الروائي المصري أشرف الخمايسي: الواقع أصلُ كلِّ كتابة والسّفرُ محراث القناعات

الروائي المصري أشرف الخمايسي:  الواقع أصلُ كلِّ كتابة والسّفرُ محراث القناعات

أشرف الخمايسي، قاص ورائي مصري بارز من جيل التسعينيات، لا يحب الأضواء والشهرة ولا التقرب من النقاد ومسؤولي المنابر الثقافية، بل يسعى بإمكاناته الكبيرة أن يبلور أدبًا خالدًا من خلال ثقافة منفتحة ولغة طازجة وأفكار غير تقليدية، عالمه مختلف، وكتاباته لها خصوصيتها وأصالتها وجاذبيتها على الدوام.
هو يقدّس الإنسان إلى أبعد مدى، ويحمل على عاتقه هموم وطنه ومجتمعه، إذ يستند في رؤيته الإبداعية إلى الواقع الذي يعيشه، إنه يجبر قارئه على احترامه منذ الوهلة الأولى، وُلد بمدينة الأقصر عام 1967، صدرت له ثلاث مجموعات قصصية هي: «الجبريلية» (1995)، و«الفرس ليس حرًّا» (2011)، و«أهواك» (2015)، ومجموعة قصصية للأطفال بعنوان «السكاتة» (2013)، كما صدرت له 4 روايات؛ «الصنم» (1999) و«منافي الرب» (2013)، و«انحراف حاد» (2014)، و«ضارب الطبل» (2017)، و«سلسلة رحلات غير عادية» في 4 أجزاء، إضافة إلى كتابين هما «كي أكون إنسانًا أجمل... مشاهد من الحياة» (2016)، و«يوم جديد... رؤى في الحياة والكتب» (2016). فاز عام 1994 بالجائزة الأولى في مسابقة أخبار  الأدب للقصة القصيرة على مستوى الوطن العربي عن قصة «عجلات عربة الكارو الأربع»، ووصلت روايتاه «منافي الرب» و «انحراف حاد» إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، و«انحراف حاد» إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد عام 2015. هو هنا يتحدث لمجلة العربي من خلال هذا الحوار.

‭-‬دخلتَ‭ ‬عالَم‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القصة،‭ ‬ثم‭ ‬الرواية،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عوامل‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬رؤيتك‭ ‬الأدبية؟

‭- ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬طفولة‭ ‬أحدنا‭ ‬هي‭ ‬الفترة‭ ‬الزمنية‭ ‬المؤسسة‭ ‬لتشكيل‭ ‬رؤيته،‭ ‬فأنا‭ ‬عشت‭ ‬طفولة‭ ‬بائسة،‭ ‬لا‭ ‬بسبب‭ ‬فقر،‭ ‬أو‭ ‬يُتم،‭ ‬أو‭ ‬فقد،‭ ‬أو‭ ‬انفصال‭ ‬أبوين،‭ ‬لقد‭ ‬ألحقني‭ ‬أبي‭ ‬بمدرسة‭ ‬الراهبات‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬الابتدائية‭ ‬الخاصة،‭ ‬ذات‭ ‬المصاريف‭ ‬المرتفعة،‭ ‬رغم‭ ‬قلة‭ ‬دخله‭ ‬كرجل‭ ‬يعمل‭ ‬عسكريًّا‭ ‬بسيطًا‭ ‬في‭ ‬شرطة‭ ‬النقل‭ ‬والمواصلات،‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬تلك‭ ‬المدرسة‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬شكّلت‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬رؤاي‭ ‬الحياتية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الأدبية،‭ ‬إنها‭ ‬مدرسة‭ ‬مسيحية،‭ ‬تديرها‭ ‬راهبات‭ ‬مصريات‭ ‬على‭ ‬رأسهن‭ ‬راهبة‭ ‬أجنبية‭ ‬تتحدث‭ ‬العربية‭ ‬بطريقة‭ ‬مضحكة،‭ ‬ولأن‭ ‬معظم‭ ‬التلاميذ‭ ‬مسلمون،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تكلّف‭ ‬شيخًا‭ ‬لتدريس‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬الحصص‭ ‬المحددة‭ ‬لذلك،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يأتينا‭ ‬‮«‬الشيخ‭ ‬متولي‮»‬‭ ‬بزيه‭ ‬الأزهري‭ ‬حتى‭ ‬يخرج‭ ‬التلاميذ‭ ‬المسيحيون‭ ‬من‭ ‬الفصل،‭ ‬دون‭ ‬غضاضة‭ ‬في‭ ‬أنفسهم،‭ ‬أو‭ ‬تعنّت‭ ‬من‭ ‬إدارة‭ ‬المدرسة‭ ‬المسيحية‭!‬

ماذا‭ ‬تكتسب‭ ‬طبيعتك‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬وأنت‭ ‬طفل؟‭ ‬التسامح،‭ ‬التفاهم،‭ ‬قبول‭ ‬الآخر‭ ‬ربما،‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬صفة‭ ‬إنسانية‭ ‬جميلة‭ ‬ستكتسبها‭. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬المدرسة‭ ‬حوض‭ ‬واسع‭ ‬للأسماك‭ ‬الملونة،‭ ‬وكنتُ‭ ‬ولعًا‭ ‬بالوقوف‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬هذا‭ ‬الحوض‭ ‬وتأمل‭ ‬الأسماك،‭ ‬عندما‭ ‬تلتقي‭ ‬بأفواهها‭ ‬كأنها‭ ‬تتبادل‭ ‬القبلات،‭ ‬عندما‭ ‬تسارع‭ ‬إلى‭ ‬فتافيت‭ ‬الطعام‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نلقي‭ ‬بها‭ ‬إليها،‭ ‬حوض‭ ‬سمك‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬نشّأ‭ ‬لديّ‭ ‬حب‭ ‬الكائنات‭ ‬الأخرى،‭ ‬والإحساس‭ ‬بها،‭ ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬الأسماك‭ ‬سعيدة‭ ‬بحوضها،‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬بغريزتها‭ ‬أنه‭ ‬مجرد‭ ‬حوض‭ ‬محدود‭ ‬المساحة،‭ ‬وأن‭ ‬هناك‭ ‬أنهارًا‭ ‬وبحارًا‭ ‬تليق‭ ‬بها،‭ ‬وأنها‭ ‬حبيسة‭ ‬لا‭ ‬لغرض‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مخلوقًا‭ ‬بشريًّا‭ ‬يظن‭ ‬أنه‭ ‬امتلكها،‭ ‬وامتلك‭ ‬جمالياتها؟‭!‬

ستجد‭ ‬في‭ ‬كتاباتي‭ ‬قصصًا‭ ‬كثيرة‭ ‬أبطالها‭ ‬بط،‭ ‬وإوز،‭ ‬وكلاب،‭ ‬وحمير،‭ ‬وقطط،‭ ‬لن‭ ‬تغادر‭ ‬إحدى‭ ‬قصصي‭ ‬أو‭ ‬رواياتي‭ ‬دون‭ ‬التحام‭ ‬بأحاسيس‭ ‬المخلوقات‭ ‬الأخرى‭. ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬مدرسة‭ ‬الفرنسيسكان‭ ‬شجرة‭ ‬خضراء‭ ‬شاهقة،‭ ‬وعصافير‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬الصدح‭. ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬يتيمًا‭ ‬بالمعنى‭ ‬الصريح‭ ‬للكلمة،‭ ‬فأبواي‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬أطال‭ ‬الله‭ ‬عمريهما‭ ‬بخير‭ ‬وبركة،‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬ألزمتني‭ ‬قسوة‭ ‬أبي‭ ‬البُعد‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬أحايين‭ ‬كثيرة،‭ ‬فالحاجز‭ ‬بين‭ ‬الآباء‭ ‬الصعايدة،‭ ‬القرويين‭ ‬خصوصًا،‭ ‬وأبنائهم‭ ‬يمنع‭ ‬التقارب‭ ‬الحميمي،‭ ‬فلا‭ ‬حوارات‭ ‬بسيطة‭ ‬منفتحة‭ ‬بيني‭ ‬وأبي،‭ ‬ولا‭ ‬بيني‭ ‬وأمي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬ردود‭ ‬الفعل‭ ‬القاسية،‭ ‬فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬انطواء‭ ‬نسبيًّا،‭ ‬انعزالاً‭ ‬قلقًا‭ ‬أشبه‭ ‬بما‭ ‬يعانيه‭ ‬اليتيم‭! ‬في‭ ‬البيت‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬تخشى‭ ‬قسوة‭ ‬أبي‭!‬

تأمّل،‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬إنسان‭ ‬يخاف‭ ‬إنسانًا‭ ‬يفترض‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شاطئ‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان‭! ‬كنا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الأقصر،‭ ‬وقد‭ ‬ولدتُ‭ ‬فيها،‭ ‬لكن‭ ‬أصول‭ ‬أبي‭ ‬سوهاجية،‭ (‬من‭ ‬قرية‭ ‬الخمايسة‭ ‬مركز‭ ‬جهينة‭)‬،‭ ‬منحتني‭ ‬فرصة‭ ‬كبيرة‭ ‬لممارسة‭ ‬حريّتي‭ ‬بانطلاق‭ ‬جامح،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬تبدأ‭ ‬عطلة‭ ‬المدارس‭ ‬الصيفية‭ ‬حتى‭ ‬نستقل‭ ‬القطار‭ ‬مغادرين‭ ‬الأقصر‭ ‬إلى‭ ‬الخمايسة،‭ ‬يتركنا‭ ‬أبي‭ ‬هناك‭ ‬لثلاثة‭ ‬شهور،‭ ‬هي‭ ‬الشهور‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأجمل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬سنين‭ ‬طفولتي،‭ ‬البراح،‭ ‬والخضرة،‭ ‬والسباحة‭ ‬في‭ ‬الترع،‭ ‬وركوب‭ ‬الحمير،‭ ‬ورعي‭ ‬الغنم،‭ ‬ومطاردة‭ ‬الدجاج،‭ ‬والبط،‭ ‬والإوز،‭ ‬ومشاهدة‭ ‬الهداهد،‭ ‬والقرادين،‭ ‬والغربان،‭ ‬والحدآن،‭ ‬واليمام،‭ ‬والكروان،‭ ‬ومتابعة‭ ‬الكلاب‭ ‬تطارد‭ ‬الثعالب،‭ ‬واصطياد‭ ‬الضفادع،‭ ‬واللعب‭ ‬في‭ ‬الزروع،‭ ‬والطين‭ ‬نعمل‭ ‬منه‭ ‬طواحين‭ ‬وجرارات‭ ‬وتماثيل،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬غير‭ ‬عصف‭ ‬الريح‭ ‬بعد‭ ‬المغارب،‭ ‬وسن‭ ‬الجبل،‭ ‬وجلسات‭ ‬السمر‭ ‬أمام‭ ‬بوابة‭ ‬بيت‭ ‬عمي،‭ ‬ولعب‭ ‬‮«‬السيجة‮»‬‭ (‬وهي‭ ‬لعبة‭ ‬شعبية‭ ‬من‭ ‬ألعاب‭ ‬الحصى‭ ‬والحجارة،‭ ‬شبيهة‭ ‬بالشطرنج،‭ ‬وتُمارس‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والسودان‭ ‬ودول‭ ‬أخرى‭) ‬تحت‭ ‬جدران‭ ‬مسجد‭ ‬القرية،‭ ‬ولعب‭ ‬الكرة‭ ‬على‭ ‬مشارف‭ ‬القبور،‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬صارت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬مفردات‭ ‬رئيسة‭ ‬قوية،‭ ‬تفرض‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬قصصي‭ ‬ورواياتي‭.‬

‭ ‬‭-‬هل‭ ‬لعبت‭ ‬المصادفة‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬أديبًا؟

‭- ‬ذكرتُ‭ ‬في‭ ‬حوارات‭ ‬سابقة‭ ‬أن‭ ‬قسوة‭ ‬أبي‭ ‬المفرطة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتنتج‭ ‬غير‭ ‬مجرم‭ ‬أو‭ ‬أديب،‭ ‬والمجرم‭ ‬والأديب‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أن‭ ‬لدى‭ ‬كليهما‭ ‬خللًا‭ ‬في‭ ‬التركيبة‭ ‬النفسية،‭ ‬نفس‭ ‬المجرم‭ ‬تحت‭ ‬السويّة،‭ ‬نفس‭ ‬الأديب‭ ‬فوق‭ ‬السويّة‭. ‬والأديب‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬الأدب‭ ‬وفقط،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬القارئ‭ ‬المتذوق‭ ‬للأدب‭ ‬أديب‭ ‬بدوره‭. ‬الأول‭ ‬يعبّر‭ ‬بالكتابة،‭ ‬والثاني‭ ‬يعبّر‭ ‬باستيعاب‭ ‬الكتابة‭. ‬كنت‭ ‬مندفعًا‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬للقراءة،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬قرأته‭ ‬قصص‭ ‬‮«‬ميكي‮»‬،‭ ‬و«سمير‮»‬،‭ ‬و«تان‭ ‬تان‮»‬،‭ ‬وغيرها،‭ ‬كانت‭ ‬قصصًا‭ ‬كاريكاتيرية‭ ‬شائقة،‭ ‬وكانت‭ ‬مهربًا‭ ‬من‭ ‬الأوقات‭ ‬التعسة‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬مجبرًا‭ ‬على‭ ‬قضائها‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬أو‭ ‬المدرسة،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحب‭ ‬المدرسة،‭ ‬لكني‭ ‬أحببت‭ ‬تلك‭ ‬العوالم‭ ‬المرسومة‭ ‬في‭ ‬‮«‬ميكي‮»‬‭ ‬تحديدًا،‭ ‬وكم‭ ‬حلمت‭ ‬بأن‭ ‬لو‭ ‬أمتلك‭ ‬خزينة‭ ‬عم‭ ‬‮«‬دهب‮»‬‭! ‬أو‭ ‬لو‭ ‬أمتلك‭ ‬حبة‭ ‬الفول‭ ‬التي‭ ‬يضعها‭ ‬‮«‬بندق‮»‬‭ ‬في‭ ‬فمه،‭ ‬حين‭ ‬يشتد‭ ‬مأزقه،‭ ‬فيتحول‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬سوبر‭ ‬بندق‮»‬،‭ ‬ويحل‭ ‬مشكلاته‭ ‬بقوة‭ ‬وسهولة‭!‬

مساحات‭ ‬الغابة‭ ‬الخضراء‭ ‬التي‭ ‬يرتع‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬بطوط‮»‬‭ ‬وأولاد‭ ‬أخيه‭ ‬الثلاثة‭ ‬‮«‬لولو‮»‬،‭ ‬و«سوسو‮»‬،‭ ‬و«توتو‮»‬،‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مغامراتهم،‭ ‬وهكذا‭. ‬فتحت‭ ‬لي‭ ‬‮«‬ميكي‮»‬‭ ‬سكة‭ ‬قراءة‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬المغامرين‭ ‬الخمسة‮»‬،‭ ‬و«الشياطين‭ ‬الـ‭ ‬13‮»‬،‭ ‬وأجاثا‭ ‬كريستي،‭ ‬وأرسين‭ ‬لوبين،‭ ‬وألفريد‭ ‬هيتشكوك،‭ ‬ثم‭ ‬دخلت‭ ‬على‭ ‬محمد‭ ‬عبدالحليم‭ ‬عبدالله،‭ ‬والمنفلوطي،‭ ‬والسباعي،‭ ‬وهكذا‭ ‬انفتحت‭ ‬لي‭ ‬أبواب‭ ‬القراءة‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬لأقصر‭ ‬قراءاتي‭ ‬عليه‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭. ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬كتبت‭ ‬أول‭ ‬قصة‭ ‬لي‭.‬

المصادفة‭ ‬لعبت‭ ‬دورًا‭ ‬مؤكدًا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أحترف‭ ‬الكتابة،‭ ‬عندما‭ ‬جلست‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬الحجاج‮»‬‭ ‬بالأقصر،‭ ‬وقد‭ ‬جلس‭ ‬على‭ ‬الأريكة‭ ‬المقابلة‭ ‬لي‭ ‬رئيس‭ ‬نادي‭ ‬أدب‭ ‬الأقصر،‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمود‭ ‬منصور،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفه،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أشياء‭ ‬اسمها‭ ‬نوادي‭ ‬أدب‭! ‬وأن‭ ‬في‭ ‬الأقصر‭ ‬واحدًا‭ ‬منها‭. ‬تعرفت‭ ‬إلى‭ ‬الرجل‭ ‬فدعاني‭ ‬لحضور‭ ‬ندوة‭ ‬الثلاثاء‭ ‬الأسبوعية‭. ‬لتتغير‭ ‬الحياة‭ ‬بعدها‭. ‬دائمًا‭ ‬ما‭ ‬توجد‭ ‬مصادفة‭ ‬تحرّك‭ ‬دفة‭ ‬حياة‭ ‬المرء‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬مخيلته‭ ‬عند‭ ‬بدء‭ ‬الانطلاق‭. ‬

‭-‬هل‭ ‬نشرت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬وروايات؟

‭- ‬نعم،‭ ‬نشرت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬منها،‭ ‬فأنا‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الأدباء‭ ‬السعداء،‭ ‬الذين‭ ‬يكتبون‭ ‬وهم‭ ‬مطمئنون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يكتبونه‭ ‬يجد‭ ‬طريقه‭ ‬للنشر‭ ‬دون‭ ‬إبطاء‭. ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬شيئًا‭ ‬رأيت‭ ‬أنه‭ ‬جدير‭ ‬بالنشر‭ ‬فأرسلته‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬النشر‭ ‬إلا‭ ‬ونُشر‭ ‬دون‭ ‬إبطاء،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الجهات‭ ‬صحافة،‭ ‬أو‭ ‬مجلات،‭ ‬أو‭ ‬دور‭ ‬نشر‭ ‬حكومية،‭ ‬أو‭ ‬قطاع‭ ‬خاص‭. ‬قصصي‭ ‬الأولى‭ ‬نُشرت‭ ‬جميعها‭ ‬في‭ ‬كبريات‭ ‬الصحف‭ ‬المصرية،‭ ‬كالجمهورية،‭ ‬وأخبار‭ ‬اليوم،‭ ‬والأخبار،‭ ‬وأخبار‭ ‬الأدب،‭ ‬ومجلة‭ ‬القصة،‭ ‬ومجلة‭ ‬الثقافة‭ ‬الجديدة‭.‬

 

نصوص‭ ‬وأمكنة

كتبي‭ ‬الأولى‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬أهم‭ ‬سلاسل‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬لقصور‭ ‬الثقافة‭ ‬دون‭ ‬انتظار‭ ‬دور،‭ ‬مع‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لي‭ ‬علاقات‭ ‬أستغلها،‭ ‬وليست‭ ‬لي‭ ‬علاقات‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬ثم‭ ‬تولت‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬الخاصة‭ ‬إصدار‭ ‬أعمالي،‭ ‬ومنها‭ ‬دار‭ ‬‮«‬الحضارة‮»‬،‭ ‬و«منشورات‭ ‬الربيع‮»‬،‭ ‬و«المصرية‭ ‬اللبنانية‮»‬،‭ ‬والآن‭ ‬ناشري‭ ‬هي‭ ‬دار‭ ‬من‭ ‬كبريات‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬أقصد‭ ‬دار‭ ‬‮«‬الشروق‮»‬‭ ‬المصرية،‭ ‬وهناك‭ ‬دار‭ ‬‮«‬كلمات‮»‬‭ ‬الإماراتية،‭ ‬وقد‭ ‬أصدرت‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أعمالي‭ ‬للناشئة،‭ ‬ودور‭ ‬أخرى،‭ ‬ولنأخذ‭ ‬المقالات‭ ‬مثلاً،‭ ‬أنا‭ ‬أنشر‭ ‬بشكل‭ ‬شبه‭ ‬منتظم‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬‮«‬نصوص‭ ‬وأمكنة‮»‬‭ ‬بواحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬وأعرق‭ ‬المجلات‭ ‬القطرية،‭ ‬وهي‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الجسرة‮»‬‭ ‬الثقافية‭. ‬وقد‭ ‬قالت‭ ‬لي‭ ‬إحدى‭ ‬الصديقات‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬تمشي‭ ‬في‭ ‬حمى‭ ‬قلمك‮»‬‭. ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬أنا‭ ‬ممن‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬للقلم‭ ‬من‭ ‬حمى‭ ‬فإن‭ ‬الكاتب‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬توفيق‭ ‬الله،‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬نسبة‭ ‬حظ‭ ‬تدفع‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الشهرة،‭ ‬الشهرة‭ ‬التي‭ ‬تلقي‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬كتاباته‭ ‬فتحيا‭ ‬بكثرة‭ ‬القارئين‭ ‬لها‭. ‬وأنا‭ ‬ممتن‭ ‬لكل‭ ‬جهة‭ ‬نشر‭ ‬ثمّنت‭ ‬ما‭ ‬أكتبه‭ ‬غاليًا‭ ‬فطرحته‭ ‬مطبوعًا‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭. ‬

‭-‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬تؤمن‭ ‬بأن‭ ‬الكتابة‭ ‬الواقعية‭ ‬تُعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الكاتب‭ ‬وتجعله‭ ‬مقروءًا؟

‭- ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬أصل‭ ‬كل‭ ‬كتابة،‭ ‬إذ‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬نصنفه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬أدب‭ ‬الخيال‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الفنتازيا‮»‬،‭ ‬أو،‭ ‬أو،‭ ‬أو‭... ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬مستلهم‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬‮«‬الواقع‮»‬‭ ‬أولًا‭! ‬الأحلام‭ ‬رؤى‭ ‬فانتازية،‭ ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يوجد‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يراها‭ ‬في‭ ‬مناماته؟‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نظنه‭ ‬فانتازيا‭ ‬‮«‬اليوم‮»‬‭ ‬يتقدم‭ ‬العلم‭ ‬‮«‬غدًا‮»‬‭ ‬ليثبت‭ ‬أنه‭ ‬واقع‭ ‬معيش؛‭ ‬الطائرة‭ ‬كانت‭ ‬فانتازيا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬غابر،‭ ‬الكمبيوتر،‭ ‬والموبايل،‭ ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬خيالًا‭ ‬في‭ ‬السابق‭. ‬لكن‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬المقصود‭ ‬بمصطلح‭ ‬‮«‬الكتابة‭ ‬الواقعية‮»‬‭ ‬هو‭ ‬كتابة‭ ‬اليومي‭ ‬الحياتي،‭ ‬فلا‭ ‬أعتقد‭ ‬أنها‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬ستعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الكاتب،‭ ‬أو‭ ‬تضيف‭ ‬لقيمته‭ ‬الإبداعية،‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يكتبها‭ ‬كما‭ ‬يجدر‭ ‬بها،‭ ‬وهكذا‭ ‬أيضًا‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬خيالي‭ ‬بحت،‭ ‬أما‭ ‬لو‭ ‬تكلمنا‭ ‬عن‭ ‬المقروئية،‭ ‬فقوائم‭ ‬الأعلى‭ ‬مبيعًا،‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬تحديدًا،‭ ‬خالية‭ ‬تقريبًا‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الجادة،‭ ‬أو‭ ‬الكتابات‭ ‬الثقيلة،‭ ‬إن‭ ‬المقروئية‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬تتناسب‭ ‬عكسيًا‭ ‬مع‭ ‬القيمة‭! ‬فرواية‭ ‬تافهة،‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬أو‭ ‬سينمائية،‭ ‬أقرب‭ ‬للسيناريو،‭ ‬تبيع‭ ‬طبعات‭ ‬عديدة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬المستوفية‭ ‬لشروط‭ ‬الإبداع‭ ‬تبيع‭ ‬طبعات‭ ‬أقل،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تبيع‭! ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬القاعدة،‭ ‬فلكل‭ ‬قاعدة‭ ‬شواذ،‭ ‬هناك‭ ‬أعمال‭ ‬ثقيلة‭ ‬تحقق‭ ‬مبيعات‭ ‬جيدة،‭ ‬وأعمال‭ ‬تافهة‭ ‬تركد‭ ‬تمامًا‭. ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬المبدع‭ ‬لا‭ ‬يعول‭ ‬على‭ ‬المقروئية‭ ‬الآنية،‭ ‬الفورية،‭ ‬بل‭ ‬يكتب‭ ‬للزمن،‭ ‬يكتب‭ ‬لقراء‭ ‬يعرف‭ ‬أنهم‭ ‬سيوجدون‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العقود،‭ ‬ليظل‭ ‬موجودًا‭ ‬فيما‭ ‬ريح‭ ‬الدهر‭ ‬تذهب‭ ‬بالمدّعين‭.‬

‭-‬في‭ ‬عام‭ ‬2013‭ ‬وصلت‭ ‬روايتك‭ ‬‮«‬منافي‭ ‬الرب‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬القائمة‭ ‬الطويلة‭ ‬للجائزة‭ ‬العالمية‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭ (‬البوكر‭)‬،‭ ‬ورُشحت‭ ‬روايتك‭ ‬‮«‬انحراف‭ ‬حاد‮»‬‭ ‬للقائمة‭ ‬ذاتها‭ ‬عام‭ ‬2015،‭ ‬وتتصدر‭ ‬رواياتك‭ ‬قوائم‭ ‬الأكثر‭ ‬مبيعًا،‭ ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يحول‭ ‬بينك‭ ‬وبين‭ ‬تحويل‭ ‬أعمالك‭ ‬إلى‭ ‬دراما؟

‭- ‬لو‭ ‬أنني‭ ‬كاتب‭ ‬غير‭ ‬مصري،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬عربي،‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬أوربي،‭ ‬أو‭ ‬أمريكا‭ ‬مثلاً،‭ ‬لكانت‭ ‬رواياتي‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬دراما‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬لأنها‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬الجديد‭ ‬المختلف،‭ ‬فيها‭ ‬أفكار‭ ‬غرائبية،‭ ‬وشخصيات‭ ‬يمكن‭ ‬صياغتها‭ ‬أنماطًا‭ ‬إنسانية‭ ‬عالمية،‭ ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الدراما‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬الهزيل،‭ ‬المرتبط‭ ‬بمكبلات‭ ‬تعوق‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬عن‭ ‬الانطلاق،‭ ‬مثل‭ ‬دكتاتورية‭ ‬الأنظمة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬والتسلط‭ ‬العقائدي،‭ ‬والتخلف‭ ‬التقاليدي،‭ ‬فهل‭ ‬يمكن‭ ‬لمثل‭ ‬تلك‭ ‬الدراما‭ ‬البائسة‭ ‬أن‭ ‬تجرؤ‭ ‬على‭ ‬تناول‭ ‬أعمالي‭ ‬بالكاميرا؟‭ ‬لا‭ ‬أظن‭.‬

فالكاميرا‭ ‬تدخل‭ ‬كل‭ ‬بيت،‭ ‬والأعمال‭ ‬التي‭ ‬توقظ‭ ‬الوعي‭ ‬ليس‭ ‬مسموحًا‭ ‬لها‭ ‬بأداء‭ ‬دورها‭ ‬التوعوي‭ ‬في‭ ‬أوطان‭ ‬يحكمها‭ ‬دكتاتوريون‭ ‬يحرصون‭ ‬على‭ ‬إبقاء‭ ‬البيئة‭ ‬الحاضنة‭ ‬لهم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه،‭ ‬بيئة‭ ‬انحطاط‭ ‬الوعي،‭ ‬أو‭ ‬بيئة‭ ‬الإشعاع‭ ‬الزائف،‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬فإن‭ ‬اهتمام‭ ‬بعض‭ ‬المؤسسات‭ ‬الأدبية‭ ‬العربية،‭ ‬‮«‬كيتارا‮»‬‭ ‬مثالاً،‭ ‬بتخصيص‭ ‬جائزة‭ ‬كبيرة‭ ‬لرواية‭ ‬يمكن‭ ‬تقديمها‭ ‬دراميًا،‭ ‬قد‭ ‬يساعد‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬للجيد‭ ‬المتميز،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬طرحه‭ ‬للجماهير‭ ‬بالوسائط‭ ‬المرئية،‭ ‬وأتمنى‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬جائزة‭ ‬‮«‬البوكر‮»‬‭ ‬و«الشيخ‭ ‬زايد‮»‬‭ ‬تنحيان‭ ‬المنحى‭ ‬نفسه‭. ‬

 

إنسان‭ ‬حقيقي‭ ‬

‭-‬كتاباتك‭ ‬بها‭ ‬رشاقة‭ ‬لغوية‭ ‬وسرد‭ ‬ممتع‭ ‬وحكي‭ ‬جذاب،‭ ‬كيف‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬تكوّن‭ ‬ذلك؟

‭- ‬أنا‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬الصعيد‭ ‬المصري،‭ ‬وقلب‭ ‬الصعيد‭ ‬قراه،‭ ‬والقرى‭ ‬حكّاءة‭ ‬بالفطرة،‭ ‬ورشيقة‭ ‬بالطبع،‭ ‬وجذابة‭ ‬بروحها،‭ ‬أنا‭ ‬أباهي‭ ‬بأني‭ ‬إنسان‭ ‬حقيقي،‭ ‬لا‭ ‬زائف‭ ‬ولا‭ ‬متزيّف،‭ ‬لا‭ ‬أستخدم‭ ‬الأقنعة،‭ ‬ولا‭ ‬أستعمل‭ ‬مساحيق‭ ‬التجميل،‭ ‬أعشق‭ ‬الحرية‭ ‬وأدفع‭ ‬ثمنها،‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬صادقًا‭ ‬للغاية‭ ‬سيتسلل‭ ‬التصنع‭ ‬والتجمّل‭ ‬إلى‭ ‬لغتي،‭ ‬ستتراكم‭ ‬الدهون‭ ‬بين‭ ‬ثناياها،‭ ‬لتتحول‭ ‬كتاباتي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬سطور‭ ‬مدعية؛‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬الندرة‭ ‬من‭ ‬كتّابنا‭ ‬استطاعت‭ ‬تناول‭ ‬الكتابة‭ ‬بنُبل‭ ‬وعفّة،‭ ‬وأن‭ ‬أكثرهم‭ ‬اتخذها‭ ‬أثداء‭ ‬يأكل‭ ‬بها،‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬انتشر‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬الثقافية‭ ‬والمجلات‭ ‬الأدبية‭ ‬كأهم‭ ‬مصادر‭ ‬لأكل‭ ‬العيش‭ ‬ماديًّا‭ ‬ومعنويًّا‭! ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬يبحث‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬الوجاهة،‭ ‬وأقربهم‭ ‬للصدق‭ ‬يتعامل‭ ‬معها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬لعبة‭ ‬مسليّة،‭ ‬أو‭ ‬متنفس،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬الكتابة‭ ‬أعز‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التوجهات‭. ‬عمومًا؛‭ ‬السرد‭ ‬مرتبط‭ ‬بشخصية‭ ‬السارد،‭ ‬يتناسب‭ ‬معها‭ ‬طرديًّا،‭ ‬كلما‭ ‬كان‭ ‬السارد‭ ‬حقيقيًا‭ ‬نضّد‭ ‬سردًا‭ ‬حقيقيًا‭.‬

‭-‬ما‭ ‬الذي‭ ‬منحه‭ ‬لك‭ ‬السفر؟‭ ‬وهل‭ ‬تتفق‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬أمر‭ ‬ضروري‭ ‬لعملية‭ ‬الكتابة؟

‭- ‬كل‭ ‬ممارسة‭ ‬حياتية،‭ ‬مهما‭ ‬ضؤُلت،‭ ‬هي‭ ‬رافد‭ ‬لتروية‭ ‬الكتابة،‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬السفر‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬الروافد‭. ‬السفر‭ ‬محراث‭ ‬القناعات،‭ ‬يشق‭ ‬تربة‭ ‬الذهن‭ ‬ويقلبها،‭ ‬فهو‭ ‬ينزع‭ ‬المسافر‭ ‬من‭ ‬ثقة‭ ‬المقيم،‭ ‬واطمئنانه‭ ‬لثوابته،‭ ‬وعمائه‭ ‬عن‭ ‬جماليات‭ ‬موقعه،‭ ‬ويلقي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬شك‭ ‬الغريب‭ ‬وتخوفاته،‭ ‬يثير‭ ‬لديه‭ ‬دهشة‭ ‬التأمل،‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬الاستكشاف،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬به‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬تعدد‭ ‬الرؤى،‭ ‬واتساع‭ ‬حدقة‭ ‬الوعي،‭ ‬ومرونة‭ ‬الفهم،‭ ‬وكلها‭ ‬أمور‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للكتابة‭ ‬الجادة،‭ ‬المستهدفة‭ ‬لإيقاظ‭ ‬الوعي،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬غنى‭ ‬عنها‭. ‬هذا‭ ‬بخلاف‭ ‬أن‭ ‬السفر،‭ ‬ولقاء‭ ‬الآخرين‭ ‬الغرباء،‭ ‬بمنزلة‭ ‬معرض‭ ‬واسع‭ ‬لمئات‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تفتأ‭ ‬تتوالد‭ ‬عبر‭ ‬رحلة‭ ‬السفر‭. ‬

 

المرأة‭ ‬في‭ ‬رواياتي

‭-‬المساحة‭ ‬التي‭ ‬منحتها‭ ‬للمرأة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬منافي‭ ‬الرب‮»‬‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬التي‭ ‬منحتها‭ ‬للرجل،‭ ‬حدثنا‭ ‬عن‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬توجهها‭ ‬للقارئ‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭.‬

‭- ‬أرى‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬والقراء‭ ‬أن‭ ‬المساحة‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬‮«‬منافي‭ ‬الرب‮»‬‭ ‬هي‭ ‬للرجل،‭ ‬لا‭ ‬للمرأة،‭ ‬فإن‭ ‬كانت‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬‮«‬حجيزي‭ ‬الواعري‮»‬،‭ ‬مهيمنة‭ ‬على‭ ‬النص،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬شخصيتي‭ ‬‮«‬سعدون‮»‬‭ ‬و‮«‬غنيمة‮»‬‭ ‬شخصيتان‭ ‬رئيستان‭ ‬تحوزان‭ ‬بدوريهما‭ ‬مساحات‭ ‬كبيرة‭ ‬منه،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬شخصيات‭ ‬نسائية‭ ‬تستطيع‭ ‬توصيفها‭ ‬بالرئيسة‭ ‬غير‭ ‬سريرة‭ ‬زوجة‭ ‬حجيزي،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬بقية‭ ‬الشخصيات‭ ‬النسائية‭ ‬فاعلة‭ ‬أيضًا،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تحتل‭ ‬مساحات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬النص،‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬المرأة‭ ‬هي‭ ‬قلب‭ ‬وروح‭ ‬رواية‭ ‬منافي‭ ‬الرب،‭ ‬تثمّن‭ ‬دور‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الرجل‭ ‬غاليًا،‭ ‬فكل‭ ‬انهزامات‭ ‬رجال‭ ‬الرواية‭ ‬كانت‭ ‬بسبب‭ ‬فقدان‭ ‬حب‭ ‬امرأة،‭ ‬وكانت‭ ‬نصيحة‭ ‬حجيزي‭ ‬لابنه‭ ‬بكير،‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬احتضاره،‭ ‬أن‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬امرأة‭ ‬تحبه،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يلقي‭ ‬بنفسه‭ ‬في‭ ‬منافي‭ ‬الرب،‭ ‬وعندما‭ ‬سأل‭ ‬بكير‭ ‬والده‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬‮«‬منافي‭ ‬الرب‮»‬‭ ‬أجابه‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬الحزن‮»‬‭.‬

إذن‭ ‬الحزن‭ ‬رفيق‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬عهدة‭ ‬امرأة‭ ‬تحبه‭. ‬ربما‭ ‬هذه‭ ‬إحدى‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬توجهها‭ ‬الرواية‭ ‬لقارئها،‭ ‬ومع‭ ‬علمي،‭ ‬ككاتب‭ ‬للرواية،‭ ‬بمجموع‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬أود‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬قارئ‭ ‬‮«‬منافي‭ ‬الرب‮»‬‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬سبر‭ ‬أغوارها‭ ‬جميعًا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬ألا‭ ‬يصرح‭ ‬الكاتب‭ ‬بفحوى‭ ‬رسائله،‭ ‬ليترك‭ ‬للقارئ‭ ‬مساحة‭ ‬لا‭ ‬نهائية‭ ‬يُطلق‭ ‬فيها‭ ‬تأويلاته‭ ‬وأفهامه‭ ‬هو‭ ‬بخصوص‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي،‭ ‬فمن‭ ‬عجائب‭ ‬الإبداع‭ ‬أن‭ ‬قارئه‭ ‬قد‭ ‬يستطيع‭ ‬استيلاد‭ ‬معانٍ‭ ‬ورؤى‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتخطر‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬الكاتب‭ ‬فيما‭ ‬يسطر‭ ‬عالمه‭ ‬على‭ ‬أوراقه‭. ‬أما‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬هيمنت‭ ‬المرأة‭ ‬على‭ ‬مساحات‭ ‬شاسعة‭ ‬منها‭ ‬فهي‭ ‬روايتي‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬حديثًا‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الشروق،‭ ‬‮«‬ضارب‭ ‬الطبل‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬خضرة‭ ‬محمد‭ ‬علوان‮»‬‭ ‬بطلتها‭ ‬الرئيسة،‭ ‬دون‭ ‬منازع‭. ‬

‭-‬متى‭ ‬ينتهي‭ ‬مشروعك‭ ‬الأدبي‭ ‬من‭ ‬معالجة‭ ‬فكرة‭ ‬الموت‭ ‬والانتصار‭ ‬عليه؟‭ ‬ولماذا‭ ‬الخلود‭ ‬بالتحديد‭ ‬هو‭ ‬قضيتك‭ ‬الكبرى؟

‭- ‬الخلود‭ ‬ليس‭ ‬قضيتي‭ ‬وحدي،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬قضية‭ ‬المفكرين‭ ‬والفلاسفة‭ ‬والأدباء‭ ‬وحدهم،‭ ‬إنه‭ ‬قضية‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬زيّ،‭ ‬وبأي‭ ‬عقيدة،‭ ‬ومع‭ ‬أي‭ ‬انتماء،‭ ‬الخلود‭ ‬هو‭ ‬حلم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬مصيره‭ ‬الفناء،‭ ‬وكلّنا‭ ‬فانون،‭ ‬والفانون‭ ‬معذبون‭ ‬بانتظار‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تحيلهم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬إلى‭ ‬عدم،‭ ‬من‭ ‬بارفانات‭ ‬العطور‭ ‬إلى‭ ‬عفن‭ ‬القبور،‭ ‬من‭ ‬الونَس‭ ‬والأُنس‭ ‬إلى‭ ‬الوحدة‭ ‬المطلقة،‭ ‬من‭ ‬التوهج‭ ‬إلى‭ ‬الانطفاء،‭ ‬إنها‭ ‬نهاية‭ ‬شديدة‭ ‬الإرباك،‭ ‬ويبقى‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬تمنحنا‭ ‬الخلود،‭ ‬الدينيون‭ ‬يشيرون‭ ‬إلى‭ ‬طريقة،‭ ‬والعلمانيون‭ ‬يشيرون‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬ورحلة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬الفرد‭ ‬خلية‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬الإنسانية،‭ ‬الخلية‭ ‬تهلك،‭ ‬لكن‭ ‬الجسد‭ ‬أطول‭ ‬بقاء‭ ‬وعمرانًا،‭ ‬ولقد‭ ‬كتبت‭ ‬أربع‭ ‬روايات‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬الترتيب،‭ ‬‮«‬الصنم‮»‬‭ ‬و«منافي‭ ‬الرب‮»‬‭ ‬و«انحراف‭ ‬حاد‮»‬‭ ‬و«ضارب‭ ‬الطبل‮»‬،‭ ‬جميعها‭ ‬اهتم‭ ‬بفكرة‭ ‬الخلود‭ ‬ومجابهة‭ ‬الموت،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬مشروعًا‭ ‬سرديًّا‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬فكريًّا‭ ‬أيضًا،‭ ‬وربما‭ ‬أزعم‭ ‬أنها‭ ‬أسست‭ ‬لما‭ ‬أسماه‭ ‬البعض‭ ‬بالرواية‭ ‬الفلسفية،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتفلسف‭ ‬عميقًا،‭ ‬وإنما‭ ‬فلسفة‭ ‬بسيطة‭ ‬تناسب‭ ‬أشخاصًا‭ ‬بسطاء‭ ‬يعيشون‭ ‬حياة‭ ‬غير‭ ‬مفتعلة‭. ‬سينتهي‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬برواية‭ ‬أخيرة‭ ‬كتبت‭ ‬بعضًا‭ ‬منها،‭ ‬لكني‭ ‬أجّلت‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬كتابتها‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬يعلمه‭ ‬الله،‭ ‬فهي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ناضجة‭ ‬بما‭ ‬يليق‭ ‬بنهاية‭ ‬موضوع‭ ‬عظيم‭. ‬

‭-‬اعتزلت‭ ‬الكتابة‭ ‬والأدباء‭ ‬لمدة‭ ‬10‭ ‬سنوات،‭ ‬وخلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬الطويلة‭ ‬عملت‭ ‬سائقًا‭ ‬وبقالاً‭ ‬وراعيًا‭ ‬للغنم،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬لهذه‭ ‬المهن‭ ‬تأثير‭ ‬إيجابي‭ ‬على‭ ‬إبداعاتك؟

‭- ‬المفارقة‭ ‬هي‭ ‬أنني‭ ‬اعتزلت‭ ‬الكتابة‭ ‬بسبب‭ ‬حادثة‭ ‬عندما‭ ‬أنظر‭ ‬إليها‭ ‬الآن‭ ‬أرى‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬على‭ ‬بشاعة‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬من‭ ‬حوادث‭ ‬آنية،‭ ‬تركت‭ ‬الكتابة‭ ‬10‭ ‬سنوات‭ ‬لأن‭ ‬المثقفين‭ ‬لم‭ ‬يتخذوا‭ ‬موقفًا‭ ‬قويًّا‭ ‬من‭ ‬مصرع‭ ‬الطفل‭ ‬الفلسطيني‭ ‬محمد‭ ‬الدرة‭ ‬على‭ ‬حِجر‭ ‬أبيه،‭ ‬برصاص‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني،‭ ‬وقد‭ ‬حرّك‭ ‬هذا‭ ‬المشهد،‭ ‬المبثوث‭ ‬على‭ ‬الهواء‭ ‬مباشرة‭ ‬وقتها،‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬وفي‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬فناني‭ ‬ومطربي‭ ‬ومحامي‭ ‬وصحفيي‭ ‬مصر‭ ‬يسجلون‭ ‬اعتراضهم‭ ‬بأوبريتات‭ ‬وأغانٍ‭ ‬ووقفات‭ ‬على‭ ‬سلالم‭ ‬النقابات،‭ ‬ظل‭ ‬الأدباء‭ ‬في‭ ‬جحورهم‭ ‬الكتابية،‭ ‬لا‭ ‬صوت‭ ‬مسموعًا‭ ‬لهم،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬اتحادًا‭ ‬للكتاب‭ ‬لدينا‭! ‬هذا‭ ‬الاتحاد‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬إلا‭ ‬أخيرًا‭ ‬في‭ ‬ثورة‭ ‬25‭ ‬يناير‭! ‬بعد‭ ‬السلفيين‭ ‬والإخوان‭! ‬

الآن‭ ‬لا‭ ‬تلزم‭ ‬نخبة‭ ‬المثقفين‭ ‬الصمت،‭ ‬بل‭ ‬تشارك‭ ‬بإيجابية‭ ‬في‭ ‬الحط‭ ‬من‭ ‬أقدار‭ ‬أوطانها،‭ ‬وزيادة‭ ‬قبضة‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬على‭ ‬شعوبها،‭ ‬النخب‭ ‬المثقفة‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬تستدعي‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية،‭ ‬وتساهم‭ ‬في‭ ‬حياكة‭ ‬المؤامرات،‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬انتخابات‭ ‬نزيهة،‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الانتخابات‭ ‬النزيهة‭ ‬تأتي‭ ‬بما،‭ ‬وبمن،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬هواها‭ ‬الفكري‭! ‬وحجتها‭ ‬المزعومة‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يتعاطى‭ ‬معها،‭ ‬لأنها‭ ‬تواكب‭ ‬نغمة‭ ‬يعزفها‭ ‬ماكرو‭ ‬السياسة‭ ‬وأرباب‭ ‬الاحتلال‭ ‬ذي‭ ‬النوعية‭ ‬الجديدة،‭ ‬نغمة‭ ‬أن‭ ‬الإسلاميين‭ ‬إذا‭ ‬كانوا‭ ‬سياسيين‭ ‬فهم‭ ‬إرهابيون‭ ‬بالضرورة‭! ‬وعلينا‭ ‬عزلهم‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬مؤثر،‭ ‬واستخدامهم‭ ‬فقط‭ ‬كفزّاعات،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تخويف‭ ‬الشعوب‭ ‬بهم‭ ‬يتم‭ ‬حكمها،‭ ‬وبأبشع‭ ‬الأساليب‭ ‬القهرية‭ ‬استبدادًا‭! ‬عندما‭ ‬صورت‭ ‬الكاميرات‭ ‬مشهدًا‭ ‬واحدًا‭ ‬بائسًا‭ ‬للطفل‭ ‬الفلسطيني‭ ‬محمد‭ ‬الدرة،‭ ‬اعتزلتُ‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية،‭ ‬وعدت‭ ‬مع‭ ‬ثورة‭ ‬25‭ ‬يناير‭ ‬آملًا‭ ‬في‭ ‬مستقبل‭ ‬حقيقي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬خفافيش‭ ‬الظلام،‭ ‬وعدم‭ ‬وعي‭ ‬الشعب،‭ ‬قلبا‭ ‬المنضدة‭ ‬إلى‭ ‬وضعها‭ ‬الأول،‭ ‬وصورت‭ ‬الكاميرات‭ ‬عشرات‭ ‬الصور‭ ‬البائسة‭ ‬لأطفال‭ ‬سوريين،‭ ‬وعراقيين،‭ ‬ويمنيين،‭ ‬وليبيين،‭ ‬وارتفعت‭ ‬وتيرة‭ ‬المنادين‭ ‬بالتطبيع‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني،‭ ‬الذي‭ ‬أرسل‭ ‬لنا‭ ‬أخيرًا‭ ‬رسالة‭ ‬بليغة‭ ‬باحتفاله‭ ‬بمرور‭ ‬70‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬قيامه‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬ميدان‭ ‬‮«‬التحرير‮»‬‭ ‬الثوري،‭ ‬وبالتنسيق‭ ‬مع‭ ‬أصل‭ ‬الحل‭ ‬والعقد‭! ‬

بعض‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬تطبّع‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬بعضها‭ ‬يحاصر‭ ‬شقيقة‭ ‬عربية‭! ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬تنخذل‭ ‬بفعل‭ ‬فاعل،‭ ‬ولم‭ ‬أغادر‭ ‬الكتابة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭! ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬المشهد‭ ‬أبشع‭ ‬بمراحل‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الألفية،‭ ‬لقد‭ ‬صرت‭ ‬بليدًا‭ ‬ربّما،‭ ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬فائدة‭ ‬تحققت‭ ‬بابتعادي،‭ ‬وربما‭ ‬هوس‭ ‬الكتابة‭ ‬يظل‭ ‬يلازم‭ ‬الكتّاب‭ ‬مهما‭ ‬نأوا‭ ‬بأنفسهم‭ ‬حتى‭ ‬يستعيدهم‭ ‬إلى‭ ‬جنونه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬وبالطبع،‭ ‬وكما‭ ‬ذكرتُ‭ ‬سابقًا،‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الأمور‭ ‬الحياتية‭ ‬تضيف‭ ‬للكاتب‭ ‬ثمينًا،‭ ‬لقد‭ ‬عملت‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬10‭ ‬وظائف‭ ‬ومهن‭ ‬مختلفة،‭ ‬مما‭ ‬أضاف‭ ‬لي‭ ‬زخمًا‭ ‬شعوريًّا‭ ‬ومعرفيًّا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬نفي‭ ‬جدوى‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب،‭ ‬فإن‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها‭ ‬هي‭ ‬أصدق‭ ‬وأغنى‭ ‬وأنفع‭ ‬كتاب‭ ‬يمكن‭ ‬للأديب‭ ‬قراءته‭. ‬

 

آفة‭ ‬الكتابة

‭-‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يميّزك‭ ‬عن‭ ‬أبناء‭ ‬جيلك؟

‭- ‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬آفة‭ ‬تفسد‭ ‬صلاحه،‭ ‬وآفة‭ ‬الكتابة‭ ‬هي‭ ‬أنها‭ ‬تغر‭ ‬بعض‭ ‬ممارسيها‭ ‬فيعتقدون‭ ‬أنهم‭ ‬صاروا‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬يوحى‭ ‬إليهم‭ ‬الإبداع‭ ‬دون‭ ‬غيرهم،‭ ‬ويجيدون‭ ‬التعبير‭ ‬بهذا‭ ‬الحرف‭ ‬السحري،‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬يدب‭ ‬إليهم‭ ‬الشعور‭ ‬بأنهم‭ ‬المتميزون،‭ ‬وأنه‭ ‬قد‭ ‬وجب‭ ‬عليهم‭ ‬التزيّي‭ ‬بمسوح‭ ‬تمنحهم‭ ‬القداسة‭ ‬أمام‭ ‬القراء،‭ ‬فيضعون‭ ‬الأقنعة‭ ‬على‭ ‬وجوههم‭ ‬وطباعهم،‭ ‬ويتجملون‭ ‬بما‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬طباعهم‭ ‬الأصيلة،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يصيرون‭ ‬مبدعين،‭ ‬وإنما‭ ‬مدّعين‭.‬

وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬فنيات‭ ‬الكتابة،‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬وفكرة‭ ‬وبناء‭ ‬وأسلوب،‭ ‬والتي‭ ‬قد‭ ‬يحدد‭ ‬النقاد‭ ‬الأكاديميون‭ ‬وحدهم‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬أنا‭ ‬أفارق‭ ‬كتّاب‭ ‬جيلي‭ ‬بخصوصها،‭ ‬فأنا‭ ‬أحاول‭ ‬بناء‭ ‬نفسي‭ ‬كإنسان‭ ‬وُلد‭ ‬حرًّا،‭ ‬وعاش‭ ‬معظم‭ ‬عمره‭ ‬حرًّا،‭ ‬ويرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يرحل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬حرًّا،‭ ‬أنا‭ ‬أطيح‭ ‬بأي‭ ‬عمل‭ ‬يقيدني،‭ ‬وبأي‭ ‬صداقة‭ ‬تقيدني،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬بعضهم‭ ‬يراني‭ ‬شاذًّا‭ ‬غريب‭ ‬الأطوار‭!‬

فكيف‭ ‬لأديب‭ ‬يحيا‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬متحقق‭ ‬مثلي،‭ ‬نجح‭ ‬نجاحًا‭ ‬واضحًا،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يغادر‭ ‬بيته‭ ‬لمناطق‭ ‬التلميع‭ ‬وبناء‭ ‬العلاقات‭ ‬وتحقيق‭ ‬الاتصالات‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬البلد،‭ ‬كمقهى‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬البستان‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الأتيليه‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الجريون‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬غيرها؟‭ ‬ربما‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬يميزني‭ ‬عن‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬هو‭ ‬النجاح‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬التربيطات،‭ ‬والشلل،‭ ‬والمؤسسات‭. ‬مما‭ ‬يشير‭ ‬بشكل‭ ‬مؤكد‭ ‬إلى‭ ‬تميّز‭ ‬ما‭ ‬أكتبه،‭ ‬وإلا‭ ‬لما‭ ‬وجد‭ ‬طريقه‭ ‬للناشرين‭ ‬والقراء،‭ ‬واحتفى‭ ‬به‭ ‬الدارسون‭ ‬والنقاد‭. ‬

‭-‬أنت‭ ‬لم‭ ‬تقرأ‭ ‬كثيرًا،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬يدقق‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬أعمالك‭ ‬يشعر‭ ‬أنك‭ ‬قرأت‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والروايات‭!‬

‭- ‬من‭ ‬يقولون‭ ‬إن‭ ‬الخمايسي‭ ‬لم‭ ‬يقرأ‭ ‬كثيرًا‭ ‬هم‭ ‬مغرضون‭ ‬بالسليقة،‭ ‬وما‭ ‬أبدعه‭ ‬يكذبهم،‭ ‬لقد‭ ‬قلتُ‭ ‬تحديدًا‭: ‬إنني‭ ‬لم‭ ‬أقرأ‭ ‬‮«‬روايات‭ ‬كثيرة‮»‬‭. ‬فأنا‭ ‬كروائي‭ ‬لا‭ ‬أفضّل‭ ‬قراءة‭ ‬روايات‭ ‬الآخرين،‭ ‬ليس‭ ‬لأني‭ ‬لا‭ ‬أحترمها،‭ ‬وإنما‭ ‬خشية‭ ‬التأثر‭ ‬بأفكارها‭. ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬رغبتُ‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬فكرة‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ ‬غيري‭ ‬وقد‭ ‬قرأت‭ ‬ما‭ ‬كتبه؟‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنني‭ ‬سأرتبك‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الكتابة،‭ ‬لأن‭ ‬الخوف‭ ‬سيلازمني‭ ‬من‭ ‬التناص‭ ‬مع‭ ‬الروائي‭ ‬الآخر‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬فكرة‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ ‬غيري‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬لم‭ ‬أقرأ‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭. ‬فكل‭ ‬منّا‭ ‬يقدم‭ ‬نظرته‭ ‬التي‭ ‬تخصه‭ ‬عن‭ ‬الفكرة‭ ‬نفسها‭. ‬لهذا‭ ‬أنا‭ ‬أقرأ‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬أخرى‭ ‬أرى‭ ‬أنها‭ ‬أهم‭ ‬للمبدع،‭ ‬كالتاريخ،‭ ‬والأديان،‭ ‬والاجتماع،‭ ‬ومجلات‭ ‬الإثارة،‭ ‬وكتب‭ ‬الطبيخ،‭ ‬والسحر،‭ ‬والجنس،‭ ‬وعلى‭ ‬أحدنا‭ ‬ألا‭ ‬يخشى‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الرديء‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬هاضمته‭ ‬قوية،‭ ‬لأن‭ ‬في‭ ‬الرديء‭ ‬أمورًا‭ ‬يحتاج‭ ‬إليها‭ ‬المبدع‭ ‬لن‭ ‬يجدها‭ ‬في‭ ‬الجيد‭.‬

 

أنا‭ ‬والنقاد

‭-‬علاقتك‭ ‬مع‭ ‬النقاد‭... ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬تتجه؟

‭- ‬ليست‭ ‬لي‭ ‬علاقة‭ ‬شخصية‭ ‬مع‭ ‬النقاد،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يحرص‭ ‬أحدهم‭ ‬على‭ ‬تكوين‭ ‬علاقة‭ ‬شخصية‭ ‬معي،‭ ‬لأن‭ ‬العلاقة‭ ‬على‭ ‬الحقيقة‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬بين‭ ‬الكاتب‭ ‬والناقد،‭ ‬وإنما‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬الإبداعي‭ ‬ورؤية‭ ‬الناقد،‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬سامية‭ ‬ونزيهة‭ ‬سموّ‭ ‬ونزاهة‭ ‬القضاء،‭ ‬تفنيد‭ ‬النص‭ ‬بعدالة،‭ ‬والحكم‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬معطياته‭ ‬الفنية،‭ ‬لا‭ ‬بمعطيات‭ ‬كاتبه‭ ‬الشخصية‭.‬

وقد‭ ‬تناول‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬النقاد‭ ‬أعمالي‭ ‬الإبداعية‭ ‬بالدراسة،‭ ‬منهم،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم،‭ ‬وحسين‭ ‬عيد،‭ ‬وفريدة‭ ‬النقاش،‭ ‬وصبري‭ ‬حافظ،‭ ‬وعلاء‭ ‬الديب،‭ ‬ومن‭ ‬الجيل‭ ‬الأحدث‭ ‬أحمد‭ ‬الصغير،‭ ‬وعايدي‭ ‬جمعة،‭ ‬وخالد‭ ‬البوهي،‭ ‬وحسام‭ ‬عقل،‭ ‬ومن‭ ‬شباب‭ ‬النقاد‭ ‬مثل‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬عزب‭ ‬ورضوى‭ ‬الأسود،‭ ‬وكثيرون‭ ‬غيرهم‭ ‬مشكورين‭.‬

لكن‭ ‬دعني‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬لا‭ ‬يعير‭ ‬اهتمامًا‭ ‬خالصًا‭ ‬للنص،‭ ‬فقد‭ ‬يسمع‭ ‬أحدهم‭ ‬عن‭ ‬ظهور‭ ‬نص‭ ‬مختلف،‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعيره‭ ‬اهتمامًا،‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬كاتب‭ ‬النص‭ ‬لم‭ ‬يتقدم‭ ‬إليه‭ ‬بنسخة‭ ‬شخصية‭ ‬ممهورة‭ ‬بإهداء‭ ‬فيه‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬التزلّف‭ ‬للناقد،‭ ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬مبدع‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬النوعية‭ ‬المتسامية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتودد‭ ‬إلى‭ ‬وسطها‭ ‬الأدبي‭ ‬الشامل‭ ‬للنقاد،‭ ‬أو‭ ‬مبدع‭ ‬من‭ ‬نوعيتي،‭ ‬محب‭ ‬لاستعراض‭ ‬قدراته‭ ‬الإبداعية‭ ‬على‭ ‬صفحته‭ ‬بشبكة‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ومنح‭ ‬نفسه‭ ‬ما‭ ‬يليق‭ ‬بها،‭ ‬دون‭ ‬انتظار‭ ‬لتقييم‭ ‬ناقد‭ ‬أو‭ ‬قارئ‭.‬

جميع‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬تجعل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬ينفرون‭ ‬من‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬فارقًا،‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بالناقد‭ ‬الأكاديمي‭ ‬المحترم،‭ ‬الذي‭ ‬يفهم‭ ‬أن‭ ‬المؤلف‭ ‬ميّت‭ ‬بالنسبة‭ ‬له،‭ ‬وأن‭ ‬الحي‭ ‬هو‭ ‬النص‭. ‬وعلى‭ ‬أي‭ ‬حال‭ ‬لست‭ ‬قلقًا‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬هذا‭ ‬البعض‭ ‬منهم،‭ ‬ففي‭ ‬الأزمنة‭ ‬القادمة‭ ‬بعد‭ ‬رحيلي،‭ ‬ورحيل‭ ‬النقاد‭ ‬المجايلين،‭ ‬سيظهر‭ ‬نقاد‭ ‬لن‭ ‬يلتفتوا‭ ‬إلا‭ ‬لنصي،‭ ‬وإن‭ ‬انتبهوا‭ ‬لشخصي‭ ‬سيمجدون‭ ‬تعفّفي‭ ‬وجنوني،‭ ‬حتى‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬أصير‭ ‬رمزًا‭ ‬لقيمة‭ ‬إنسانية‭ ‬محترمة،‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أموت‭ ‬أولًا‭!‬

‭-‬لماذا‭ ‬تحب‭ ‬الضجيج‭ ‬والصخب؟

‭- ‬لأن‭ ‬الحياة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مقدارين‭ ‬كبيرين‭ ‬من‭ ‬الضجيج‭ ‬والصخب‭ ‬مُزجا‭ ‬بمقدارين‭ ‬ضئيلين‭ ‬من‭ ‬الهدوء‭ ‬والسكون،‭ ‬ومع‭ ‬احترامي‭ ‬للموت‭ ‬فإني،‭ ‬كأي‭ ‬إنسان‭ ‬طبيعي،‭ ‬محبّ‭ ‬للحياة‭. ‬والحياة‭ ‬الحقيقية‭ ‬ليست‭ ‬مقيدة‭ ‬بأقنعة،‭ ‬إنها‭ ‬انطلاق،‭ ‬ومن‭ ‬النواتج‭ ‬المحتمة‭ ‬لأي‭ ‬انطلاق‭ ‬الضجيج‭ ‬والصخب‭. ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬ضجيج‭ ‬وصخب‭ ‬فأنا‭ ‬حيّ‭ ‬وفعال‭.‬

‭-‬روايتك‭ ‬الصادرة‭ ‬أخيرًا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬جو‭ ‬العظيم‮»‬‭... ‬حدثنا‭ ‬عنها،‭ ‬وعن‭ ‬كتاباتك‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬المقبلة‭.‬

‭- ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الشروق،‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬مشروع‭ ‬الخلود،‭ ‬بل‭ ‬تناقش‭ ‬قضايا‭ ‬أخرى‭ ‬معاصرة،‭ ‬تلمسنا‭ ‬وتؤثر‭ ‬في‭ ‬وعينا،‭ ‬وأنا‭ ‬أعتبرها‭ ‬تجربة‭ ‬جديدة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ،‭ ‬وأتمنى‭ ‬أن‭ ‬تلقى‭ ‬قبولاً‭ ‬مميزًا‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬والنقاد‭.‬

أما‭ ‬كتاباتي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬المقبلة‭ ‬فسأذهب‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الأهمية،‭ ‬حيث‭ ‬مناقشة‭ ‬أصولنا‭ ‬الإسلامية‭ ‬وطبائعنا‭ ‬العربية،‭ ‬فالملحوظ‭ ‬أننا،‭ ‬ككتّاب‭ ‬ومبدعين،‭ ‬نبتعد‭ ‬إبداعيًّا‭ ‬رويدًا‭ ‬رويدًا‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المنابع،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬مليئة‭ ‬بما‭ ‬يجب‭ ‬الاشتباك‭ ‬معه‭ ‬لفهمه،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أساس‭ ‬الاشتباك‭ ‬حب‭ ‬تلك‭ ‬المنابع‭ ‬التي‭ ‬تمنحنا‭ ‬تميزنا،‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬صيانتها‭ ‬لتعود‭ ‬دافقة،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬نكتب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تجفيفها،‭ ‬فيكون‭ ‬المصير‭ ‬انزواء‭ ‬عروبتنا‭ ‬لمصلحة‭ ‬عالم‭ ‬تقوده‭ ‬أفكار‭ ‬صهيونية‭ ‬غير‭ ‬خافية‭. ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬النّهر‭ ‬شِراك‭ ‬مدسوسة‭ ‬في‭ ‬طعوم،‭ ‬وعلينا‭ ‬ألا‭ ‬نكون‭ ‬أسماكًا‭ ‬‭.