كلية السلطان محمد الفاتح في إسطنبول.. العمارة في خدمة المجتمع
عرفت الدولة العثمانية نموذجًا معماريًا يمكن أن نطلق عليه اسم المُجمع المعماري أو الكلية وكان هذا النموذج يتكون من المدرسة والمكتب والحمام ودار الشفاء والمكتبة والتربة والمباني المشابهة التي تؤسس حول المسجد، أي أن المسجد كان يشكل نواة تلك الكلية ومركزها والعنصر الأساس فيها.
كان الأساس في مفهوم الكلية هو تقديم الخدمة العلمية، والاجتماعية، والمادية للشعب دون مقابل. وكان إنشاء المدارس في تلك الكليات يعد من أهم الضرورات، لأن إعطاء تعليم بشكل منظم كان يتطلب بالضرورة وجود مكان للعبادة ومكان للطعام والمبيت بجانب المدرسة. وكانت المدارس في تلك الكليات قناة لتوصيل العلم والثقافة إليه وتعليمه وتثقيفه، وكان المجتمع في حالة متصلة دومًا مع تلك المدارس. كما أن وضع المسجد في وسط هذه الكليات كان يُلمح إلى معنى إسلامي، وهو أن المسجد بالنسبة للمجتمع الإسلامي كان هو المحور الذي تدور وتتشكل حوله بقية مؤسسات المجتمع الأخرى التي تقوم بتقديم الخدمات الاجتماعية والتعليمية لذاك المجتمع، وهو ما تحقق بشكل واضح في تلك الكليات.
ولم تختلف المدرسة في بدايتها عن المسجد، فقد اتخذ المسلمون من المسجد مدرسة للتعليم؛ لأن العلوم لم تكن تخرج عن نطاق العلوم الشرعية، وما يتصل بها من علوم اللغة. لذا لم يجد المسلمون أماكن أصلح لتعليم هذه العلوم من بيوت الله وهي المساجد. ولكن لتعدد تلك الأغراض والمهام التي كان المسجد يقوم بها رأى المسلمون أن يخصصوا أماكن أخرى منفصلة للقيام بتلك المهام، فأقيمت أماكن للقضاء، وأخرى لجلوس الخلفاء والولاة؛ كما أدى اتساع البرامج الدراسية، وكثرة المناقشات التي كانت تجرى في حلقات التدريس والعلم في المساجد، وارتفاع الصخب والضجيج، إلى إقامة مبانٍ منفصلة عن المساجد للقيام بتدريس هذه العلوم الإسلامية داخل نظام معين يختلف عن الدراسة في المسجد سمي بالمدرسة. ولعل أهم ما قامت به المدرسة أنها لعبت دورًا مهمًا في تأسيس التعليم المنظم، ونجحت في احتواء وظيفة المساجد التعليمية، ووظيفة المكتبات العلمية والتثقيفية، وضمَّنتها في بنيتها الداخلية نفسها، فبعد تأسيس المدارس أصبح للعلم والتعليم أماكن خاصة، تقوم به وتشرف عليه بشكل منظم، إضافة إلى عمل الأبحاث، وإقامة الندوات العلمية التي كانت تجرى في المكتبات ودور العلم.
أما الكليات العثمانية، فقد أصبحت منذ إنشاء أول كلية عثمانية واحدة من أهم المؤسسات الخيرية التي ظهرت في الدولة العثمانية، فقد كانت تلك الكليات تحتوي بجانب مكان الدراسة على حجرات لمبيت الطلاب، ومكان للطعام المجاني يسمى «عمارت» كانت تقدم الطعام المطبوخ لطلاب المدارس والفقراء والضيوف والمسافرين، ومكتبة للاطلاع، وحمام. وقد أسهم في تأسيس تلك المؤسسات الخيرية السلاطين، والأمراء، والوزراء، والعلماء، والولاة، وزوجات السلاطين.
النموذج الأول
وكانت كلية أورخان غازي في ازنيق (731 هـ / 1331م) التي تكونت من المسجد والجامع والحمام هي أول نموذج لكلية في الدولة العثمانية، ثم تتابعت الكليات وانتشرت بعد ذلك في كل أنحاء الدولة. وكانت كليات السلاطين هي أشهر الكليات في الدولة، وكان من أشهرها كلية السلطان مراد الثاني في أدرنة، وكلية السلطان الفاتح في إسطنبول (875هـ /1470م)، وكلية بايزيد الثاني في إسطنبول (911 هـ/ 1505م)، والكلية السليمانية في إسطنبول (964هـ / 1557م)، التي أقامها السلطان سليمان القانوني، وإضافة إلى تلك الكليات التي أقيمت داخل المدن العثمانية، أقيمت كليات أخرى خارج المدن على طريق السفر، وكان المبنى الرئيس في تلك الكليات خارج المدن هو النزل والفناء الواسع ومربط الدواب إلى جانب جامع لصلاة المسافرين، إضافة إلى حمام.
وقد شهد عصر السلطان محمد الفاتح ظهور أهم تلك الكليات الكبيرة في الدولة العثمانية، وذلك عندما قام السلطان بإنشاء كليته في إسطنبول عام 875هـ /1470م، وكانت هذه الكلية تشتمل على مسجد الفاتح الذي يتكون من قبة كبيرة ومئذنتين، وعلى أطرافه تقع مدارس الصحن الثماني، ودار للنقاهة والإيواء (تابخانه)، ودار لإطعام الفقراء، ودار للشفاء، وخلف المدارس الثماني كانت توجد ثماني مدارس أخرى تعرف باسم مدارس التتمة لها أربعة أبواب، وبعدها كان يوجد مكتب كبير لتعليم الصبيان. وقد بدأ العمل في إنشاء تلك الكلية بعد تسع سنوات من فتح إسطنبول، أي في عام 867هـ/ 1462م، واستغرق بناؤها ثماني سنوات، حيث تم الانتهاء منها في عام 875هـ/1470م، وقد صمم تلك المدارس وسائر المباني الملحقة بها المعمار العثماني سنان باشا وهو غير المعماري العثماني الشهير قوجه سنان الدين، الذي كان يعيش في عهد السلطان القانوني، الذي صمم مسجد السليمانية، ومسجد السليمية.
وإضافة إلى المباني السابقة كان يوجد في مجمع الفاتح أيضًا ضريح للسلطان الفاتح وزوجته جلبهار خاتون، وحظائر لحيوانات الضيوف والنزلاء. وقد بلغت مساحة هذا المُجمع العلمي 108 آلاف م2، وكان يعد ذروة العمارة العثمانية في عصره. وقد أسندت مهمة الإشراف على بناء ذلك المُجمع أو الكلية العلمية التي تضم المدارس الثماني إلى أحد كبار رجال الدولة العثمانية، وهو الصدر الأعظم محمود باشا الذي تولى الإشراف على هذا المجمع من ناحية البناء والتجهيزات المادية، بحيث تؤدي الغرض العلمي والاجتماعي المنوط بها على أكمل وجه.
تدرج النظام
وكانت مدارس الصحن تتوزع على جانبي المسجد، أربع في الشرق تطل على خليج مرمرة جهة البحر المتوسط، وأربع في الغرب جهة البحر الأسود. وكانت المدارس الأربع على كل جانب مصممة بحيث تكون الاثنتان على الطرفين منفصلتين، والاثنتان في المنتصف متلاصقتين. وكانت مدارس التتمة تقع خلف مدارس الصحن بنفس الترتيب والشكل. والواقع أن الشكل المعماري كان يعبر عن التدرج في النظام التعليمي في كلية الفاتح ويوضح مراحل التعليم المتنوعة فيه؛ ففي ناحية المسجد كان يوجد مكتب الصبيان، وفي الوسط كانت توجد مدارس التتمة المعروفة بالمدارس الصغرى، وأمامها مدارس الصحن المسماة بالمدارس الكبيرة أو العالية.
وكانت كل مدرسة من المدارس الثماني تحتوي على تسع عشرة حجرة، واحدة للمدرس، وغرفة أخرى للمعيد، وخمس عشرة حجرة لخمسة عشر طالبًا، أما الغرفتان المتبقيتان فواحدة تخصص للكناس أو الفراش، والحجرة الأخيرة تخصص للبواب. وكان مجموع حجرات المدارس الثماني مجتمعة يبلغ مئة واثنتين وخمسين حجرة، ومجموع طلاب المدارس الثماني يبلغ مئة وعشرين طالبًا، وبها أربع دورات للمياه، ومكان للاستحمام».
وكانت مساحة الحجرة الواحدة من تلك الحجرات في المدارس الثماني تبلغ 4.2 م2، في حين كانت مساحتها في المدارس الأخرى 3.8م2. وكانت لكل غرفة نافذة تطل على الخارج، وموقد للتدفئة، وقنديل للإنارة، وأرفف، وكانت أرضية الغرفة مغطاة بالطوب الآجر.
وإضافة إلى تلك المدارس فقد قام الفاتح بإنشاء ثماني مدارس أصغر من المدارس الثماني عُرفت باسم التتمة أو المدارس الصغرى في داخل الكلية التي أنشأها في إسطنبول. وقد أنشئت مدارس التتمة خلف مدارس الصحن الثماني، وكان يفصل بينهما طريق ضيق، وكانت مدارس التتمة الأولى والثانية والثالثة والرابعة تتراص في القسم الذي يطل على بحر مرمرة؛ والمدارس الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة تتراص في القسم الذي يطل على الخليج؛ وكان نظام مدارس التتمة المعماري يختلف عن المدارس الصحن الثماني، فقد كانت حجرات المدارس صغيرة نسبيًا، وليس لها قبة، وكانت مدارس التتمة تفتح على مدارس الصحن.
وإلى جانب ذلك الدور العلمي الذي لعبته كلية الفاتح بشكل واضح ممثلة في المدارس الثماني، فقد لعبت كلية الفاتح أيضًا دورًا اجتماعيًا بارزًا، فكانت دار الطعام التي أنشأها الفاتح إلى جانب مدارس الصحن الثماني، تقدم وجبتي الإفطار والعشاء مجانًا لما يزيد على ألف شخص كل يوم، ممن يترددون على المسجد والمدارس ودار الشفاء والمكتبة وأقسام كلية الفاتح الأخرى. وكان يخصص أربعة أشخاص للعمل في دار الطعام تلك لتوصيل الحصص المقررة من الطعام لطلبة العلم، وسائر الفقراء، والضيوف، والمسافرين صباحًا ومساءً. وكانت تلك الوجبات تشتمل على اللحم والخبز والحساء والأرز.
دار الشفاء
أما دار الشفاء فقد جمع لها الفاتح كبار رجال العلم من شتى الأماكن، ووظف بها أشهر الأطباء، وخصص لها كثيرًا من الأوقاف للصرف على احتياجات الدار، ورواتب العاملين بها وقد اشترط الفاتح: «أن يعين في تلك الدار طبيبان، على أن يكون كل منهما صاحب علم عريض في علم التشريح، عالم بأحوال المرضى، متمكن في فن الطب وقوانين الشفاء. كما عين كحالا أي طبيبًا لأمراض العيون وجراحًا، كما شرط أن يُعين رجل معروف بالصلاح لإعداد وتجهيز الأدوية والأشربة التي يحتاجها المرضى، وخصص له راتبًا».
وقد وصف أبوالبركات محمد بن بدر الدين الغزي في رحلته إلى إسطنبول عام 936هـ/ 1530م والمسماة «المطالع البدرية في المنازل الرومية»، ذلك الدور الاجتماعي الذي كانت تقوم به كلية الفاتح بعد ستين عامًا من إنشائها فقال: «ومن العمارات العظيمة ذات الصدقات الجسيمة والمبرات العميمة ما هو جار أجره إلى يوم الدين، ويشهد لفاعله أنه من المحسنين المهتدين. ومن أجّلها المباني الإحدى عشر الفائقة المتقاربة المتلاصقة، البديعة الحسنة الرائقة، المنسوبة إلى السلطان محمد المشار إليه، أسبغ الله تعالى ملابس رحمته ورضوانه عليه، وهي المدارس الثماني التي يعد مدرسوها أعظم مدرسي الروم، ولكل منهم أجزل أجر وأجل معلوم. والتاسعة العمارة التي يطعم بها الفقهاء والمتفقهون، ويحلها وينزل بها المقيمون والقاطنون، والمسافرون والظاعنون، وتجرى عليهم الأطعمة صباحًا ومساءً، ويعم خيرها من لا يحصى رجالا ونساءً. والعاشرة الجامع المعظم السامي الرفعة، المتسع الرقعة، الذي تقال فيه الخطبة، وتقام فيه الجمعة. ويجري في هذه الأماكن من الخيرات ما لا يمكن حده، ولا يحصر عده. والحادية عشرة المارستان وهو مدرسة على كيفية العمارة بجوانبها الحجرات المتعلقة بالمرضى، وهو من أعجب الأشياء لا يُرى أحسن منه بناء، ولا أبدع إنشاء، ولا أكمل انتهاء في الحسن والنماء، ولا أكثر خيرًا ولا أحسن شربًا وميرًا، وفيه من قناطير الأشربة والأكحال الرفيعة المُطيِبة، والأدوية الحسنة المُعجِبة، وسائر المعاجين المعمولة على القواعد الطبية والقوانين، إلى ما يضاف إلى ذلك من لحوم الطيور والأغنام على اختلافها وتباين أصنافها. مع ما يحتاج إليه كل واحد ممن يوافيه ويحل فيه من غطاء ووطاء، ومشموم ومدرور وشبه ذلك على معد على أكمله هنالك. وقد رتب على ذلك كله من الأطباء الماهرين والشهود المبرزين والنظار العارفين والخدام المتصرفين، كل ماهر في معالجته موثوق بعدالته مسلّم إليه في معرفته، غير مقصر في تصرفه وخدمته، ويحصل منه كل يوم من التفرقة على الصادرين والواردين، ما لا يدخل تحت ضبط حيسوب، ولا يحيط به دفتر مكتوب».
ومما سبق يتضح لنا إلى أي مدى استطاع العثمانيون توظيف العمارة في خدمة أهدافهم العلمية والاجتماعية بحيث تحول مفهوم الخدمة والنفع إلى مكون أساس في الفلسفة المعمارية العثمانية، ولم يختزل العثمانيون ذلك المفهوم الواسع للعمارة في عدد من المباني الأيقونات. وليس معنى ذلك أن المعماري العثماني قد أهمل الجمال في كل ما أنتج, بل إنه دائمًا كان يضع نصب عينيه أن يكون الجمال قرين الفائدة وأن تكون العمارة بكل مكوناتها في خدمة المجتمع المسلم الذي توجد فيه >