مونتابيث والأندلس.. الدلالة والرمزية
كتاب «الأندلس... الدلالة والرمزية» من أجلّ ما صدر عن الأندلس بلغتنا أو باللغات الأخرى، وقد كتبه مستعرب كبير هو البروفيسور بيدرو مارتينيز مونتابيث الرئيس السابق لجامعة مدريد (أوتونوما) باللغة الإسبانية ونُقل حديثًا إلى العربية. الكتاب لا يشكل فعل حب للأندلس بقدر ما يشكّل فعل إيمان بهذه الحقبة من التاريخ التي تأبى أن تتحول إلى ماضٍ لفرط التصاقها بالوجدان وعصيانها على الموت لا عند العرب وحدهم، بل عند سواهم أيضًا.
ها هو مستعرب إسباني يكتب عن الأندلس وكأنها لم تبارح الواقع، وكأنها حيّة في الضمير والمخيلة والروح. الكتاب من أوله إلى آخره عبارة عن تأمل في الواقع الأندلسي العاثر وكونه ليس واقعًا وجيزًا أو ظرفيًا، ولا عابرًا ولا مشتتًا، بل هو على العكس من ذلك واقع كبير واسع الامتداد له استمراريته. ومؤلف الكتاب المتخصّص أصلًا بالعالم العربي المعاصر منحاز انحيازًا صريحًا للأندلس، ودفاعه عن وجودها الذي استمر ثمانية قرون في الجزيرة الإيبيرية، أقوى دفاع قدّمه عالم من العلماء أمام محكمة التاريخ، هذا العالم هو في الواقع نتاج عربي أندلسي مثله مثل الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا الذي كان يقول إنه ينتمي إلى مملكة غرناطة النصرية.
يناضل مونتابيث على جبهات عدة في كتابه، أولاها الجبهة الإسبانية. فالمعروف أن قسمًا كبيرًا من الإسبان يعتبر أن الأندلس مجرد «خدش» في جلدهم لا أكثر، وأنها عبارة عن اجتياح خارجي أو حتى بربري لبلادهم. ولكن مونتابيث، وهو ينطق باسم قسم آخر من الإسبان، يرى أن من الإساءة نحو التاريخ أن نستثني من الهوية الإسبانية الجماعية، واحدة من الفترات الأطول والأكثر خصوبة من صيرورتنا التاريخية هي فترة إسبانيا الأندلسية. فلماذا تركنا مكانًا لإسبانيا الرومانية، ولإسبانية القوطية الغربية، في حين أهملنا لقرون عدة القيام بالشيء نفسه مع إسبانيا الأندلسية؟ لا تتخذ الأندلس مقرًّا لها بنظره إلا في إسبانيا المتعددة والمتنوعة، إسبانيا المركبة. فيها وحدها مكانها الملائم، أي في إسبانيا التواصل ما بين الثقافات، وليس في إسبانيا المتعددة الثقافة وحسب. وتاليًا، فإن الأندلس إنما نقبلها وندمجها على ما هي عليه في الحقيقة: إنها واحدة من مقومات الواقع الإسباني الكثيرة، واحدة من أوجه غناها المتعددة.
دراسة محترفة
يصعب على مونتابيث أن يفهم رفض كثيرين من الإسبان، إلى اليوم، الإقرار بأن الواقع الأندلسي جزء كما غيره من تاريخ إسبانيا. إنه عنده «جزء من تاريخنا القومي المشترك، ببؤسه وعظمته، بنوره وعتمته، بقممه ولججه العميقة. ويبدو أن الإقرار بهذا الجزء الفريد من تراثنا بنزاهة، لن يحصل إلا إذا رجونا، إن على المستوى الفردي أو الجماعي، بروز عناصر غير متوقعة، قد تكون عقائدية أو نفسية بشكل خاص، تقودنا إلى الشك بتحقق هذا القبول الطبيعي نهائيًا. ونخشى ما نخشاه في هذا المجال أن يتغلّب اللاّوعي على الوعي والإدراك ونعتبره نوعًا من وصمة العار».
ويسجل مونتابيث على الجبهة العربية أكثر من ملاحظة، فهو يقول إن أغلبية العرب يعتبرون الكيان الأندلسي خاصًّا بهم بالكامل، كيانًا واقعًا في الماضي. وقد ساد هذا المفهوم بين أكثرية العرب لفترة زمنية لا يُستهان بها. ومع ذلك لا بدّ من الإقرار بأن السنوات الأخيرة قد شهدت مجهودًا فكريًا عربيًا في مجال دراسة الواقع الأندلسي دراسة محترفة قائمة على البحث والتقصي. فاقترن ذلك بتفسيرات ابتعدت عن الأحاديّة نوعًا ما وعن استبعاد الآخر، واقتربت إلى ضرورة تقاسم ذلك الماضي مع الإسبان. من هذا المنطلق كانت فكرة فهم الواقع الأندلسي وطرحه على أنه واقع إسباني عربي / إسلامي، لا أنه واقع عربي إسلامي نُقل إلى الأراضي الإيبيرية.
نظرة احتكارية
أندلسية مونتابيث لا تعفيه إذن من توجيه اللوم إلى «نظرة» عربية احتكارية للأندلس. الأندلس عنده واقع مقسوم وإرث مشترك. هي عربية وإسبانية معًا، وليست ملكًا لأحد الشعبين وحده. بل هي بوجه من الوجوه ليست ملكًا حصريًا للإسبان، ولا للإسبان والعرب من دون سواهم، إنها ملك البشرية جمعاء. ذلك أن الاحتكار لا محل له في مجالات الفكر والعاطفة. ولكن بالنسبة إلى الخيال العربي الجماعي، ينتمي الواقع الأندلسي إلى الماضي، وإن لم يكن واقعًا مغلقًا ولا منتهيًا. وبتعبير آخر، فإن الواقع الأندلسي يشكل بالنسبة إلى العرب نوعًا من الإحراج الذي لا يمكن صرف النظر عنه، تناقضًا مثيرًا للقلق ومحتومًا يكمن في منطقة جمالية من خيالهم الجماعي لا يمكن استبدالها بأي منطقة أخرى. «في تلك المنطقة بالذات تقوم عظمة الكيان الأندلسي وشقاؤه، كما عملية التعبير المحنّط. هذه الحالة الأصلية تؤثر تأثيرًا متواترًا في نظرة العرب إلى العرق الإسباني وفي العاطفة التي يكنّونها له. لقد قال الشاعر السوري نزار قباني منذ سنوات عديدة، وبطريقة رائعة ومختصرة، إن إسبانيا تشكل بالنسبة إلى العرب وجدًا تاريخيًا مستحيلًا. أما ذاك الوجد الجمالي الأدبي المتجذر في التربة الأندلسية الأعمق والذي يتغذّى من رحمها، فيفضّل الاستعارة ويسعى طوعًا إلى تركيب صور مثالية بامتياز يكيّف فيها مكوّن التجريد المحتوم مع المكوّن العاطفي النقي. إنه وجد مزدوج يؤدي وظيفة مكملة: إنه وجد مثقل بخليط من الألم والحب والابتهاج والحزن.
الواقع الأندلسي واقع «كان ووُجد»، لكنه لم يكفّ عن الكينونة والوجود. إنه ماض لم ينطفئ، نهاية لها استمراريتها الغريبة. أما الامتناع عن القيام بذلك، فيشوّه الحقائق والوقائع أو يفسدها ويضرب بعرض الحائط الوجد التاريخي.
الأندلس مستمرة إذن عند مونتابيث، وهي استمرارية تحتية. إنهاء الأندلس زمنيًا يبقى نوعًا فريدًا من التراث والتركة، يضمّ إليه آليات وعمليات متوسطة خاصة بالكيان الإسباني من جهة، وبالكيان الإسلامي العربي من جهة أخرى. للمفارقة، يجفّ النهر الذي يجري على السطح، لكنه يستمرّ بالجريان عبر تيّارين جوفيين يسقيان الذاكرة الجماعية لكل من الجماعتين العظيمتين. من هذا المنطلق يستخدم مونتابيث صفة «تحتية». ومع أن التراث الأندلسي سوف يعود ويطفو عرضيًا على السطح، فهو يفضّل أن يجري كما النهر العميق الداخلي، فيكتسب بذلك على امتداد تلك العملية الحميمة الواسعة، قيمًا وأبعادًا عاطفية، لا واعية في حالات كثيرة ترتسم بسهولة نسبية كأبعاد متناقضة. ليس غريبًا بالتالي أن يُدرك الكيان الأندلسي على أنه نوع من الانفعال فائق الوصف لا يسعنا لكي نصفه ونعرضه إلا أن نعود إلى عالم المجاز وما يشمله من جدلية وإيحائية.
يطرح مونتابيث في كتابه السؤال التالي: بمَ يختلف تاريخ إسبانيا في العصور الوسطى عن تاريخ البلدان الأخرى؟ أين يكمن الفارق الأساسي؟ ويجيب: ببساطة في وجود الأندلس، في تمييز الأندلس عما نسمّيه إسبانيا. الكيان الأندلسي مختلف. لا أقصد بأنه أفضل أو أسوأ من إسبانيا، بل إنه متميز، مختلف وغريب!
حضارة النص
في بعض صفحات كتابه ينقل المستعرب الإسباني الكبير عبارة للدكتور نصر حامد أبوزيد تقول: «ليس من قبيل التبسيط أن نصف الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة «النص»، بمعنى أنها حضارة أثبتت أسسها وقامت علومها وثقافتها على أساس لا يمكن تجاهل مركز «النص» فيه... وللقرآن الكريم في حضارتنا دور ثقافي لا يمكن تجاهله في تشكل ملامح هذه الحضارة وفي تحديد طبيعة علومها. وإذا صحّ لنا بكثير من التبسيط أن نختزل الحضارة في بُعد واحد من أبعادها، لصحّ لنا أن نقول إن الحضارة المصرية القديمة هي حضارة «ما بعد الموت»، وإن الحضارة اليونانية هي حضارة «العقل». أما الحضارة العربية الإسلامية فهي حضارة «النص».
ينقل مونتابيث هذه العبارة ليقول: «أزداد ثقة يومًا بعد يوم بأن الواقع الأندلسي هو بالنسبة إلينا نص: نص لم يلقَ إلى الآن الفهم والإدراك الكافيين. ما زال كثير من مقاطعه وفقراته مُبهمًا وغامضًا، يفتقر في أقسام كثيرة منه إلى التفسير والتقويم الصحيحَين. حتى أنني أسمح لنفسي بأن أصفه بأكثر النصوص غموضًا في مجلدنا التاريخي الجماعي والقومي، إنها نظرتي إلى الموضوع بكل بساطة».
ومن أطرف ما يذكره أن الإسبان في القرون الوسطى تمكّنوا من أن يطردوا الموريسكيين، لكنهم عجزوا عن طرد الأندلس... وأن الإسبان المعاصرين يتحدثون عن «تركة المسيحية في الثقافة الإسبانية، وعن «إسبانيا اليهودية»، ولكنهم عندما يصلون إلى الأندلس يتحدثون عن «الغزو العربي» أو «الغزو الإسلامي» في حين لا تُستخدم أبدًا عبارة «الغزو الروماني». وأقصى ما ظفرت به الحقبة العربية الإسلامية في إسبانيا عبارة «الإسلام في إسبانيا»!
ويروي مونتابيث أن أحفاده طرحوا عليه سؤالين يثيران القلق: «فحفيدي سيرجيو لم يتوصل إلى تبرير استخدام عبارة «الغزو العربي» لدى تفسير تاريخ إسبانيا، في حين أنهم لا يستخدمون أبدًا مثلها عن الحقبة الرومانية أو حقبة القوط الغربيين. ومن جهتها سألتني حفيدتي بلانكا: جدّي! أليس من حسنة وصفة حميدة في الإسلام؟ لعلّ هذه التساؤلات ما زالت تُطرح لأننا لم ننجح إلى اليوم في وضع الأندلس في المكان الملائم، وفي المكان الخاص بها ضمن الهوية الجماعية المتغيرة لإسبانيا. الاستمرار في ارتكاب هذا الخطأ الفادح يعني أن نجهل ما ستؤول إليه الأندلس والهوية الإسبانية.
ضمنًا يطلب مونتابيث في كتابه تغيير الصورة النمطية لدى العرب والإسبان عن الأندلس. إنه يقول للعرب إن الأندلس ليست لكم وحدكم، لكنها لنا ولكم. تأملوا جيدًا في سيرتها وإنجازاتها تجدون أنها تخصّنا معًا. كما يقول للإسبان إن عليهم أن يقرأوا التاريخ لا بعصبية ونزق، بل بالعقلانية والتأمل الهادئ اللذين قرأ بهما إمريكو كاسترو المؤرخ الإسباني العظيم هذا التاريخ وعندها تجدون أن الأندلس جزء لا يتجزأ من تاريخكم، جزء كما غيره من أجزاء هذا التاريخ، بل إن التاريخ الإسباني المعاصر لم يتشكل على النحو الذي تشكل عليه إلا بفضل الحقبة الأندلسية التي استمرت ثمانمئة سنة وهي حقبة كانت أطول بكثير من أي حقبة أخرى في تاريخ إسبانيا.
الأندلس إذن عربية وإسبانية معًا، بل هي من العصور الذهبية في تاريخ العرب وتاريخ الإسبان. وعندما نقول ذلك يعتبر دعاة التضليل والإساءة تأييد الوجود الأندلسي نوعًا من مناهضة الهوية الإسبانية.
يا لها من معادلة بائسة تفتقر إلى قواعد ومبررات، إلى تفسيرات وأدلة! فأي إسبانيا يعرف هؤلاء؟ عن أي إسبانيا يدافعون، وأي إسبانيا يريدون؟ ما هي يا ترى دائرة العدائية والكره التي يغرقون في بحثها ويصرّون على البقاء فيها؟ إن ردة فعلهم لا تعبّر عن رفضهم تقبُل الآخر وحسب، بل أيضًا عن حقد متراكم لا يسعهم قمعه».
الواضح أن المستعرب الإسباني يناضل بضراوة على جبهته الإسبانية التي لا تزال ترزح تحت عبء التاريخ وبخاصة تاريخ القرون الوسطى وحروبه الدينية، في حين أنه هو ينتمي إلى نخبة من المستعربين الإسبان يرون أن الحقبة الوسطى شهدت على إسلام إسباني مفعم بالحياة والابتكار، مهّد ما اتّسم به من غنى وفكر وتعقيد إلى الإنجازات الكبرى لإسبانيا العتيدة، وأن الدَين الثقافي الذي اكتسبه الأوربيون من العرب المسلمين دَين هائل لا يعلم به أحد: فلا بد لنا نحن الأوربيين من الاعتراف بهذا الدين الثقافي العظيم، فهو، على خلاف الدين الاقتصادي، غير قابل للسداد بالمال.
الأندلس لم تمت إذن عند مونتابيث، بل لم تُهزم ولم تُنكب، وفيها يرقد الجمال. صحيح أنه واقع انتهى في الزمن، لكنه لم ينتهِ من المخيلة أو من الذاكرة الاجتماعية. وبلغة تاريخية، يمكن القول إن الواقع الأندلسي واقع منجز ومغلق وإن كان ينتمي إلى الماضي ويستقرّ فيه، إلا أن بُعده الرمزي الملاصق له يُضفي عليه أبعادًا أخرى تتخطّى البعد الزمني البحت، كما يُضفي عليه طابع الدوام والاستمرارية الرائعَين والمذهلَين. وهو طابع لا يمكن مقارنته بذاك الذي يشوب الوقائع التاريخية المماثلة. البُعد الرمزي للأندلس يشكل جزءًا من تميّزه وتفرّده، وهو جزء لا بدّ من أخذه في الحسبان وفهمه كما يستحق.
عرفت الأندلس في التاريخ الإنساني المعاصر عشّاقًا كثيرين، معاميد، بلغة شوقي، أحدثُهم وأشدُّهم بسالة وإخلاصًا، المستعرب الإسباني الكبير بيدرو مارتينيز مونتابيث الذي ينتمي إلى سلالة مباركة من المستعربين الإسبان، هم في الواقع عرب مثلنا تجمعهم بنا مواجد وقيم واحدة تتصل بالماضي كما تتصل بالحاضر والمستقبل. ولا أدلّ على ذلك من هذا الشجن الخفي الحزين الذي ينبعث من كتاب (الأندلس/ الدلالة والرمزية)، وهو شجن يبدو أن لا شفاء له، تمامًا كذاك الشجن كان يغلي في صدر تلك الأم التي فقدت دفعة واحدة كل أولادها وفقدت معهم القدرة على أن تتعزّى «لأنهم ليسوا بموجودين»، على حدّ ما ورد في بعض الكتب الدينية.
أنين أندلسي
بيدرو مونتابيث منّا نحن العرب وليس مستعربًا، والأنين الذي ينبعث من كتابه أنين أندلسي غير قابل للشفاء، أنين يرسو صاحبه على شاطئ الأندلس ويأبى أن يغادره لأنه إلى ضفتي هذا الشاطئ ينتمي لا إلى إحداهما دون الأخرى، ولأن على هاتين الضفتين معًا ينتشر إخوته وأهله.
وأودّ الإشارة أخيرًا إلى أن كتاب مونتابيث يحتوي في متون صفحاته على مراجع إسبانية وإنجليزية وفرنسية حديثة عن الأندلس والغرب الإسلامي جديرة بأن تُنقل إلى العربية، وذلك لتحديث مكتبتنا العربية الأندلسية التي يعود قسم كبير منها إلى النصف الأول من القرن العشرين، أي إلى زمن محمد عبدالله عنان الذي كان من أوائل الذين كتبوا عن الأندلس، رحمات الله عليه وعليهم. لقد شاخت هذه المكتبة وباتت الحاجة ملحة إلى تزويدها بالجديد حول الأندلس درة تاريخنا وهو كثير في الغرب. وهو جهد ينبغي أن تتعاون في إنجازه دوائر يُفترض أنها معنية به مثل الدائرة الثقافية في جامعة الدول العربية ووزارات الثقافة العربية. وإلى هذه الدوائر نحيل اقتراح مونتابيث إلى لقاءات عربية / إسبانية «تناقش في العمق، وبعيدًا عن الشكوك والطروح البيانية التقليدية والمجاملات المصطنعة، وبمنتهى الصدق والدقة الذهنية، طريقة تصوّرهم وقراءتهم للأندلس، وطريقتنا نحن في ذلك»، وهو اقتراح يستحق أن يُتابَع وأن يتحقّق .