كمال أبوالمجد... رمز الوسطية وسط الغيوم الملبّدة

كمال أبوالمجد... رمز الوسطية وسط الغيوم الملبّدة

عن‭ ‬عمر‭ ‬ناهز‭ ‬89‭ ‬عامًا،‭ ‬غيّب‭ ‬الموت‭ ‬المفكّر‭ ‬الكبير‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬كمال‭ ‬أبوالمجد،‭ ‬تاركًا‭ ‬وراءه‭ ‬إرثًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬المؤلفات‭ ‬القانونية‭ ‬والإسلامية‭ ‬والمواقف‭ ‬السياسية،‭ ‬بعدما‭ ‬تعاقب‭ ‬على‭ ‬المناصب‭ ‬الرسمية‭ ‬والأكاديمية‭ ‬والمهنية‭ ‬منذ‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ليصبح‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر‭ ‬الحديث‭.‬

ولد‭ ‬أبوالمجد‭ ‬في‭ ‬28‭ ‬يونيو‭ ‬1930‭ ‬بمحافظة‭ ‬أسيوط‭ ‬جنوب‭ ‬مصر،‭ ‬وبعد‭ ‬إكمال‭ ‬مراحل‭ ‬دراسته‭ ‬الأولى،‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬ليسانس‭ ‬الحقوق‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬عام‭ ‬1950،‭ ‬وعلى‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير‭ ‬في‭ ‬القانون‭ ‬المقارن‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬ميتشجان‭  ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬عام‭ ‬1959،‭ ‬ثم‭  ‬الدكتوراة‭ ‬عام‭ ‬1960‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬،‭ ‬وكان‭ ‬أحد‭ ‬رواد‭ ‬التنظيم‭ ‬الطليعي‭ ‬الذي‭ ‬أنشأ‭ ‬ه‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬لإخراج‭ ‬كوادر‭ ‬سياسية‭ ‬بالبلاد‭. ‬

يُعد‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬كمال‭ ‬أبوالمجد‭ ‬رمزاً‭ ‬للوسطية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬كونه‭ ‬مفكّرا‭ ‬قانونيًّا‭ ‬وإسلاميًّا‭ ‬تولى‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬المناصب،‭ ‬أبرزها‭ ‬عمله‭ ‬وزيرًا‭ ‬للإعلام‭ ‬والشباب،‭ ‬ونائبًا‭ ‬لرئيس‭ ‬المجلس‭ ‬القومي‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬سابقًا،‭ ‬وعضوًا‭ ‬بالجمعية‭ ‬المصرية‭ ‬للاقتصاد‭ ‬والتشريع،‭ ‬وعضوًا‭ ‬في‭ ‬مجمع‭ ‬البحوث‭ ‬الإسلامية‭ ‬بالأزهر،‭ ‬وكان‭  ‬أحد‭ ‬أشهر‭ ‬المحامين‭ ‬والقانونيين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والوطن‭ ‬العربي،‭ ‬وظل‭ ‬أستاذًا‭ ‬متفرغًا‭ ‬بكلية‭ ‬الحقوق‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭.‬

تربى،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬العلم‭ ‬الشرعي‭ ‬والقانوني‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أبيه‭ ‬القاضي‭ ‬وبيت‭ ‬خاله؛‭ ‬أعظم‭ ‬مُفتٍ‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر،‭ ‬العلّامة‭ ‬حسنين‭ ‬مخلوف‭. ‬وبالرغـــم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أبوالمجـــد‭ ‬برز‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬كثيرة،‭ ‬فإن‭ ‬أبرز‭ ‬إسهاماته‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬الوسطية‭ ‬ومحاربة‭ ‬التطرف،‭ ‬ومازالت‭ ‬كلماته‭ ‬وأطروحاته‭ ‬الرائعة‭ ‬تنبض‭ ‬بالحياة‭ ‬وتشع‭ ‬بالنور‭ ‬في‭ ‬ظلمات‭ ‬تكاد‭ ‬تكتنف‭ ‬أغلب‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الآن‭.‬

بدأ‭ ‬نجم‭ ‬أبوالمجد‭ ‬يظهر‭ ‬مع‭ ‬دخوله‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬والمناصب‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬بعد‭ ‬تعيينه‭ ‬مستشارًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬لمصر‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الأمريكية‭ ‬واشنطن،‭ ‬وتصادف‭ ‬أن‭ ‬المنصب‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة‭ ‬من‭ ‬دخوله‭ ‬السجن‭ ‬الحربي‭ ‬مدة‭ ‬شهر‭ ‬واحد‭.‬

كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬المسلمين‭ ‬يحتاجون‭ ‬الآن،‭ ‬وهم‭ ‬يواجهون‭ ‬ما‭ ‬يعصف‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬وما‭ ‬يُحدق‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بين‭ ‬أيديهم‭ ‬أدوات‭ ‬ثلاث‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬لهم‭ ‬عنها؛‭ ‬أولاً‭: ‬خريطة‭ ‬للعالم‭ ‬الذي‭ ‬يعيشون‭ ‬فيه،‭ ‬تحدد‭ ‬قسماته،‭ ‬وتشير‭ ‬إلى‭ ‬القوى‭ ‬الكبرى‭ ‬صاحبة‭ ‬التأثير‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬شؤونه،‭ ‬كما‭ ‬تحدد‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬مكانهم‭ ‬هُم‭ ‬فيه،‭ ‬وموقعهم‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أممه‭ ‬وشعوبه‭.‬

ثانيًا‭: ‬سجلّ‭ ‬موضوعي‭ ‬دقيق‭ ‬لتاريخهم‭ ‬البعيد،‭ ‬ولتاريخهم‭ ‬القريب،‭ ‬يحدد‭ ‬اتجاه‭ ‬مسارهم‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الزمن،‭ ‬ويرصد‭ ‬ما‭ ‬عرض‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬النهوض‭ ‬والارتقاء،‭ ‬وما‭ ‬طرأ‭ ‬عليهم‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬أخر‭ ‬من‭ ‬التراجع‭ ‬والهبوط‭ ‬والانكسار،‭ ‬ليستخرج‭ ‬الذين‭ ‬يستنبطونه‭ ‬منهم،‭ ‬أسباب‭ ‬هذا‭ ‬النهوض‭ ‬وذلك‭ ‬التراجع‭.‬

ثالثًا‭: ‬مصدر‭ ‬موصول‭ ‬ودقيق‭ ‬لأخبار‭ ‬العالم‭ ‬وأحوال‭ ‬الناس،‭ ‬يسجل‭ ‬كل‭ ‬حادثة‭ ‬وواقعة،‭ ‬ويرصد‭ ‬كل‭ ‬تطور،‭ ‬ويعني‭ ‬بذلك‭ ‬علماءهم‭ ‬وأصحاب‭ ‬الرأي‭ ‬فيهم،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يتحركوا‭ ‬إذا‭ ‬تحركوا،‭ ‬وهم‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬صلبة‭ ‬وأساس‭ ‬متين‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬حولهم،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬واد،‭ ‬وتكون‭ ‬حركتهم‭ ‬في‭ ‬واد‭ ‬آخر‭.‬

 

واقعٌ‭ ‬مرير

كان‭ ‬المفكر‭ ‬الكبير‭ ‬د‭. ‬أبوالمجد‭ ‬من‭ ‬كتّاب‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬الدائمين،‭ ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬مقالاته‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬عددها‭ ‬الصادر‭ ‬بعد‭ ‬تحرير‭ ‬الكويت‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬الغزو‭ ‬العراقي‭ ‬الغاشم،‭ ‬وهو‭ ‬مقال‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬العرب‭... ‬هموم‭ ‬وآمال‮»‬،‭ ‬أكد‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬للعرب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭ ‬همومًا‭ ‬كثيرة،‭ ‬بعضها‭ ‬قديم‭ ‬وبعضها‭ ‬جديد،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬مقدمات،‭ ‬فإننا‭ ‬نلمح‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬نُذرًا‭ ‬تبعث‭ ‬على‭ ‬القلق،‭ ‬ولا‭ ‬تسمح‭ ‬للعقلاء‭ ‬بالتفاؤل،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬نرى‭ ‬وسط‭ ‬الغيوم‭ ‬الملبّدة‭ ‬آمالاً‭ ‬تلوح‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬لكنها‭ ‬جميعًا‭ ‬آمال‭ ‬مرهونة‭ ‬بشروط‭ ‬كثيرة‭ ‬ومعلّقة‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬أعمال‭ ‬كبيرة‭ ‬لا‭ ‬تقطع‭ ‬بأننا‭ ‬مؤهلون‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬قادرون‭ ‬عليها‭.‬

ويستطرد‭ ‬قائلاً‭: ‬وعلى‭ ‬رأس‭ ‬الهموم‭ ‬الجديدة‭ ‬همّان‭ ‬كبيران؛‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬الزلزال‭ ‬الذي‭ ‬هزّ‭ ‬البنيان‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬قواعده‭ ‬يوم‭ ‬وقع‭ ‬الغزو‭ ‬العراقي‭ ‬للكويت‭ ‬لم‭ ‬يفلح‭ - ‬فيما‭ ‬نسمع‭ ‬ونرى‭ - ‬في‭ ‬أن‭ ‬ينبّه‭ ‬أكثر‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬غفلتهم،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يجذبهم‭ ‬من‭ ‬عالمهم‭ ‬الضيق‭ ‬الذي‭ ‬حبسوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬فيه،‭ ‬عالم‭ ‬المصالح‭ ‬الضيقة،‭ ‬والمكاسب‭ ‬القريبة،‭ ‬عالم‭ ‬الذهول‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬المرير‭ ‬بالأحلام‭ ‬الحلوة‭ ‬السعيدة،‭ ‬والاستغناء‭ ‬بالكلمة‭ ‬المنمّقة‭ ‬والعبارة‭ ‬المزخرفة،‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الفعل‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يغيّر‭ ‬الواقع‭ ‬ويبدّل‭ ‬الحال‭.‬

أما‭ ‬الهمّ‭ ‬الثاني،‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬غبار‭ ‬حرب‭ ‬الخليج‭ ‬الثانية‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬ينقشع‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬مرير،‭ ‬جوهره‭ ‬تآكل‭ ‬استقلال‭ ‬العرب‭ ‬وتعرّض‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬عديدة‭ ‬لصور‭ ‬متنوعة‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬التبعية‭ ‬لدول‭ ‬كبرى،‭ ‬وهي‭ ‬تبعية‭ ‬يرجع‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬اكتشاف‭ ‬العجز‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬الأمن‭ ‬العربي،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأخطار‭ ‬الخارجية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬قوى‭ ‬عربية‭ ‬شقيقة‭ ‬تمثّل‭ ‬طموحتها‭ ‬وأساليب‭ ‬عملها‭ ‬أخطارًا‭ ‬بالغة‭ ‬على‭ ‬أمن‭ ‬جاراتها‭ ‬وأمن‭ ‬المنطقة‭ ‬كلها‭.‬

وكان‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬‮«‬هناك‭ ‬مظاهر‭ ‬سبعة‭ ‬لانحراف‭ ‬الخطاب‭ ‬الديني‭ ‬السائد‭ ‬الآن‭ ‬عن‭ ‬الإطار‭ ‬المرجعي‭ ‬الثابت‭ ‬للدين‭ ‬الإسلامي‮»‬‭. ‬فها‭ ‬هو‭ ‬يهتف‭ ‬‮«‬المتشددون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬يصدرون‭ ‬في‭ ‬تشددهم‭ ‬عن‭ ‬تصوّر‭ ‬خاطئ‭ ‬لمهمتهم‭ ‬وحدودها‭. ‬فهم‭ ‬يتصورن‭ ‬أنفسهم‭ ‬وصاةً‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬وعلى‭ ‬الناس،‭ ‬وهم‭ ‬لذلك‭ ‬في‭ ‬خوف‭ ‬دائم‭ ‬مقيم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬التيسير‭ ‬على‭ ‬عباد‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬الله‭ ‬وتكاليف‭ ‬الشريعة‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬حذّر‭ ‬مرارًا‭ ‬من‭ ‬الوصاية‭ ‬على‭ ‬الناس،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬ينسى‭ ‬أكثر‭ ‬الدعاة‭ ‬أنهم‭ ‬مبلّغون‭ ‬وليسوا‭ ‬أوصياء‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬إذ‭ ‬تظل‭ ‬الطاعة‭ ‬والمعصية‭ ‬أمورًا‭ ‬منوطة‭ ‬باختيار‭ ‬الأفراد‭ ‬والمكلفين‭... ‬يسألون‭ ‬عنها‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬خالقهم‭ ‬الذي‭ ‬علّمهم‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬لاَ‭ ‬إِكْرَاهَ‭ ‬فِي‭ ‬الدِّينِ‭ ‬قَد‭ ‬تَّبَيَّنَ‭ ‬الرُّشْدُ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْغَيِّ‮»‬‭.‬

 

مداخل‭ ‬الخير‭ ‬والشر

وبيّن‭ ‬أن‭ ‬التشدد‭ ‬لا‭ ‬يغلق‭ ‬أبواب‭ ‬الشر،‭ ‬لكنه‭ ‬يفتحها‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬يتصور‭ ‬المتشددون‭ ‬أن‭ ‬تشددهم‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يقفل‭ ‬أبواب‭ ‬الشر‭ ‬والعوج،‭ ‬وأن‭ ‬يسد‭ ‬الذرائع‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الانفلات‭ ‬من‭ ‬تكاليف‭ ‬الشريعة،‭ ‬وينسون‭ ‬أن‭ ‬سد‭ ‬الذرائع‭ ‬طريق‭ ‬احتياطي‭ ‬من‭ ‬طرق‭ ‬التشريع‭ ‬والإفتاء،‭ ‬وأنه‭ ‬كما‭ ‬يسدّ‭ ‬مداخل‭ ‬الشر،‭ ‬فإنه‭ ‬يفتح‭ ‬أبواب‭ ‬الخير،‭ ‬كما‭ ‬ينسون‭ ‬أن‭ ‬المرجع‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬الأفعال‭ ‬والتصرفات‭ ‬وتحريمها‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬الخالق‭ ‬سبحانه،‭ ‬وأن‭ ‬الوصول‭ ‬في‭ ‬التشديد‭ ‬إلى‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬تحريم‭ ‬الحلال‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬إثمًا‭ ‬عن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬تحليل‭ ‬الحرام،‭ ‬يشهد‭ ‬له‭ ‬ويقرره‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭ ‬‮«‬وَلاَ‭ ‬تَقُولُواْ‭ ‬لِمَا‭ ‬تَصِفُ‭ ‬أَلْسِنَتُكُمُ‭ ‬الْكَذِبَ‭ ‬هَـذَا‭ ‬حَلاَلٌ‭ ‬وَهَـذَا‭ ‬حَرَامٌ‮»‬‭.‬

ويضيف‭ ‬د‭. ‬أبوالمجد‭ ‬قائلاً‭: ‬إن‭ ‬النعمة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬أحيانًا‭ ‬مطوية‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬النقمة،‭ ‬وإن‭ ‬الأزمة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬كل‭ ‬العرب‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بداية‭ ‬حركة‭ ‬واعية‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬نهضة‭ ‬حضارية‭ ‬جديدة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إذا‭ ‬ذكرنا‭ ‬أننا‭ ‬نحمل‭ ‬للعالم‭ ‬حضارة‭ ‬تتوازن‭ ‬فيها‭ ‬جوانب‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني،‭ ‬وتعلو‭ ‬في‭ ‬ظلها‭ ‬قيم‭ ‬الإيثار‭ ‬وتقديم‭ ‬الفضل‭ ‬والعطاء‭ ‬على‭ ‬نوازع‭ ‬الإثرة‭ ‬وعبادة‭ ‬الذات‭ ‬والانشغال‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الأنا‮»‬‭ ‬عن‭ ‬سائر‭ ‬الناس،‭ ‬وهي‭ ‬قيم‭ ‬يعرف‭ ‬العقلاء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬أن‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭ ‬ستشتد‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭.‬

 

أملٌ‭ ‬مشروع

كان،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الخطر‭ ‬على‭ ‬أمتنا‭ ‬كبير،‭ ‬وأن‭ ‬الأمل‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬النهضة‭ ‬الكبرى،‭ ‬وهو‭ ‬أمل‭ ‬قائم‭ ‬ومشروع،‭ ‬لكنه‭ ‬أمل‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬الشروط،‭ ‬والثمن‭ ‬الذي‭ ‬يدفعه‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬وفاءً‭ ‬لهذه‭ ‬الشروط‭ ‬ثمن‭ ‬بخس‭ ‬وضئيل‭ ‬إذا‭ ‬قورن‭ ‬بالهوّة‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬خيارين؛‭ ‬الأول‭ ‬خيار‭ ‬النهضة‭ ‬والصحوة،‭ ‬والثاني‭ ‬خيار‭ ‬الانتكاسة‭ ‬والسقوط،‭ ‬مؤكدًا‭ ‬أن‭ ‬مشكلة‭ ‬شباب‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية‭ ‬الأساسية‭ ‬تكمن‭ ‬في‭: ‬‮«‬أن‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬أكثر‭ ‬الناس‭ ‬فجوة،‭ ‬وبينهم‭ ‬وبين‭ ‬كل‭ ‬الحكومات‭ ‬جفوة،‭ ‬يبدأون،‭ ‬كما‭ ‬يبدأ‭ ‬الدعاة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬ومصر،‭ ‬يعظون‭ ‬ويجادلون،‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬صدور‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬تضيق‭ ‬بما‭ ‬حولهم‭ ‬ومن‭ ‬حولهم،‭ ‬فلا‭ ‬تلبث‭ ‬وجوههم‭ ‬أن‭ ‬تعبس‭ ‬وتكفهرّ،‭ ‬فإذا‭ ‬تمسكهم‭ ‬بما‭ ‬يؤمنون‭ ‬به‭ ‬يتحول‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬عزلة،‭ ‬وإذا‭ ‬حوارهم‭ ‬مع‭ ‬غيرهم‭ ‬يستحيل‭ ‬إلى‭ ‬مشاحنة‭ ‬ومخاشنة‭ ‬ونفره،‭ ‬وإذا‭ ‬إنكارهم‭ ‬على‭ ‬مخالفيهم‭ ‬يجاوز‭ ‬القلب‭ ‬واللسان،‭ ‬ليصير‭ ‬حربًا‭ ‬ساخنة‭ ‬وصدامًا‭ ‬طابعه‭ ‬العنف‭ ‬والشدة،‭ ‬واتهامًا‭ ‬لا‭ ‬مواربة‭ ‬فيه‭ ‬بالكفر‭ ‬والجاهلية‭ ‬والردّة،‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ - ‬ولا‭ ‬بد‭  -‬لحظة‭ ‬صِدام‭ ‬ومواجهة‭ ‬مع‭ ‬الحكومات‭ ‬القائمة،‭ ‬وتراق‭ ‬دماء،‭ ‬ويسقط‭ ‬صرعى‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬غاضبة‭ ‬محمومة،‭ ‬ولا‭ ‬يرتفع‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬للإسلام‭ ‬لواء‮»‬‭.‬

ويرى‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أمل‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬صحوة،‭ ‬ولا‭ ‬رجاء‭ ‬في‭ ‬بعث،‭ ‬ولا‭ ‬جدوى‭ ‬من‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬تقدّم‭ ‬أو‭ ‬تنمية‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬تحركت‭ ‬العقول‭ ‬في‭ ‬الرؤوس‮»‬‭. ‬

 

الوسطية‭ ‬ومحاربة‭ ‬التطرف

كانت‭ ‬له‭ ‬آراء‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬الوسطية‭ ‬ومحاربة‭ ‬التطرف،‭ ‬ومازالت‭ ‬كلماته‭ ‬وأطروحاته‭ ‬الرائعة‭ ‬تنبض‭ ‬بالحياة‭ ‬وتشعّ‭ ‬بالنور‭ ‬في‭ ‬ظلمات‭ ‬تكاد‭ ‬تكتنف‭ ‬أغلب‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الآن‭. ‬وفي‭ ‬مقال‭ ‬له‭ ‬بمجلة‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬عددها‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬عام‭ ‬1993،‭ ‬وجاء‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬أما‭ ‬لهذا‭ ‬الإرهاب‭ ‬من‭ ‬آخر»؟‭ ‬أكد‭ ‬د‭. ‬أبوالمجد‭ ‬أن‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬كله‭ ‬تجتاحه‭ ‬موجة‭ ‬عنف‭ ‬تهزّ‭ ‬أمنه‭ ‬وتزعزع‭ ‬استقراره،‭ ‬وتشغل‭ ‬الأمة‭ ‬كلها‭ ‬بنفسها‭ ‬عن‭ ‬غيرها،‭ ‬وبهذا‭ ‬الهمّ‭ ‬العارض‭ ‬عن‭ ‬همومها‭ ‬الكبرى‭ ‬المتأصلة‭.‬

‭ ‬والحكام‭ ‬إزاء‭ ‬هذه‭ ‬الموجة‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬وقلق‭ ‬وسياساتهم‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬غير‭ ‬واضحة‭ ‬ولا‭ ‬مستقرة،‭ ‬فهم‭ ‬تارة‭ ‬يفسحون‭ ‬الصدر‭ ‬ويحاولون‭ ‬الفهم‭ ‬ويفتحون‭ ‬أبواب‭ ‬الحوار،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬يقابلون‭ ‬العنف‭ ‬بمثله‭ ‬أو‭ ‬أشد،‭ ‬ويدخلون‭ ‬في‭ ‬مواجهات‭ ‬حادة‭ ‬يملكون‭ ‬بدايتها،‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬يتحكمون‭ ‬أبدًا‭ ‬في‭ ‬نهايتها‭.‬

 

الإسلام‭ ‬السياسي

وتحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬دعوة‭ ‬لفض‭ ‬الاشتباك‭ ‬بين‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية‭ ‬والحكومات‮»‬،‭ ‬كتب‭ ‬أبوالمجد‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬أكتوبر‭ ‬1991‭ ‬من‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬قال‭ ‬فيه‭:‬

ليست‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬محاولة‭ ‬جديدة‭ - ‬تضاف‭ ‬إلى‭ ‬محاولات‭ ‬سابقة‭ ‬عديدة‭ - ‬لتحليل‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬يسمّيها‭ ‬البعض‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬السياسي‮»‬،‭ ‬ويسمّيها‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬ظاهرة‭ ‬‮«‬الأصولية‭ ‬الإسلامية‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬نسميها‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬ظاهرة‭ ‬‮«‬الغلو‭ ‬في‭ ‬الدين‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬ظاهرة‭ ‬التطرّف،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ - ‬فيما‭ ‬نرى‭ - ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬مرحلة‭ ‬الوصف‭ ‬والتحليل،‭ ‬وأوشك‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ - ‬في‭ ‬مستواه‭ ‬العملي‭ - ‬مرحلة‭ ‬الأزمة‭ ‬التي‭ ‬تستهلك‭ ‬الطاقة‭.‬

وبدلاً‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬الظاهرة‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬شاركنا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مع‭ ‬أقلام‭ ‬كثيرة،‭ ‬فإننا‭ ‬ندخل‭ ‬إلى‭ ‬الموضوع‭ ‬مباشرة،‭ ‬لنحدد‭ ‬للقارئ‭ ‬المشكلة‭ ‬التي‭ ‬نتحدث‭ ‬عنها‭ ‬والاشتباك‭ ‬الذي‭ ‬ندعو‭ ‬إلى‭ ‬فضّه‭.‬

في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬أدنى‭ ‬مشرقه‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬مغربه،‭ ‬وبدوله‭ ‬العربية‭ ‬وغير‭ ‬العربية‭ ‬موجة‭ ‬تديّن‭ ‬متعاظمة،‭ ‬أكثر‭ ‬المشاركين‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الشباب،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬جموعًا‭ ‬كثيفة‭ ‬ممن‭ ‬تجاوزوا‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة،‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬تديّنهم‭ ‬عند‭ ‬حد‭ ‬الممارسة‭ ‬الشخصية‭ ‬لتعاليم‭ ‬الإسلام‭ ‬ومبادئه‭ ‬وشعائره،‭ ‬وإنما‭ ‬يتجاوزون‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أمور‭ ‬ثلاثة‭ ‬يمارسون‭ ‬بعضها‭ ‬أو‭ ‬يمارسونها‭ ‬جميعًا‭:‬

الأمر‭ ‬الأول‭: ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬إطار‭ ‬الممارسة‭ ‬الذاتية‭ ‬الفردية‭ ‬إلى‭ ‬ميدان‭ ‬الدعوة،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬الإصلاح‭ ‬العام‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الأمر‭ ‬بالمعروف‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬المنكر،‭ ‬وهو‭ ‬خروج‭ ‬ينقلهم‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الممارسة‭ ‬الشخصية‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬العمل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬العام‭.‬

 

برامج‭ ‬إصلاحية

الأمر‭ ‬الثاني‭: ‬التصدي‭ ‬لنقد‭ ‬النظم‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬القائمة‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬تصوّر‭ ‬إسلامي‭ ‬لما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عليه‭ ‬تلك‭ ‬النظم،‭ ‬وبهذا‭ ‬النقد‭ ‬تدخل‭ ‬روافد‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬التيار‭ ‬الإسلامي‭ ‬دائرة‭ ‬‮«‬المعارضة‭ ‬السياسية‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬معارضة‭ ‬غير‭ ‬منظمة‭.‬

الأمر‭ ‬الثالث‭: ‬تنظيم‭ ‬جماعات‭ ‬سياسية‭ ‬ذات‭ ‬برامج‭ ‬إصلاحية‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬إسلامية،‭ ‬وتوجيه‭ ‬نشاط‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات‭ ‬إلى‭ ‬محاولة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬لممارسة‭ ‬التغيير‭ ‬الاجتماعي‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬تلك‭ ‬السلطة‭.‬

ووجّه‭ ‬أبوالمجد‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬مقاله‭ ‬نداء‭ ‬إلى‭ ‬الحكومات‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬بصوت‭ ‬عال‭ ‬لا‭ ‬تردد‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬مجاملة‭ ‬ولا‭ ‬وجل‭: ‬كفّوا‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬‮«‬عصا‭ ‬الأمن‮»‬‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأفكار‭ ‬مادام‭ ‬أصحابها‭ ‬لا‭ ‬يتجاوزون‭ ‬دائرة‭ ‬التعبير‭ ‬الهادئ‭ ‬والدعوة‭ ‬بالكلمة‭ ‬المقروءة‭ ‬والمسموعة،‭ ‬واذكروا‭ ‬أن‭ ‬‮«‬القانون‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الضمان،‭ ‬وهو‭ ‬مصدر‭ ‬الأمان‭ ‬للحكام‭ ‬والمحكومين‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

اذكروا‭ ‬أن‭ ‬تصويب‭ ‬الانحراف‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬بعض‭ ‬روافد‭ ‬التيار‭ ‬الإسلامي‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬إسلامي،‭ ‬ومن‭ ‬أرض‭ ‬تؤمن‭ ‬بالله‭ ‬مرحّبة‭ ‬بنمو‭ ‬الظاهرة‭ ‬الإيمانية‭ ‬ومشجعة‭ ‬لها،‭ ‬أما‭ ‬حين‭ ‬يجري‭ ‬الصدام‭ ‬مع‭ ‬روافد‭ ‬الحركة‭ ‬الإسلامية‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الرفض‭ ‬للتديّن‭ ‬في‭ ‬عمومه،‭ ‬والخصومة‭ ‬المعلنة‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬روافد‭ ‬التيار‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فإن‭ ‬الحكومات‭ - ‬حينئذ‭ - ‬تقع‭ ‬في‭ ‬صدام‭ ‬مع‭ ‬جماهيرها‭ ‬الواسعة،‭ ‬وتدخل‭ ‬تلك‭ ‬الجماهير‭ ‬طرفًا‭ ‬في‭ ‬خصومة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬لها‭ ‬أبدًا‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬المسلك‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬فرص‭ ‬الإصلاح‭ ‬والتقويم،‭ ‬ولابد‭ ‬أن‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬كوارث‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬مداها‭ ‬إلا‭ ‬الله‭.‬

اذكروا‭ ‬أن‭ ‬أكبر‭ ‬خطأ‭ ‬تقعون‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬خطأ‭ ‬التعميم‭ ‬المتعمّد‭ ‬أو‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬تبسيط‭ ‬للأمور‭.‬

وإذا‭ ‬كنتم‭ ‬تحاربون‭ ‬ظواهر‭ ‬العنف‭ ‬والإرهاب‭ ‬والعدوان‭ ‬على‭ ‬حريات‭ ‬الآخرين‭ ‬والتآمر‭ ‬على‭ ‬الأنظمة‭ ‬القائمة‭ ‬وعلى‭ ‬الحكومات،‭ ‬فحذار‭ ‬أن‭ ‬توجهوا‭ ‬الاتهام‭ ‬إلى‭ ‬جميع‭ ‬روافد‭ ‬التيار‭ ‬الإسلامي‭.‬

إنكم‭ ‬بذلك‭ ‬تقفون‭ ‬في‭ ‬خندق‭ ‬خاطئ‭ ‬وتفرضون‭ ‬الخصومة‭ ‬على‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬تيار‭ ‬الإصلاح‭ ‬الأسمى،‭ ‬وتخسرون‭ ‬تعاطف‭ ‬البحر‭ ‬الواسع‭ ‬من‭ ‬جموع‭ ‬المؤمنين،‭ ‬بينما‭ ‬هم‭ - ‬علم‭ ‬الله‭ - ‬لا‭ ‬يقلون‭ ‬عنكم‭ ‬إنكارًا‭ ‬لتشدّد‭ ‬المتشدّدين‭ ‬وغلوّ‭ ‬المغالين‭.‬

 

سعدالدين‭ ‬وأبوالمجد

قال‭ ‬عنه‭ ‬د‭. ‬سعد‭ ‬الدين‭ ‬إبراهيم‭ ‬التقيت‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬كمال‭ ‬أبوالمجد،‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الأمريكية‭ ‬واشنطن،‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬إليها‭ ‬مستشاراً‭ ‬ثقافياً‭ ‬لمصر‭. ‬وتزامن‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬انتخابي‭ ‬رئيساً‭ ‬للطلبة‭ ‬المصريين‭ (‬1963‭ /‬1964‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬رئيساً‭ ‬للطلبة‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وكندا‭ (‬1965‭/‬1966‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬انطوى‭ ‬على‭ ‬تفاعل‭ ‬مُكثف‭ ‬ومُمتد‭ ‬مع‭ ‬الرجل‭. ‬وحوّلتني‭ ‬صراحة‭ ‬د‭. ‬أبوالمجد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬مُتشكك‭ ‬لدود‭ ‬إلى‭ ‬صديق‭ ‬ودود،‭ ‬وهي‭ ‬صداقة‭ ‬نمت‭ ‬وتعمّقت‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأربعة‭ ‬التالية‭.‬

وفي‭ ‬ثلاثة‭ ‬مواقف‭ ‬حرجة‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬كان‭ ‬د‭. ‬أبوالمجد‭ ‬صادقاً‭ ‬أميناً‭ ‬نصوحاً‭. ‬أولها‭ ‬حينما‭ ‬غضب‭ ‬علىّ‭ ‬النظام‭ ‬الناصري،‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬من‭ ‬أشد‭ ‬المؤمنين‭ ‬به،‭ ‬فأنهى‭ ‬بعثتي،‭ ‬وفرض‭ ‬عليّ‭ ‬الحراسة،‭ ‬وطبّق‭ ‬عليّ‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يُعرف‭ ‬وقتها‭ ‬بالعزل‭ ‬السياسي‭. ‬أما‭ ‬الموقف‭ ‬الثاني‭ ‬فكان‭ ‬بعد‭ ‬زيارة‭ ‬للطلبة‭ ‬المصريين‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أدرس‭ ‬فيها،‭ ‬ومُلاحظته‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬الزميلات‭ ‬الأمريكيات‭ ‬اللائي‭ ‬يتحلّقن‭ ‬حولي،‭ ‬وتوجّسه‭ ‬أن‭ ‬أقع‭ ‬في‭ ‬غرام‭ ‬إحداهن‭ ‬وأقترن‭ ‬بها،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تُحمد‭ ‬عُقباه‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬شاب‭ ‬يتطلع‭ ‬لمستقبل‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬مصر‭. ‬ورشّح‭ ‬لي‭ ‬هو‭ ‬فتاة‭ ‬مصرية‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬مُتدينة،‭ ‬وكان‭ ‬والدها‭ ‬بالفعل‭ ‬هو‭ ‬إمام‭ ‬المركز‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭. ‬وهو‭ ‬المشروع‭ ‬الذي‭ ‬أُجهض‭ ‬حينما‭ ‬وقعت‭ ‬الحراسة،‭ ‬وأصبح‭ ‬المستقبل‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬غير‭ ‬مأمون‭. ‬

أما‭ ‬الموقف‭ ‬الثالث‭ ‬فكان‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬قضية‭ ‬مركز‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ (‬2000‭/‬2003‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬تطوّع‭ ‬د‭. ‬أبوالمجد‭ ‬لقيادة‭ ‬فريق‭ ‬الدفاع‭ ‬الذي‭ ‬تكوّن‭ ‬من‭ ‬10‭ ‬مُحامين‭. ‬وأبلى‭ ‬بلاءَ‭ ‬حسنًا،‭ ‬أبكى‭ ‬في‭ ‬أثنائه‭ ‬الجمهور‭ ‬بقاعة‭ ‬المحكمة،‭ ‬وكان‭ ‬دوره‭ ‬حاسماً‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬البراءة‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬محاكم‭ ‬الديار‭ ‬المصرية‭.‬

 

أبوالمجد‭ ‬ومحفوظ

كتب‭ ‬د‭. ‬أبوالمجد‭ ‬مقدمة‭ ‬أول‭ ‬طبعة‭ ‬رسمية‭ ‬لرواية‭ ‬الأديب‭ ‬العالمي‭ ‬الراحل‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬أولاد‭ ‬حارتنا‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬ممنوعة‭ ‬عن‭ ‬الجمهور‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬منذ‭ ‬نشر‭ ‬فصول‭ ‬منها‭ ‬بجريدة‭ ‬الأهرام‭. ‬وقال‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الرواية‭ ‬أحدثت‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬الثقافية‭ ‬دويًّا‭ ‬ظلت‭ ‬أصداؤه‭ ‬تتردد‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬أساء‭ ‬البعض‭ ‬فهمها‭.‬

‭ ‬وكان‭ ‬المغزى‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬توّجت‭ ‬به‭ ‬أحداثها،‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬حين‭ ‬تخلّوا‭ ‬عن‭ ‬الدين‭ ‬ممثلاً‭ ‬في‭ ‬‮«‬الجبلاوي‮»‬،‭ ‬وتصوروا‭ ‬أنهم‭ ‬يستطيعون‭ ‬بالعلم‭ ‬وحده‭ ‬ممثلاً‭ ‬في‭ ‬‮«‬عرفة‮»‬‭ ‬أن‭ ‬يديروا‭ ‬حياتهم‭ ‬على‭ ‬أرضهم‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬حارتنا،‭ ‬واكتشفوا‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬بغير‭ ‬الدين‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬شر،‭ ‬وأنه‭ ‬قد‭ ‬أسلمهم‭ ‬إلى‭ ‬استبداد‭ ‬الحاكم‭ ‬وسلبهم‭ ‬حريتهم،‭ ‬فعادوا‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الجبلاوي‮»‬‭.‬

للمفكر‭ ‬الراحل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المؤلفات‭ ‬العلمية،‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬دستورية‭ ‬القوانين‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ومصر،‭ (‬القاهرة‭/ ‬1960‭)‬،‭ ‬الرقابة‭ ‬القضائية‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬الإدارة،‭ (‬القاهرة‭/ ‬1964‭) ‬النظام‭ ‬الدستوري‭ ‬لدولة‭ ‬الإمارات‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة،‭ (‬القاهرة‭/ ‬1978‭)‬،‭ ‬دراسات‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي،‭ (‬القاهرة‭ - ‬1962‭)‬،‭ ‬حوار‭ ‬لا‭ ‬مواجهة‭ (‬القاهرة‭ /‬1988،‭) ‬رؤية‭ ‬إسلامية‭ ‬معاصرة،‭ (‬القاهرة‭/‬1991‭) 

 

العربي‭ - ‬العدد‭ ‬415‭ - ‬يونيو‭ ‬1993‭ ‬م