كلية السلطان محمد الفاتح في إسطنبول.. العمارة في خدمة المجتمع

كلية السلطان محمد الفاتح في إسطنبول.. العمارة في خدمة المجتمع

عرفت‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬نموذجًا‭ ‬معماريًا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬المُجمع‭ ‬المعماري‭ ‬أو‭ ‬الكلية‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬والمكتب‭ ‬والحمام‭ ‬ودار‭ ‬الشفاء‭ ‬والمكتبة‭ ‬والتربة‭ ‬والمباني‭ ‬المشابهة‭ ‬التي‭ ‬تؤسس‭ ‬حول‭ ‬المسجد،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬المسجد‭ ‬كان‭ ‬يشكل‭ ‬نواة‭ ‬تلك‭ ‬الكلية‭ ‬ومركزها‭ ‬والعنصر‭ ‬الأساس‭ ‬فيها‭.‬

كان‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الكلية‭ ‬هو‭ ‬تقديم‭ ‬الخدمة‭ ‬العلمية،‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬والمادية‭ ‬للشعب‭ ‬دون‭ ‬مقابل‭. ‬وكان‭ ‬إنشاء‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الكليات‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الضرورات،‭ ‬لأن‭ ‬إعطاء‭ ‬تعليم‭ ‬بشكل‭ ‬منظم‭ ‬كان‭ ‬يتطلب‭ ‬بالضرورة‭ ‬وجود‭ ‬مكان‭ ‬للعبادة‭ ‬ومكان‭ ‬للطعام‭ ‬والمبيت‭ ‬بجانب‭ ‬المدرسة‭. ‬وكانت‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الكليات‭ ‬قناة‭ ‬لتوصيل‭ ‬العلم‭ ‬والثقافة‭ ‬إليه‭ ‬وتعليمه‭ ‬وتثقيفه،‭ ‬وكان‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬متصلة‭ ‬دومًا‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬وضع‭ ‬المسجد‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬الكليات‭ ‬كان‭ ‬يُلمح‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭ ‬إسلامي،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬المسجد‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمجتمع‭ ‬الإسلامي‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬المحور‭ ‬الذي‭ ‬تدور‭ ‬وتتشكل‭ ‬حوله‭ ‬بقية‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بتقديم‭ ‬الخدمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتعليمية‭ ‬لذاك‭ ‬المجتمع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تحقق‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الكليات‭.‬

ولم‭ ‬تختلف‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ ‬عن‭ ‬المسجد،‭ ‬فقد‭ ‬اتخذ‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬مدرسة‭ ‬للتعليم؛‭ ‬لأن‭ ‬العلوم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬نطاق‭ ‬العلوم‭ ‬الشرعية،‭ ‬وما‭ ‬يتصل‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬اللغة‭. ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬المسلمون‭ ‬أماكن‭ ‬أصلح‭ ‬لتعليم‭ ‬هذه‭ ‬العلوم‭ ‬من‭ ‬بيوت‭ ‬الله‭ ‬وهي‭ ‬المساجد‭. ‬ولكن‭ ‬لتعدد‭ ‬تلك‭ ‬الأغراض‭ ‬والمهام‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬المسجد‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬رأى‭ ‬المسلمون‭ ‬أن‭ ‬يخصصوا‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى‭ ‬منفصلة‭ ‬للقيام‭ ‬بتلك‭ ‬المهام،‭ ‬فأقيمت‭ ‬أماكن‭ ‬للقضاء،‭ ‬وأخرى‭ ‬لجلوس‭ ‬الخلفاء‭ ‬والولاة؛‭ ‬كما‭ ‬أدى‭ ‬اتساع‭ ‬البرامج‭ ‬الدراسية،‭ ‬وكثرة‭ ‬المناقشات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجرى‭ ‬في‭ ‬حلقات‭ ‬التدريس‭ ‬والعلم‭ ‬في‭ ‬المساجد،‭ ‬وارتفاع‭ ‬الصخب‭ ‬والضجيج،‭ ‬إلى‭ ‬إقامة‭ ‬مبانٍ‭ ‬منفصلة‭ ‬عن‭ ‬المساجد‭ ‬للقيام‭ ‬بتدريس‭ ‬هذه‭ ‬العلوم‭ ‬الإسلامية‭ ‬داخل‭ ‬نظام‭ ‬معين‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬المسجد‭ ‬سمي‭ ‬بالمدرسة‭. ‬ولعل‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬المدرسة‭ ‬أنها‭ ‬لعبت‭ ‬دورًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬التعليم‭ ‬المنظم،‭ ‬ونجحت‭ ‬في‭ ‬احتواء‭ ‬وظيفة‭ ‬المساجد‭ ‬التعليمية،‭ ‬ووظيفة‭ ‬المكتبات‭ ‬العلمية‭ ‬والتثقيفية،‭ ‬وضمَّنتها‭ ‬في‭ ‬بنيتها‭ ‬الداخلية‭ ‬نفسها،‭ ‬فبعد‭ ‬تأسيس‭ ‬المدارس‭ ‬أصبح‭ ‬للعلم‭ ‬والتعليم‭ ‬أماكن‭ ‬خاصة،‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬وتشرف‭ ‬عليه‭ ‬بشكل‭ ‬منظم،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬الأبحاث،‭ ‬وإقامة‭ ‬الندوات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجرى‭ ‬في‭ ‬المكتبات‭ ‬ودور‭ ‬العلم‭.‬

أما‭ ‬الكليات‭ ‬العثمانية،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬منذ‭ ‬إنشاء‭ ‬أول‭ ‬كلية‭ ‬عثمانية‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المؤسسات‭ ‬الخيرية‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الكليات‭ ‬تحتوي‭ ‬بجانب‭ ‬مكان‭ ‬الدراسة‭ ‬على‭ ‬حجرات‭ ‬لمبيت‭ ‬الطلاب،‭ ‬ومكان‭ ‬للطعام‭ ‬المجاني‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬عمارت‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬تقدم‭ ‬الطعام‭ ‬المطبوخ‭ ‬لطلاب‭ ‬المدارس‭ ‬والفقراء‭ ‬والضيوف‭ ‬والمسافرين،‭ ‬ومكتبة‭ ‬للاطلاع،‭ ‬وحمام‭. ‬وقد‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬الخيرية‭ ‬السلاطين،‭ ‬والأمراء،‭ ‬والوزراء،‭ ‬والعلماء،‭ ‬والولاة،‭ ‬وزوجات‭ ‬السلاطين‭.‬

 

النموذج‭ ‬الأول

وكانت‭ ‬كلية‭ ‬أورخان‭ ‬غازي‭ ‬في‭ ‬ازنيق‭ (‬731‭ ‬هـ‭ / ‬1331م‭) ‬التي‭ ‬تكونت‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬والجامع‭ ‬والحمام‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬نموذج‭ ‬لكلية‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬ثم‭ ‬تتابعت‭ ‬الكليات‭ ‬وانتشرت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬الدولة‭. ‬وكانت‭ ‬كليات‭ ‬السلاطين‭ ‬هي‭ ‬أشهر‭ ‬الكليات‭ ‬في‭ ‬الدولة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أشهرها‭ ‬كلية‭ ‬السلطان‭ ‬مراد‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬أدرنة،‭ ‬وكلية‭ ‬السلطان‭ ‬الفاتح‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭ (‬875هـ‭ /‬1470م‭)‬،‭ ‬وكلية‭ ‬بايزيد‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭ (‬911‭ ‬هـ‭/ ‬1505م‭)‬،‭ ‬والكلية‭ ‬السليمانية‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭ (‬964هـ‭ / ‬1557م‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬أقامها‭ ‬السلطان‭ ‬سليمان‭ ‬القانوني،‭ ‬وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الكليات‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬داخل‭ ‬المدن‭ ‬العثمانية،‭ ‬أقيمت‭ ‬كليات‭ ‬أخرى‭ ‬خارج‭ ‬المدن‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬السفر،‭ ‬وكان‭ ‬المبنى‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الكليات‭ ‬خارج‭ ‬المدن‭ ‬هو‭ ‬النزل‭ ‬والفناء‭ ‬الواسع‭ ‬ومربط‭ ‬الدواب‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬جامع‭ ‬لصلاة‭ ‬المسافرين،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬حمام‭.‬

وقد‭ ‬شهد‭ ‬عصر‭ ‬السلطان‭ ‬محمد‭ ‬الفاتح‭ ‬ظهور‭ ‬أهم‭ ‬تلك‭ ‬الكليات‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬قام‭ ‬السلطان‭ ‬بإنشاء‭ ‬كليته‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭ ‬عام‭ ‬875هـ‭ /‬1470م،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الكلية‭ ‬تشتمل‭ ‬على‭ ‬مسجد‭ ‬الفاتح‭ ‬الذي‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬قبة‭ ‬كبيرة‭ ‬ومئذنتين،‭ ‬وعلى‭ ‬أطرافه‭ ‬تقع‭ ‬مدارس‭ ‬الصحن‭ ‬الثماني،‭ ‬ودار‭ ‬للنقاهة‭ ‬والإيواء‭ (‬تابخانه‭)‬،‭ ‬ودار‭ ‬لإطعام‭ ‬الفقراء،‭ ‬ودار‭ ‬للشفاء،‭ ‬وخلف‭ ‬المدارس‭ ‬الثماني‭ ‬كانت‭ ‬توجد‭ ‬ثماني‭ ‬مدارس‭ ‬أخرى‭ ‬تعرف‭ ‬باسم‭ ‬مدارس‭ ‬التتمة‭ ‬لها‭ ‬أربعة‭ ‬أبواب،‭ ‬وبعدها‭ ‬كان‭ ‬يوجد‭ ‬مكتب‭ ‬كبير‭ ‬لتعليم‭ ‬الصبيان‭. ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬تلك‭ ‬الكلية‭ ‬بعد‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬إسطنبول،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬867هـ‭/ ‬1462م،‭ ‬واستغرق‭ ‬بناؤها‭ ‬ثماني‭ ‬سنوات،‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬الانتهاء‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬875هـ‭/‬1470م،‭ ‬وقد‭ ‬صمم‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬وسائر‭ ‬المباني‭ ‬الملحقة‭ ‬بها‭ ‬المعمار‭ ‬العثماني‭ ‬سنان‭ ‬باشا‭ ‬وهو‭ ‬غير‭ ‬المعماري‭ ‬العثماني‭ ‬الشهير‭ ‬قوجه‭ ‬سنان‭ ‬الدين،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬السلطان‭ ‬القانوني،‭ ‬الذي‭ ‬صمم‭ ‬مسجد‭ ‬السليمانية،‭ ‬ومسجد‭ ‬السليمية‭.‬

وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬المباني‭ ‬السابقة‭ ‬كان‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬مجمع‭ ‬الفاتح‭ ‬أيضًا‭ ‬ضريح‭ ‬للسلطان‭ ‬الفاتح‭ ‬وزوجته‭ ‬جلبهار‭ ‬خاتون،‭ ‬وحظائر‭ ‬لحيوانات‭ ‬الضيوف‭ ‬والنزلاء‭. ‬وقد‭ ‬بلغت‭ ‬مساحة‭ ‬هذا‭ ‬المُجمع‭ ‬العلمي‭ ‬108‭ ‬آلاف‭ ‬م2،‭ ‬وكان‭ ‬يعد‭ ‬ذروة‭ ‬العمارة‭ ‬العثمانية‭ ‬في‭ ‬عصره‭. ‬وقد‭ ‬أسندت‭ ‬مهمة‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬ذلك‭ ‬المُجمع‭ ‬أو‭ ‬الكلية‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬المدارس‭ ‬الثماني‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬رجال‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وهو‭ ‬الصدر‭ ‬الأعظم‭ ‬محمود‭ ‬باشا‭ ‬الذي‭ ‬تولى‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المجمع‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬البناء‭ ‬والتجهيزات‭ ‬المادية،‭ ‬بحيث‭ ‬تؤدي‭ ‬الغرض‭ ‬العلمي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬المنوط‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه‭.‬

 

تدرج‭ ‬النظام

وكانت‭ ‬مدارس‭ ‬الصحن‭ ‬تتوزع‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬المسجد،‭ ‬أربع‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬خليج‭ ‬مرمرة‭ ‬جهة‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬وأربع‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬جهة‭ ‬البحر‭ ‬الأسود‭. ‬وكانت‭ ‬المدارس‭ ‬الأربع‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬جانب‭ ‬مصممة‭ ‬بحيث‭ ‬تكون‭ ‬الاثنتان‭ ‬على‭ ‬الطرفين‭ ‬منفصلتين،‭ ‬والاثنتان‭ ‬في‭ ‬المنتصف‭ ‬متلاصقتين‭. ‬وكانت‭ ‬مدارس‭ ‬التتمة‭ ‬تقع‭ ‬خلف‭ ‬مدارس‭ ‬الصحن‭ ‬بنفس‭ ‬الترتيب‭ ‬والشكل‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬الشكل‭ ‬المعماري‭ ‬كان‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬التدرج‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الفاتح‭ ‬ويوضح‭ ‬مراحل‭ ‬التعليم‭ ‬المتنوعة‭ ‬فيه؛‭ ‬ففي‭ ‬ناحية‭ ‬المسجد‭ ‬كان‭ ‬يوجد‭ ‬مكتب‭ ‬الصبيان،‭ ‬وفي‭ ‬الوسط‭ ‬كانت‭ ‬توجد‭ ‬مدارس‭ ‬التتمة‭ ‬المعروفة‭ ‬بالمدارس‭ ‬الصغرى،‭ ‬وأمامها‭ ‬مدارس‭ ‬الصحن‭ ‬المسماة‭ ‬بالمدارس‭ ‬الكبيرة‭ ‬أو‭ ‬العالية‭.‬

وكانت‭ ‬كل‭ ‬مدرسة‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬الثماني‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬تسع‭ ‬عشرة‭ ‬حجرة،‭ ‬واحدة‭ ‬للمدرس،‭ ‬وغرفة‭ ‬أخرى‭ ‬للمعيد،‭ ‬وخمس‭ ‬عشرة‭ ‬حجرة‭ ‬لخمسة‭ ‬عشر‭ ‬طالبًا،‭ ‬أما‭ ‬الغرفتان‭ ‬المتبقيتان‭ ‬فواحدة‭ ‬تخصص‭ ‬للكناس‭ ‬أو‭ ‬الفراش،‭ ‬والحجرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬تخصص‭ ‬للبواب‭. ‬وكان‭ ‬مجموع‭ ‬حجرات‭ ‬المدارس‭ ‬الثماني‭ ‬مجتمعة‭ ‬يبلغ‭ ‬مئة‭ ‬واثنتين‭ ‬وخمسين‭ ‬حجرة،‭ ‬ومجموع‭ ‬طلاب‭ ‬المدارس‭ ‬الثماني‭ ‬يبلغ‭ ‬مئة‭ ‬وعشرين‭ ‬طالبًا،‭ ‬وبها‭ ‬أربع‭ ‬دورات‭ ‬للمياه،‭ ‬ومكان‭ ‬للاستحمام‮»‬‭.‬

وكانت‭ ‬مساحة‭ ‬الحجرة‭ ‬الواحدة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحجرات‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الثماني‭ ‬تبلغ‭ ‬4.2‭ ‬م2،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬مساحتها‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الأخرى‭ ‬3.8م2‭. ‬وكانت‭ ‬لكل‭ ‬غرفة‭ ‬نافذة‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬الخارج،‭ ‬وموقد‭ ‬للتدفئة،‭ ‬وقنديل‭ ‬للإنارة،‭ ‬وأرفف،‭ ‬وكانت‭ ‬أرضية‭ ‬الغرفة‭ ‬مغطاة‭ ‬بالطوب‭ ‬الآجر‭.‬

وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬فقد‭ ‬قام‭ ‬الفاتح‭ ‬بإنشاء‭ ‬ثماني‭ ‬مدارس‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬الثماني‭ ‬عُرفت‭ ‬باسم‭ ‬التتمة‭ ‬أو‭ ‬المدارس‭ ‬الصغرى‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬الكلية‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭. ‬وقد‭ ‬أنشئت‭ ‬مدارس‭ ‬التتمة‭ ‬خلف‭ ‬مدارس‭ ‬الصحن‭ ‬الثماني،‭ ‬وكان‭ ‬يفصل‭ ‬بينهما‭ ‬طريق‭ ‬ضيق،‭ ‬وكانت‭ ‬مدارس‭ ‬التتمة‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية‭ ‬والثالثة‭ ‬والرابعة‭ ‬تتراص‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الذي‭ ‬يطل‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬مرمرة؛‭ ‬والمدارس‭ ‬الخامسة‭ ‬والسادسة‭ ‬والسابعة‭ ‬والثامنة‭ ‬تتراص‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الذي‭ ‬يطل‭ ‬على‭ ‬الخليج؛‭ ‬وكان‭ ‬نظام‭ ‬مدارس‭ ‬التتمة‭ ‬المعماري‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬المدارس‭ ‬الصحن‭ ‬الثماني،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬حجرات‭ ‬المدارس‭ ‬صغيرة‭ ‬نسبيًا،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬قبة،‭ ‬وكانت‭ ‬مدارس‭ ‬التتمة‭ ‬تفتح‭ ‬على‭ ‬مدارس‭ ‬الصحن‭.‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك‭ ‬الدور‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬لعبته‭ ‬كلية‭ ‬الفاتح‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الثماني،‭ ‬فقد‭ ‬لعبت‭ ‬كلية‭ ‬الفاتح‭ ‬أيضًا‭ ‬دورًا‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬بارزًا،‭ ‬فكانت‭ ‬دار‭ ‬الطعام‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬الفاتح‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مدارس‭ ‬الصحن‭ ‬الثماني،‭ ‬تقدم‭ ‬وجبتي‭ ‬الإفطار‭ ‬والعشاء‭ ‬مجانًا‭ ‬لما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬ألف‭ ‬شخص‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬ممن‭ ‬يترددون‭ ‬على‭ ‬المسجد‭ ‬والمدارس‭ ‬ودار‭ ‬الشفاء‭ ‬والمكتبة‭ ‬وأقسام‭ ‬كلية‭ ‬الفاتح‭ ‬الأخرى‭. ‬وكان‭ ‬يخصص‭ ‬أربعة‭ ‬أشخاص‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬الطعام‭ ‬تلك‭ ‬لتوصيل‭ ‬الحصص‭ ‬المقررة‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬لطلبة‭ ‬العلم،‭ ‬وسائر‭ ‬الفقراء،‭ ‬والضيوف،‭ ‬والمسافرين‭ ‬صباحًا‭ ‬ومساءً‭. ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الوجبات‭ ‬تشتمل‭ ‬على‭ ‬اللحم‭ ‬والخبز‭ ‬والحساء‭ ‬والأرز‭.‬

 

دار‭ ‬الشفاء

أما‭ ‬دار‭ ‬الشفاء‭ ‬فقد‭ ‬جمع‭ ‬لها‭ ‬الفاتح‭ ‬كبار‭ ‬رجال‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬شتى‭ ‬الأماكن،‭ ‬ووظف‭ ‬بها‭ ‬أشهر‭ ‬الأطباء،‭ ‬وخصص‭ ‬لها‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأوقاف‭ ‬للصرف‭ ‬على‭ ‬احتياجات‭ ‬الدار،‭ ‬ورواتب‭ ‬العاملين‭ ‬بها‭ ‬وقد‭ ‬اشترط‭ ‬الفاتح‭: ‬‮«‬أن‭ ‬يعين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدار‭ ‬طبيبان،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬صاحب‭ ‬علم‭ ‬عريض‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬التشريح،‭ ‬عالم‭ ‬بأحوال‭ ‬المرضى،‭ ‬متمكن‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الطب‭ ‬وقوانين‭ ‬الشفاء‭. ‬كما‭ ‬عين‭ ‬كحالا‭ ‬أي‭ ‬طبيبًا‭ ‬لأمراض‭ ‬العيون‭ ‬وجراحًا،‭ ‬كما‭ ‬شرط‭ ‬أن‭ ‬يُعين‭ ‬رجل‭ ‬معروف‭ ‬بالصلاح‭ ‬لإعداد‭ ‬وتجهيز‭ ‬الأدوية‭ ‬والأشربة‭ ‬التي‭ ‬يحتاجها‭ ‬المرضى،‭ ‬وخصص‭ ‬له‭ ‬راتبًا‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬وصف‭ ‬أبوالبركات‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬بدر‭ ‬الدين‭ ‬الغزي‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬إسطنبول‭ ‬عام‭ ‬936هـ‭/ ‬1530م‭ ‬والمسماة‭ ‬‮«‬المطالع‭ ‬البدرية‭ ‬في‭ ‬المنازل‭ ‬الرومية‮»‬،‭ ‬ذلك‭ ‬الدور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬كلية‭ ‬الفاتح‭ ‬بعد‭ ‬ستين‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬إنشائها‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬ومن‭ ‬العمارات‭ ‬العظيمة‭ ‬ذات‭ ‬الصدقات‭ ‬الجسيمة‭ ‬والمبرات‭ ‬العميمة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جار‭ ‬أجره‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬الدين،‭ ‬ويشهد‭ ‬لفاعله‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المحسنين‭ ‬المهتدين‭. ‬ومن‭ ‬أجّلها‭ ‬المباني‭ ‬الإحدى‭ ‬عشر‭ ‬الفائقة‭ ‬المتقاربة‭ ‬المتلاصقة،‭ ‬البديعة‭ ‬الحسنة‭ ‬الرائقة،‭ ‬المنسوبة‭ ‬إلى‭ ‬السلطان‭ ‬محمد‭ ‬المشار‭ ‬إليه،‭ ‬أسبغ‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬ملابس‭ ‬رحمته‭ ‬ورضوانه‭ ‬عليه،‭ ‬وهي‭ ‬المدارس‭ ‬الثماني‭ ‬التي‭ ‬يعد‭ ‬مدرسوها‭ ‬أعظم‭ ‬مدرسي‭ ‬الروم،‭ ‬ولكل‭ ‬منهم‭ ‬أجزل‭ ‬أجر‭ ‬وأجل‭ ‬معلوم‭. ‬والتاسعة‭ ‬العمارة‭ ‬التي‭ ‬يطعم‭ ‬بها‭ ‬الفقهاء‭ ‬والمتفقهون،‭ ‬ويحلها‭ ‬وينزل‭ ‬بها‭ ‬المقيمون‭ ‬والقاطنون،‭ ‬والمسافرون‭ ‬والظاعنون،‭ ‬وتجرى‭ ‬عليهم‭ ‬الأطعمة‭ ‬صباحًا‭ ‬ومساءً،‭ ‬ويعم‭ ‬خيرها‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يحصى‭ ‬رجالا‭ ‬ونساءً‭. ‬والعاشرة‭ ‬الجامع‭ ‬المعظم‭ ‬السامي‭ ‬الرفعة،‭ ‬المتسع‭ ‬الرقعة،‭ ‬الذي‭ ‬تقال‭ ‬فيه‭ ‬الخطبة،‭ ‬وتقام‭ ‬فيه‭ ‬الجمعة‭. ‬ويجري‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭ ‬من‭ ‬الخيرات‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬حده،‭ ‬ولا‭ ‬يحصر‭ ‬عده‭. ‬والحادية‭ ‬عشرة‭ ‬المارستان‭ ‬وهو‭ ‬مدرسة‭ ‬على‭ ‬كيفية‭ ‬العمارة‭ ‬بجوانبها‭ ‬الحجرات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمرضى،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أعجب‭ ‬الأشياء‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬أحسن‭ ‬منه‭ ‬بناء،‭ ‬ولا‭ ‬أبدع‭ ‬إنشاء،‭ ‬ولا‭ ‬أكمل‭ ‬انتهاء‭ ‬في‭ ‬الحسن‭ ‬والنماء،‭ ‬ولا‭ ‬أكثر‭ ‬خيرًا‭ ‬ولا‭ ‬أحسن‭ ‬شربًا‭ ‬وميرًا،‭ ‬وفيه‭ ‬من‭ ‬قناطير‭ ‬الأشربة‭ ‬والأكحال‭ ‬الرفيعة‭ ‬المُطيِبة،‭ ‬والأدوية‭ ‬الحسنة‭ ‬المُعجِبة،‭ ‬وسائر‭ ‬المعاجين‭ ‬المعمولة‭ ‬على‭ ‬القواعد‭ ‬الطبية‭ ‬والقوانين،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬لحوم‭ ‬الطيور‭ ‬والأغنام‭ ‬على‭ ‬اختلافها‭ ‬وتباين‭ ‬أصنافها‭. ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬ممن‭ ‬يوافيه‭ ‬ويحل‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬غطاء‭ ‬ووطاء،‭ ‬ومشموم‭ ‬ومدرور‭ ‬وشبه‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬معد‭ ‬على‭ ‬أكمله‭ ‬هنالك‭. ‬وقد‭ ‬رتب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬من‭ ‬الأطباء‭ ‬الماهرين‭ ‬والشهود‭ ‬المبرزين‭ ‬والنظار‭ ‬العارفين‭ ‬والخدام‭ ‬المتصرفين،‭ ‬كل‭ ‬ماهر‭ ‬في‭ ‬معالجته‭ ‬موثوق‭ ‬بعدالته‭ ‬مسلّم‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬معرفته،‭ ‬غير‭ ‬مقصر‭ ‬في‭ ‬تصرفه‭ ‬وخدمته،‭ ‬ويحصل‭ ‬منه‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬التفرقة‭ ‬على‭ ‬الصادرين‭ ‬والواردين،‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يدخل‭ ‬تحت‭ ‬ضبط‭ ‬حيسوب،‭ ‬ولا‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬دفتر‭ ‬مكتوب‮»‬‭.‬

ومما‭ ‬سبق‭ ‬يتضح‭ ‬لنا‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬استطاع‭ ‬العثمانيون‭ ‬توظيف‭ ‬العمارة‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬أهدافهم‭ ‬العلمية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬بحيث‭ ‬تحول‭ ‬مفهوم‭ ‬الخدمة‭ ‬والنفع‭ ‬إلى‭ ‬مكون‭ ‬أساس‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬المعمارية‭ ‬العثمانية،‭ ‬ولم‭ ‬يختزل‭ ‬العثمانيون‭ ‬ذلك‭ ‬المفهوم‭ ‬الواسع‭ ‬للعمارة‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المباني‭ ‬الأيقونات‭. ‬وليس‭ ‬معنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المعماري‭ ‬العثماني‭ ‬قد‭ ‬أهمل‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أنتج‭, ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬دائمًا‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬نصب‭ ‬عينيه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الجمال‭ ‬قرين‭ ‬الفائدة‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬العمارة‭ ‬بكل‭ ‬مكوناتها‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬المجتمع‭ ‬المسلم‭ ‬الذي‭ ‬توجد‭ ‬فيه‭ >‬