكاف أو العكس؟.. قك وكق؟
• المجموعة الثالثة: ج، ش، ض، وما المعنى من تركيب ألفاظ: جشض، جضش، شجض، ضشج... إلخ؟
• المجموعة الرابعة: ص، س، ز: وما المعنى لألفاظ: صسز، صزس، سصز، سزص، زصس، زسص... إلخ؟
• المجموعة الخامسة: ط، د، ت، وما المعنى من تركيب ألفاظ: طدت، طتد، تطد، تدط،... إلخ؟
• المجموعة السادسة: ظ، ث، ذ، وما المعنى المستفاد من تركيب ألفاظ: ظذث، ظثذ، ثظذ، ثذظ، ذظث، ذثظ... إلخ؟
فكّر مليًّا - عزيزي الألسني العربي - في تقليبات حروف بقية المجموعات، التي جاءت محض دلالية أكثر منها صوتية، في المجموعات المتبقية. 
• المجموعة السابعة: ر، ل، ن.
• المجموعة الثامنة: ف، ب، م.
• المجموعة التاسعة والأخيرة: و، ا، ي، همزة... ماذا لاحظت يا رعاك الله؟!

الحروف المصَفّرة
وعليه، فإن من يلاحظ - متأنيًا - يجدْ أن المعاني تتأتّى من خلال إدماج حرف أو حرفين من المجموعة الواحدة ذات الجذر الثلاثي فما فوق في حروف مجموعة أخرى، أو مجموعتين أو ثلاث، ومَن يفعل لا يحظى باقتناص تركيبها بالمجمل للحصول على كلمة واحدة ذات دلالة، وقد تكون مهملة، كما أحَبّ الخليل أن يُسمي اللفظة التي ما عثر لها على معنى، ولا وجود لها في استعمالات العرب، أو في الرصيد الذي جمعه من مادة الاستعمال اللغوي المنطوق، بمعنى أنه كان شديد الدقة في التعامل مع التقليبات الصوتية ذات الحَمْل المعنوي أو الاستخدامي، واختلافاته اللهجوية، فلا يصح - فيما سبق من تراكيب - قول ابن جني: «تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني»، إذ لم يتناسب اللفظ مع الحدث، ومع الدلالة.
من هنا، فإني أميل إلى إطلاق مصطلح الحروف المصَفّرة Cancelled، أو الفارغة الخام، وتمييزها من مصطلح المهمل الذي اعتمد عليه في منهج تفكيره المعجمي في نظرية وضع المعجم.
وإنه من الإجحاف اتّصاف نظام التقليبات الخليليّة بمحض صوتية ولا شكلية أو مزاجية، إنْ لم يلتفت إلى مشاعر التركيب في كل مجموعة، وهو إن أشار إلى مشاعر كل حرف أحادي، ولم يُعطِ أولوية إلى الحروف الأحادية المقطعة في بداية سور القرآن الكريم من حيث ترتيب أبواب معجمه وفصوله، فكان بإمكانه أن يسمي كتابه: كتاب الصاد (نسبة إلى سورة ص، أو كتاب  قاف نسبة إلى سورة قاف، ولا نون إلى سورة القلم)، وبالتالي لم يركن إلى تسمية معجمه بالضاد نسبة إلى تسمية «العربية» بها، باعتبار تسمية الكل باسم الجزء. فهل كان يميل إلى تسمية العربية لغة العين، ولم يستجب له الدارسون؟ حتى في اختياره تسمية العين تعود إلى اعتبارات معنوية ولفظية صوتية في آن،
 أم أن تسمية «العربية» بلغة الضاد كانت السباقة؟

ترتيب صوتي خاص
وعليه، فلم يكن الخليل شكلانيًّا في اعتماد نظامه عندما انطلق من الترتيب الصوتي الخاص به كذلك انطلق من المنهج الدلالي المعنوي، كدأب مبتكر المعجم وهو المعجمي الإحصائي الموسوعي الشامل انطلق من مرحلة الصفر، والتجريد المعنوي وتفريغ اللفظة من محتواها، وهو العِلْم المعاصر الذي يعتمده خبراء المعلوماتية والحواسيب والبرمجيات، فعمد إلى برمجة خاصة انطلق فيها من الصفر إلى تحميل الحروف شحنات المعاني، ثم ظلالها، ثم تداولها، وبالتالي نقصان الدلالة فيها أو زيادتها أو انتقالها وتطورها، بالعودة إلى التقليبات الاشتقاقية، وما يعرف بالحقل الدلالي، ثم الحقل المعجمي، وإن لم يكن ذاك باديًا في مقدمة المعجم النظرية التي وضعها هو نفسه، بل أظهر التطبيق ذلك، واعتماد معايير المنهج المعجمي باعتماد المرجعية الدلالية انطلاقًا من الراجع والمرجوع إليه، والإحالة المعنى في اتجاه واحد من اللفظ إلى المعنى في علم المعجم، بعدها ننحاز إلى تعدد المعاني وتطور الدلالة: نقصانها أو زيادتها أو بين بين، فضلًا عن ارتباطها بالسياق، وهنا يدخل مصطلح المهمل الذي ابتدعه ووضعه، فاعتمد عليه بحذف المادة المعجمية التي قد تثقل معجمه، وتتعب مَنْ بعده بدافع منفعة المعنى، وفي ذلك إرسال شيفرة معنوية إلى إرساء منهج مرجعي قوامه الحسّ التداولي والتأويلي المنطلق من السيميائية في مفهومنا المعاصر، وقُل في مفهوم المناهج الغربية. ويؤدي ذلك إلى وضوح المعجم الاصطلاحي الخاص لا المعجم اللغوي العامّ.
إذًا تأتي فكرة RESET (انطلاقة الدلالة الصفرية) استكمالًا لعبقرية الخليل المنطلقة من المجرد الخام إلى المعاني بشكل عام في معظم أطرها المعجمية والسياقية وأحيانًا المجازية، بعد مرحلة الانطلاق (Start). 
فها هم  دارسو العلوم اللغوية يطلقون ألقاب التقريظ والثناء على تشومسكي وجاكوبسون وغيرهما، علمًا بأن الخليل قد سبقهم بأشواط وأشواط منذ زمن طويل، فما هي خطيئته أمام التراث العربي واللغوي؟ وهل من خطيئة جعلت اللسانيين الغربيين والعرب يتفوقون عليه، وعلى تراثنا العربي؟ وهل من داعٍ إلى التنقيب لإبراز ما نقله عنه الصوتيون المحدثون من الألسنيين أو تأثّرُوا به، ولماذا تخلت جامعاتنا ومناهجنا عنه وعن دراسته؟ ■