الْقَصِيدَةُ الْعَرَبِيَّةُ مُثِيرَاتُ فِتْنَتِهَا ومَظَاهِرُ شِعْرِيَّتِهَا (1)

الْقَصِيدَةُ الْعَرَبِيَّةُ مُثِيرَاتُ فِتْنَتِهَا ومَظَاهِرُ شِعْرِيَّتِهَا (1)

وُجدتْ مظاهر الشعريَّة في القصيدة العربية قديمًا وحديثًا، وتجلَّت معظم هذه المظاهر في المساحات اللغوية الأَدبية والأُسلوبية من النص، غير أنَّ الباحث عنها في مضامين النص لا تخطئ عيناه في إدراك كثير من المضامين التي تعمل كمُحرِّك رئيس في تحولات الشعرية.
وعلى الرغم من أن «الإِبداع يكمن في توظيف اللغة توظيفًا جماليًا يقوم على مهارة الاختيار وإِجادة التأليف»، فإِنَّ هذا الإِبداع اللغوي لم ينتج إِلّا عن مؤثر قوي وحافز مُثير، وكثيرة هي المؤثرات والحوافز التي مَثَّلت قوى خارجيَّة كان لها القدرة على استدعاء الأَقدر والأَجدر والأَكثر إِبداعًا في كثير من التجارب الشعرية.

 

  سجَّلتْ معظم القصائد التي كُتبتْ في المرأَة - على مر العصور من تاريخ الأَدب العربي - حالات من الشعريَّة العالية؛ حيث كانت تلك التجارب أقرب صدقًا وأكثر انسجامًا مع الذات، وكُلَّما تحقق هذا الانسجام؛ زادتْ قدرةُ الشاعرِ على الإِبداع، وتخطَّى حُدُودَ المعيارية التي تَحدُّ مِن «الطاقة المتفجرة في الكلام المتميز بقدرته على الانزياح، والتفرد، وخلق حالة من التوتر»، وكأَنَّ المرأة التي وقفتْ خلف المقاتلين تستفزُّ طاقتهم، وتستثير حميَّتهم، وتحثهم على القتال وأخذ الثأر هي ذاتها التي عَبَّأَتْ الشعراءَ، وشحذتْ قرائحهم للكتابة الإِبداعية؛ «حيث الكلمة تتجاوز نفسها مفلتة من حدود حروفها، وحيث الشيء يأخذ صورة جديدة، ومعنى آخر». 
وقد احتلَّت المرأةُ مكانةً من الحياة العربية، لا سيَّما قلوب الشعراء، الذين راحوا يتبارون في وصفها والتغزل في مفاتنها، أو البكاء على ظعنها؛ نظرًا لأَنَّ حياة النساء كانتْ رهن الإِقامة والترحل، «وكان جمالهنّ يثيرهم، ويُنطق أَلسنتهم بوصفه ووصف ما كُنَّ يتزينَّ به من طيب وحلي وثياب» على نحو ما تُصَوِّر ذلك معلقة امرئ القيس، إِذْ يقول:
وتُضْحي فتيتُ المسك فوق فراشها   
نَؤُومُ الضُّحى لَمْ تَنْتَطِقْ عن تفضُّلِ 

وكان رحيل هذه المرأة التي شغلتْ قلبَ العربي وتحرَّكتْ في شرايينه، وتمكَّنتْ من دمائه؛ سببًا في وقوفه على الأَطلال، وبكائه، وغزله، وتصدِّيه للأَعداء؛ ليصير فارسًا فيُحمد لدى حبيبته، يقول عنترة العبسي: 
هلاَّ سَأَلْتِ الخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ
إِنْ كُنْتِ جَاهِلَـةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي
إِذْ لا أَزَالُ عَلَى رِحَالةِ سَابِحٍ
نَهْـدٍ تَعَاوَرُهُ الكُمَاةُ مُكَلَّـمِ 
طَوْرًا يُجَـرَّدُ لِلطِّعَانِ، وَتَـارَةً
يَأْوِي إِلَى حَصَدِ القِسِيِّ عَرَمْرَمِ

وتَغزَّل الشعراءُ في المرأةِ حتَّى وقفوا منها على مفاتنها إِلى أَنْ تحسَّسُوا جوارحَها، ولم يتورَّعُوا عن ذكر ذلك، بل تنافسوا فيه، وأَجَادُوا، وهذا فعل المُنَخَّل اليشْكُري في «اليتيمة»: 
ولقد دخلتُ على الفتا
ةِ الخِدْر في اليومِ المطيرِ      
الكاعب الحسناءِ ترفُـ
لُ في الدمقسِ وفي الحريرِ   
فدفعتها، فتدافعـتْ
مشيَ القطاة إِلى الغديرِ
ولثمتُها، فتنفَّستْ
كتنفّس الظبْيِ الغريرِ 
فدنتْ وقالتْ، يا منَخلُ
ما بجسمك مِنْ حرورِ      
ما شفَّ جسمي غيرُ جسْـ 
مك، فاهدئي عنِّي وسيري     
وأُحبُّـــها وتُحِــــبُّنـــي 
ويحبُّ ناقتَها بعيــــري 
     
وعلى قدر ما تَفَنَّنُوا في صياغة جسد المرأَة؛ على قدر ما برعوا في إِيضاح جمالها الروحي، فهذا الشَّنْفرى، يتحسَّسُ المفاتن المعنوية من زوجه أُميمة؛ حيث تَتَجَلَّى لنا القيمُ من الحياء، والكرم، والإيثار، والسيرة الطيبة؛ لتقع عيونُنَا على لوحةٍ فنيَّةٍ عظيمةٍ لامرأةٍ مثال:
لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي لا سَقُوطًا قِنَاعُها
إذا ما مَشَتْ ولا بِذَاتِ تَلَفُّتِ 
تَبِيتُ - بُعَيْدَ النَّوْمِ - تُهْدِي غَبُوقَهَا
لِجَارَتِهَا إِذَا الْهَدِيَّةُ قلَّتِ 
تَحُلُّ، بِمَنْجَاةٍ مِنَ اللَّوْمِ، بَيْتَهَا 
إِذَا مَا بُيُوتٌ بِالمَذَمَّةِ حُلَّتِ
كَأَنَّ لَهَا في الأَرضِ نِسْيًا تَقُصُّهُ
عَلَى أُمِّهَا وإنْ تُكَلِّمْكَ تَبْلتِ
أُمَيْمَةُ لا يُخْزِي نَثَاها حَلِيلَهَا
إِذَا ذُكِرَ النّسْوَانُ عَفَّتْ وَجَلَّتِ
إِذَا هُوَ أَمْسَى آبَ قُرَّةَ عَيْنِهِ
مَآبَ السَّعِيدِ لَمْ يَسَلْ: أَينَ ظَلَّتِ؟

وقد صار لِبُثَيْنة من شعر جميل بن معمر ما لها من قلبه وعقله. واحتملتْ قصيدة جميل من مفاتنها الشعريَّة ما هيَّأَ لها أَنْ تَتَصدَّر المشهدَ الشعريَّ للحبِّ العذريِّ قديمًا وحديثًا؛ فقد وجد فيها الشاعرُ المعاصرُ مغنمًا لإِثراء قصيدته ودَعْمًا لبنائها؛ حيث اتخذَ من أَبياتها مُفْتَتَحًا وخاتمةً، يقول جميل:
يقولون: مسحورٌ يُجَنُّ بذكرها
فَأُقسم ما بي من جنونٍ ولا سحرِ
فَأُقسمُ لا أَنساكِ ما ذرَّ شارقٌ
وما خَبَّ آلٌ في مُلَمَّعةٍ قفرِ
وما لاحَ نجمٌ في السماءِ مُعلَّقٌ 
وما تُورِقُ الأَغصانُ من ورق السِّدْرِ
لقد شُغِفتْ نفسي بثينَ بذكركم
كما شُغِفَ المخمورُ يا بثنَ بالخمرِ
ذكرتُ مُقامي ليلة َ البانِ قابِضاً
على كفِّ حوْراءِ المدامعِ كالبدرِ
فكِدتُ ولم أمْلِكْ إليها صبَابَة ً
أَهيمُ وفاضَ الدمعُ مني على النَّحْرِ
فيا ليتَ شِعْري هلْ أبيتنَّ ليلة ً
كَلَيْلَتِنا حتى يُرى ساطِعُ الفجرِ
تَجودُ علينا بالحديثِ، وتارة ً
تَجودُ علينا بالرُّضابِ من الثَّغْرِ
فَليْتَ إلهي قد قضَى ذاكَ مرَّة 
فيعلمَ ربِّي عند ذلك ما شُكْرِي
فَلو سألتْ منِّي حياتي بذلتُها
وجُدْتُ بها إنْ كان ذلك من أَمريِ

تقفُ المثيراتُ القويَّةُ غالبًا خَلْفَ الكتاباتِ المُتَمَايزة، والشعرُ هو الشعرُ حين يُصيب مرماه من الجودة، إِذْ ليس هناك شعر يُقال في الرجال دون ما يُقال في النساء - غير أنَّنَا نلمس ملامح التمايز فيه، وَيَتَجَلَّى هذا التمايز في قدرة المُثير الخارجي على الشاعر في تحولات الانتقاء والاختيار- ويلزم لإِقامة شعريَّة الشعر انتقاء أَساليبه، واختيار لغته؛ بذلك يحدثُ التناسبُ الذي يُشْعرُنَا بأَنَّ الكتابة للنساء ليستْ مثل الكتابة للرجال، ويصدق هذا الكلام على كثيرٍ من مناطق الاختلاف؛ فإِنَّ ما يُستدعى في النسيب لا يُستدعى في النحيب، وما يُقال في المدح لا يُقال في الذَّمِّ، والتغني بالبطولات ليس مثل البكاء على الهزائم.
ولا يميز كتابة عن أُخرى سوى الاستغلال الصحيح للتراكيب، وإدارة سبل التوافق والانسجام عبر بناء القصيدة.  وقد اجتمع لجميل بن معمر من أسباب الشعرية ما جعل عناصر قصيدته أكثر توافقًا وانسجامًا؛ حتى إنَّنا نكاد نرى بثينة رأي العين بين أبياته، وقد تَحَسَّس جميل مناطقَ الجمالَ في اللغة؛ فأتمها بما يناسب جمالَ بثينة:
خَليليَّ إنْ قالتْ بُثَينَةُ: مَالَهُ
أتَانَا بِلا وَعدٍ؟ فَقُولا لَهَا: لَهَا
أتَى وَهْوَ مَشْغُولٌ لِعُظْمِ الذي بِهِ
وَمَن بَاتَ طُولَ الليلِ يَرْعَى السُّهَا؛ سَها 
بثينةُ تُزْرِي بِالغَزالةِ فِي الضُّحَى
إِذَا بَرزت لَمْ تُبْقِ يَومًا بِهَا بَهَا
لَهَا مُقْلةٌ كَحْلاءُ نَجْلاءُ خِلقةً
كَأَنَّ أَبَاهَا الظَّبيُ أَوْ أُمَّهَا مَهَا
دَهَتْنِي بِودٍّ قاتلٍ وهْو مُتْلِفِي
وَكَمْ قَتَلتْ بِالودِّ مَنْ وَدَّها دَهَا
وبلغتْ قصيدةُ ابن زيدون في ولّادة بنت المستكفي من الشهرة ما جعلها تُمَثِّل نولًا ينسجُ عليه كثيرٌ من الشعراء قديمًا وحديثًا، قد وقفتْ المرأةُ خلف شعريتها. قصيدة لقصَّةٍ، بَطَلاها ولادة وابن زيدون:
أَضْحَى التّنائي بَديلاً منْ تَدانِينَا
وَنَابَ عَنْ طِيبِ لُقْيانَا تَجَافِينَا

وقد اشتملت القصيدةُ المُوَجَّهَةُ للمرأةِ على مسحةٍ مِن الدَّلالِ الإِبداعيِّ - إِذَا جَازَ هَذَا التعبيرُ – والذي يَتَحَقَّقُ عبرَ التَّنَاسبِ والاختيارِ الدقيقِ للغةِ والإِيقاع: 
رَبيبُ مُلكٍ، كَأَنَّ اللَّهَ أَنْشَأهُ
مِسكًا، وَقَدَّرَ إنشاءَ الوَرَى طِينَا
أَوْ صَاغَهُ وَرِقاً مَحْضاً، وَتَوَّجَهُ
مِنْ نَاصِعِ التِّبرِ إبْداعًا وتَحسِينَا
إذَا تَأَوَّدَ آدَتْهُ، رَفاهِيَةً
تُومُ العُقُودِ، وَأَدْمَتْهُ البُرَى لِينَا
كَانَتْ لَهُ الشَّمْسُ ظئرًا في أكِلَّته
بَلْ مَا تَجَلَّى لَهَا إِلّا أَحَايِينَا
كَأَنَّما أُثْبِتَتْ، فِي صَحْنِ وَجنتِهِ
زُهْرُ الكَوَاكِبِ تَعوِيذًا وَتَزْيِينَا
مَا ضَرَّ أَنْ لَمْ نَكُنْ أكفاءهُ شَرَفًا
وَفِي المَوَدَّة ِ كافٍ مِنْ تَكَافِينَا؟

حيث قامتْ القصيدةُ على حُزمةٍ مِن البنَى المُتَوازِية، بنى ثُنَائية تَقومُ على التكرار، والتوالي الزَّمَنِي عبرَ مسافاتٍ مُتَنَاسِقةٍ.
قد لا تجتمعُ مقوماتُ الشعريَّة لِمُجْمل عمل شاعر - على الرغم من اتصافه بها - لكنَّها تُوجدُ بِنِسَبٍ مُتفاوتةٍ عبر قصائده، محكومة بعوامل الإِجادة. والشعرُ الجيدُ يدفعُ به عاملان: فني، ومعنوي؛ يُغْرِي الثاني منهما الأَوَّلَّ. ولا يَسْمُو الجانبُ الفنيُّ فِي غيابِ أَو فتورِ الجانبِ المَعْنَوِيِّ.
وتأتي المرأةُ – في القصيدةِ – كأَحد الدوافعِ المعنويَّةِ المُحرِّكةِ للمهارات الفنيَّة، والتي بِحَرَكتِها وقُدرتها الانْزِيَاحِيَّة تَكْتَمِلُ الشعريَّةُ، وقد سجَّلت المرأةُ وجودَها ضمن الأَسباب المعنويَّة لشعريَّةِ القصيدة غزلاً ورثاءً.
وقد كان لفقد المرأة أثره البالغ، فيقلب رفيقها وحبيبها، وقد حفل ديوان الشعر العربي قديمًا وحديثًا بكثير من قصائد الرثاء التي أشعلتْ وجدانَ مُتلقِّيها، ومنها قول جرير بن عطية يرثي زوجه خالدة:
لَوْلا الحَيَاءُ لَعَادَنـي اسْتِعْبَـارُ
وَلَزُرْتُ قَبْرَكِ والحَبِيـبُ يُـزَارُ
وَلَقَدْ نَظَرْتُ، وما تَمَتُّعُ نَظْـرَةٍ
في اللّحْدِ، حَيثُ تَمكَّنَ المِحْفَـارُ
فَجَزَاكِ رَبُّكِ فِي عَشِيرِكِ نَظْـرَةً،
وَسَقَى صَدَاكِ مُجَلْجِـلٌ مِـدْرَارُ
ولَّهْتِ قلبـي، إِذْ عَلَتْنِـي كَبْـرَةٌ
وَذَوُو التَّمَائِمِ مِنْ بَنِيكِ صِغَـارُ

وفي العصر العباسي كثر رثاء الزوجات، وأشهر زوج رثا زوجه مسلم بن الوليد، وقد تَنَسَّكَ بعد موت زوجه، وقُدِّم له الشراب، فامتنع منه وأباه، وأنشأ يقول:
بُكاءٌ وَكَأْسٌ كَيفَ يَتَّفِقانِ
سَبيلاهُما في القَلبِ مُختَلِفانِ
دَعاني وَإِفراطَ البُكاءِ فَإِنَّني
أَرى اليَومَ فيهِ غَيرَ ما تَرَيانِ
غَدَتْ وَالثَرى أَولى بِها مِن وَلِيِّها
إِلى مَنزِلٍ ناءٍ لِعَينِك دانِ
فَلا وَجْدَ حَتّى تَنزُفَ العَينُ ماءَها
وَتَعتَرِفَ الأَحشاءُ بِالخَفَقانِ
وَكَيفَ بِدَفعِ اليَأْسِ وَالوَجدِ بَعدَها
وَسَهْمَاهُمَا فِي القَلبِ يَعتَلِجانِ

وهذا ديك الجن الحمصي، الذي قتل زوجه وردًا، قتلها لوشاية واشٍ، قتلها دون أن يَتَثبَّتَ من أمرها، قتلها لكنَّها كانتْ قد تَمَكَّنَتْ من قلبه، وشرايينه، وعلقتْ بلُبِّه؛ فاختلطتْ لديه الأَحاسيس، لكنَّه انتصرَ لفعله؛ حتى نزف من «الخفيف» شعرًا:
لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ لِعَطْفِكِ نِلْتُ
وإِلى ذَلكَ الوِصَالِ وَصَلْتُ
فالَّذِي فِيَّ اشْتَمَلْتِ عَليهِ
أَلِعَارٍ مَا قَدْ عليهِ اشْتَمَلْتُ
قالَ ذُو الجَهْلِ قَدْ حَلُمْتَ ولا أَعْـ
ـلَمُ أَنِّي حَلُمْتُ حَتَّى جَهلْتُ
لائِمٌ لي بِجَهْلِهِ ولماذَا
أَنا وَحْدِي حْبَبْتُ ثُمَّ قَتَلْتُ
سَوْفَ آسَى طُولَ الحَياة وَأَبْكِيـ
ـكِ على ما فَعَلْتِ لا ما فَعَلْتُ

ويكتب نزار قباني على «الكامل» قصيدته «ديك الجن الدمشقي»، مُستعيدًا أَجْواءَ هذا المشهد القديم، ويُعيد قراءته قراءة جديدة، حيث ينقل إِلينا إِحساس ديك الجن الذي رُبَّما لم يظهر بوضوح في نصه السابق، ورُبَّما أَبدى شيئًا منه. ويقول نزار ما لم يقله ديك الجن، ويبقى «ديك الجن» رمزًا للعاشقين الذين سعوا، ويسعون إِلى التخلص من معشوقاتهم (أو مقتنياتهم، أو بعض الأماكن مثلًا)، حتَّى ولو لم يكن بالقتل، لكنَّ أَرواحهن تطاردهم، في كلِّ الجهات، يقول نزار:
فِي كُلِّ زاويةٍ.. أَرَاكِ 
وَكُلِّ فاصلةٍ كتبتُ 
في الطيبِ، في غَيْمِ السجائر، 
في الشراب إذا شربتُ 
أنتِ القتيلةُ.. أم أنا؟ 
حتى بموتكِ.. ما استرحتُ 
حسناءُ... لم أقتُلْكِ أَنتِ... 
وإِنَّمَا نفسي... قتلتُ

غير أَنَّ ديك الجن كتبَ في موضع آخر على «الكامل» فِي ندمِه على قتله لِزوجه ورد، وفي هذا النص قَدْ بَدَا لنا ما أَخْفَاه فِي نَصِّه الأَوَّل، فَإِنْ كان ديك الجن قَدْ قتلَ وردًا فِي حالةٍ من اللاوعي، فَإِنَّه قَد نَدمَ على فعلِه في حالةِ الوعي، تلك الحالة التي شهدت كتابةَ هذه الأَبيات:
يا طَلْعَة طَلَعَ الحِمَامُ عليها
وجَنَى لَهَا ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْهَا
رَوَّيْتُ مِنْ دَمِهَا الثَّرى ولَطَالَما
رَوَّى الهوى شَفَتَيَّ مِنْ شَفَتَيْها
قَدْ باتَ سَيفي في مجالِ وِشَاحِها
وَمَدَامِعي تَجْرِي على خَدَّيْها
فَوَحَقِّ نَعْلَيْها، وما وَطِئ الحَصَى
شَيْءٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَعْلَيْها
ما كانَ قَتْليها لأَنِّي لَمْ أَكُنْ
أَبْكِي إِذا سَقَطَ الذُّبابُ عَلَيْهَا
لكنْ ضَنَنْتُ على العُيُونِ بِحُسْنِها
وأَنِفْتُ مِنْ نَظَرِ الحَسودِ إِلَيها

أَمَّا في العصر الحديث، فقد رَأَيْنا الكثير من القصائد التي نعت المرأةَ، وبكتْ فقدَها، وهذا هو البارودي في رائعة لم تغب عن ذاكرة الشعراء والنقاد ومتذوقي الشعر، تلك التي رثا فيها زوجه، وما زالت الكتبُ البحثيَّةُ والنقديَّةُ تَتَناقلها وتحظى بقراءات مُتَعَدِّدةٍ، يقول البارودي:
يَا دَهْرُ فِيمَ فَجَعْتَنِي بِحَلِيلةٍ
كَانَتْ خُلاصَةَ عُدَّتِي وَعَتَادِي؟
إِنْ كُنتَ لَمْ تَرْحمْ ضنَاي لِبُعْدِهَا
أَفَلا رَحِمْتَ مِنَ الأَسَى أَوْلادِي؟
أَفْرَدْتَهُنَّ فَلَمْ يَنَمْنَ تَوَجُّعًا
قَرْحَى العُيُونِ رَوَاجفَ الأَكْبَادِ     
أَلْقَيْنَ دُرَّ عُقُودِهِنَّ وَصُغْنَ مِنْ
دُرِّ الدُّمُوعِ قَلائِدَ الأَجْيَادِ
يَبْكِينَ مِنْ وَلَهٍ فِرَاقَ حَفيَّةٍ
كانَتْ لَهُنّ كَثِيرَةَ الإِسْعَادِ
فَخُدُودُهُنَّ مِنَ الدُّمُوعِ نَديةٌ
وَقُلُوبُهُنَّ مِنَ الْهُمُومِ صَوَادِي
أَسَلِيلَةَ القَمَرَيْنِ! أَيُّ فَجِيعَةٍ
حَلَّتْ لِفَقْدِكِ بَيْنَ هَذَا النَّادِي
أَعْزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكِ رَهينَةً
فِي جَوْفِ أَغْبرَ قَاتِمِ الأَسْدَادِ

وتأْتي مطوَّلةُ نزار قباني في رثاء زوجه بلقيس - مِنْ شعرِنا المعاصرِ - أَيْقُونةً للوجع، ومُعلقةً للحُزْنِ، وشاهدَ عيان على صرخات الحريَّة في سبيل كسر قُيُودِها، ونافذةً للولوج إِلى الحقيقةِ الغائبة:   
شُكرًا لكم...
شُكرًا لكم..
فحبيبتي قُتِلَت... وصار بوُسْعِكُم    
أَنْ تشربوا كأسًا على قبر الشهيدهْ
وقصيدتي اغْتِيلتْ...
وهل من أُمَّـةٍ في الأَرضِ...
- إِلا نحنُ - نغتالُ القصيدةْ؟
بلقيسُ...
كانتْ أَجملَ المَلِكَاتِ في تاريخ بابِلْ
بلقيسُ...
كانَتْ أَطولَ النَخْلاتِ في أَرض العراقْ
كانَتْ إِذا تمشي...
ترافقُها طواويسٌ...
وتتبعُها أَيائِلْ...
بلقيسُ... يا وَجَعِي...
ويا وَجَعَ القصيدةِ حين تلمَسُهَا الأَناملْ
هل يا تُرى...
من بعد شَعْرِكِ سوفَ ترتفعُ السنابلْ؟

لقد صنعت اللغةُ من الذكريات اليوميَّة، والمعالم الحياتيَّة شعريةً عاليةً، قائمة على كثيرٍ من الأَساليب اللغويَّة مثل المفارقات والانزياحات، وغيرهاـ ولا يمكن بحال إِغفال بلقيس، لكونها صاحبة هذه القصيدة، ومركز تحوّل الشعريَّة فيها:
بلقيسُ... يا بلقيسُ...
لو تدرينَ ما وَجَعُ المكانِ...
في كُلِّ ركنٍ... أنتِ حائمةٌ كعصفورٍ...
وعابقةٌ كغابةِ بَيْلَسَانِ...
فهناكَ... كنتِ تُدَخِّنِينَ...
هناكَ... كنتِ تُطالعينَ...
هناكَ... كنتِ كنخلةٍ تَتَمَشَّطِينَ...
وتدخُلينَ على الضيوفِ...
كأنَّكِ السَّيْفُ اليَمَاني...

إِنَّ كلَّ كتابةٍ مُغايرةٍ ومُبدعةٍ يكون وراءَها عاملان: فني ومعنوي يدفعان بها نحو شعريَّة عالية، إِذ ليست كلُّ كتابةٍ تتسم بالشعريَّة المطلقة مهما أُتيح لها من آليات حتى لدى الرواد في كلِّ العصور الأَدبية؛ حيث إِنَّ كلَّ كتابةٍ لها ظروفها الخاصة. 
نعم يستطيع الشاعر أَنْ يبدع في كتاباته إِذا ما امتلك مقوماتها من الانتقاء والاختيار؛ ذلك أَنَّ مقياس الشعريَّة يكمن في تفوق لغة الشعر، لكن لا يمكن بحال إِغفال دواعي الكتابة ومُثيراتها – أي الدافع أو الجانب المعنوي - في تحولات الشعريَّة بالنص الشعري. وقد كانت المرأَةُ مثالًا واضحًا للدافع المعنوي ضمن سلسلة من الدوافع المُثيرة التي تعمل على تحول لغة القصيدة، وتعدد مفاتنها في كلِّ العصور ■