مونتابيث والأندلس.. الدلالة والرمزية

مونتابيث والأندلس.. الدلالة والرمزية

كتاب‭ ‬‮«‬الأندلس‭... ‬الدلالة‭ ‬والرمزية‮»‬‭ ‬من‭ ‬أجلّ‭ ‬ما‭ ‬صدر‭  ‬عن‭ ‬الأندلس‭ ‬بلغتنا‭ ‬أو‭ ‬باللغات‭ ‬الأخرى،‭ ‬وقد‭ ‬كتبه‭ ‬مستعرب‭ ‬كبير‭  ‬هو‭ ‬البروفيسور‭  ‬بيدرو‭ ‬مارتينيز‭ ‬مونتابيث‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬لجامعة‭ ‬مدريد‭ (‬أوتونوما‭) ‬باللغة‭ ‬الإسبانية‭ ‬ونُقل‭ ‬حديثًا‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭. ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬يشكل‭ ‬فعل‭ ‬حب‭ ‬للأندلس‭ ‬بقدر‭  ‬ما‭ ‬يشكّل‭ ‬فعل‭ ‬إيمان‭ ‬بهذه‭ ‬الحقبة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬التي‭ ‬تأبى‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬ماضٍ‭ ‬لفرط‭ ‬التصاقها‭ ‬بالوجدان‭ ‬وعصيانها‭ ‬على‭ ‬الموت‭ ‬لا‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬وحدهم،‭ ‬بل‭ ‬عند‭ ‬سواهم‭ ‬أيضًا‭. ‬

ها‭ ‬هو‭ ‬مستعرب‭ ‬إسباني‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬الأندلس‭ ‬وكأنها‭ ‬لم‭ ‬تبارح‭ ‬الواقع،‭ ‬وكأنها‭ ‬حيّة‭ ‬في‭ ‬الضمير‭ ‬والمخيلة‭ ‬والروح‭. ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬أوله‭ ‬إلى‭ ‬آخره‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬تأمل‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الأندلسي‭ ‬العاثر‭ ‬وكونه‭ ‬ليس‭ ‬واقعًا‭ ‬وجيزًا‭ ‬أو‭ ‬ظرفيًا،‭ ‬ولا‭ ‬عابرًا‭ ‬ولا‭ ‬مشتتًا،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬واقع‭ ‬كبير‭ ‬واسع‭ ‬الامتداد‭ ‬له‭ ‬استمراريته‭. ‬ومؤلف‭ ‬الكتاب‭ ‬المتخصّص‭ ‬أصلًا‭ ‬بالعالم‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬منحاز‭ ‬انحيازًا‭ ‬صريحًا‭ ‬للأندلس،‭ ‬ودفاعه‭ ‬عن‭ ‬وجودها‭ ‬الذي‭ ‬استمر‭ ‬ثمانية‭ ‬قرون‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬الإيبيرية،‭ ‬أقوى‭ ‬دفاع‭ ‬قدّمه‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬التاريخ،‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬نتاج‭ ‬عربي‭ ‬أندلسي‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬الشاعر‭ ‬الإسباني‭ ‬فيديريكو‭ ‬غارثيا‭ ‬لوركا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬مملكة‭ ‬غرناطة‭ ‬النصرية‭.‬

يناضل‭ ‬مونتابيث‭ ‬على‭ ‬جبهات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬كتابه،‭ ‬أولاها‭ ‬الجبهة‭ ‬الإسبانية‭. ‬فالمعروف‭ ‬أن‭ ‬قسمًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬الإسبان‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬الأندلس‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬خدش‮»‬‭ ‬في‭ ‬جلدهم‭ ‬لا‭ ‬أكثر،‭ ‬وأنها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬اجتياح‭ ‬خارجي‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬بربري‭ ‬لبلادهم‭. ‬ولكن‭ ‬مونتابيث،‭ ‬وهو‭ ‬ينطق‭ ‬باسم‭ ‬قسم‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الإسبان،‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الإساءة‭ ‬نحو‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬نستثني‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬الإسبانية‭ ‬الجماعية،‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الفترات‭ ‬الأطول‭ ‬والأكثر‭ ‬خصوبة‭ ‬من‭ ‬صيرورتنا‭ ‬التاريخية‭ ‬هي‭ ‬فترة‭ ‬إسبانيا‭ ‬الأندلسية‭. ‬فلماذا‭ ‬تركنا‭ ‬مكانًا‭ ‬لإسبانيا‭ ‬الرومانية،‭ ‬ولإسبانية‭ ‬القوطية‭ ‬الغربية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أهملنا‭ ‬لقرون‭ ‬عدة‭ ‬القيام‭ ‬بالشيء‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬إسبانيا‭ ‬الأندلسية؟‭ ‬لا‭ ‬تتخذ‭ ‬الأندلس‭ ‬مقرًّا‭ ‬لها‭ ‬بنظره‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬المتعددة‭ ‬والمتنوعة،‭ ‬إسبانيا‭ ‬المركبة‭. ‬فيها‭ ‬وحدها‭ ‬مكانها‭ ‬الملائم،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬التواصل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الثقافات،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬المتعددة‭ ‬الثقافة‭ ‬وحسب‭. ‬وتاليًا،‭ ‬فإن‭ ‬الأندلس‭ ‬إنما‭ ‬نقبلها‭ ‬وندمجها‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭: ‬إنها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬مقومات‭ ‬الواقع‭ ‬الإسباني‭ ‬الكثيرة،‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬غناها‭ ‬المتعددة‭.‬

 

دراسة‭ ‬محترفة

يصعب‭ ‬على‭ ‬مونتابيث‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬رفض‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬الإسبان،‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬الإقرار‭ ‬بأن‭ ‬الواقع‭ ‬الأندلسي‭ ‬جزء‭ ‬كما‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬إسبانيا‭. ‬إنه‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬جزء‭ ‬من‭ ‬تاريخنا‭ ‬القومي‭ ‬المشترك،‭ ‬ببؤسه‭ ‬وعظمته،‭ ‬بنوره‭ ‬وعتمته،‭ ‬بقممه‭ ‬ولججه‭ ‬العميقة‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الإقرار‭ ‬بهذا‭ ‬الجزء‭ ‬الفريد‭ ‬من‭ ‬تراثنا‭ ‬بنزاهة،‭ ‬لن‭ ‬يحصل‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬رجونا،‭ ‬إن‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الفردي‭ ‬أو‭ ‬الجماعي،‭ ‬بروز‭ ‬عناصر‭ ‬غير‭ ‬متوقعة،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬عقائدية‭ ‬أو‭ ‬نفسية‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬تقودنا‭ ‬إلى‭ ‬الشك‭ ‬بتحقق‭ ‬هذا‭ ‬القبول‭ ‬الطبيعي‭ ‬نهائيًا‭. ‬ونخشى‭ ‬ما‭ ‬نخشاه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬أن‭ ‬يتغلّب‭ ‬اللاّوعي‭ ‬على‭ ‬الوعي‭ ‬والإدراك‭ ‬ونعتبره‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬وصمة‭ ‬العار‮»‬‭.‬

ويسجل‭ ‬مونتابيث‭ ‬على‭ ‬الجبهة‭ ‬العربية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ملاحظة،‭ ‬فهو‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬أغلبية‭ ‬العرب‭ ‬يعتبرون‭ ‬الكيان‭ ‬الأندلسي‭ ‬خاصًّا‭ ‬بهم‭ ‬بالكامل،‭ ‬كيانًا‭ ‬واقعًا‭ ‬في‭ ‬الماضي‭. ‬وقد‭ ‬ساد‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬بين‭ ‬أكثرية‭ ‬العرب‭ ‬لفترة‭ ‬زمنية‭ ‬لا‭ ‬يُستهان‭ ‬بها‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬الإقرار‭ ‬بأن‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬قد‭ ‬شهدت‭ ‬مجهودًا‭ ‬فكريًا‭ ‬عربيًا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬دراسة‭ ‬الواقع‭ ‬الأندلسي‭ ‬دراسة‭ ‬محترفة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬والتقصي‭. ‬فاقترن‭ ‬ذلك‭ ‬بتفسيرات‭ ‬ابتعدت‭ ‬عن‭ ‬الأحاديّة‭ ‬نوعًا‭ ‬ما‭ ‬وعن‭ ‬استبعاد‭ ‬الآخر،‭ ‬واقتربت‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬تقاسم‭ ‬ذلك‭ ‬الماضي‭ ‬مع‭ ‬الإسبان‭. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬كانت‭ ‬فكرة‭ ‬فهم‭ ‬الواقع‭ ‬الأندلسي‭ ‬وطرحه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬واقع‭ ‬إسباني‭ ‬عربي‭ / ‬إسلامي،‭ ‬لا‭ ‬أنه‭ ‬واقع‭ ‬عربي‭ ‬إسلامي‭ ‬نُقل‭ ‬إلى‭ ‬الأراضي‭ ‬الإيبيرية‭.‬

 

نظرة‭ ‬احتكارية

أندلسية‭ ‬مونتابيث‭ ‬لا‭ ‬تعفيه‭ ‬إذن‭ ‬من‭ ‬توجيه‭ ‬اللوم‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬نظرة‮»‬‭ ‬عربية‭ ‬احتكارية‭ ‬للأندلس‭. ‬الأندلس‭ ‬عنده‭ ‬واقع‭ ‬مقسوم‭ ‬وإرث‭ ‬مشترك‭. ‬هي‭ ‬عربية‭ ‬وإسبانية‭ ‬معًا،‭ ‬وليست‭ ‬ملكًا‭ ‬لأحد‭ ‬الشعبين‭ ‬وحده‭. ‬بل‭ ‬هي‭ ‬بوجه‭ ‬من‭ ‬الوجوه‭ ‬ليست‭ ‬ملكًا‭ ‬حصريًا‭ ‬للإسبان،‭ ‬ولا‭ ‬للإسبان‭ ‬والعرب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سواهم،‭ ‬إنها‭ ‬ملك‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الاحتكار‭ ‬لا‭ ‬محل‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الفكر‭ ‬والعاطفة‭. ‬ولكن‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الخيال‭ ‬العربي‭ ‬الجماعي،‭ ‬ينتمي‭ ‬الواقع‭ ‬الأندلسي‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬واقعًا‭ ‬مغلقًا‭ ‬ولا‭ ‬منتهيًا‭.  ‬وبتعبير‭ ‬آخر،‭ ‬فإن‭ ‬الواقع‭ ‬الأندلسي‭ ‬يشكل‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الإحراج‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬صرف‭ ‬النظر‭ ‬عنه،‭ ‬تناقضًا‭ ‬مثيرًا‭ ‬للقلق‭ ‬ومحتومًا‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬جمالية‭ ‬من‭ ‬خيالهم‭ ‬الجماعي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬استبدالها‭ ‬بأي‭ ‬منطقة‭ ‬أخرى‭. ‬‮«‬في‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬بالذات‭ ‬تقوم‭ ‬عظمة‭ ‬الكيان‭ ‬الأندلسي‭ ‬وشقاؤه،‭ ‬كما‭ ‬عملية‭ ‬التعبير‭ ‬المحنّط‭. ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الأصلية‭ ‬تؤثر‭ ‬تأثيرًا‭ ‬متواترًا‭ ‬في‭ ‬نظرة‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬العرق‭ ‬الإسباني‭ ‬وفي‭ ‬العاطفة‭ ‬التي‭ ‬يكنّونها‭ ‬له‭. ‬لقد‭ ‬قال‭ ‬الشاعر‭ ‬السوري‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة،‭ ‬وبطريقة‭ ‬رائعة‭ ‬ومختصرة،‭ ‬إن‭ ‬إسبانيا‭ ‬تشكل‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬وجدًا‭ ‬تاريخيًا‭ ‬مستحيلًا‭. ‬أما‭ ‬ذاك‭ ‬الوجد‭ ‬الجمالي‭ ‬الأدبي‭ ‬المتجذر‭ ‬في‭ ‬التربة‭ ‬الأندلسية‭ ‬الأعمق‭ ‬والذي‭ ‬يتغذّى‭ ‬من‭ ‬رحمها،‭ ‬فيفضّل‭ ‬الاستعارة‭ ‬ويسعى‭ ‬طوعًا‭ ‬إلى‭ ‬تركيب‭ ‬صور‭ ‬مثالية‭ ‬بامتياز‭ ‬يكيّف‭ ‬فيها‭ ‬مكوّن‭ ‬التجريد‭ ‬المحتوم‭ ‬مع‭ ‬المكوّن‭ ‬العاطفي‭ ‬النقي‭. ‬إنه‭ ‬وجد‭ ‬مزدوج‭ ‬يؤدي‭ ‬وظيفة‭ ‬مكملة‭: ‬إنه‭ ‬وجد‭ ‬مثقل‭ ‬بخليط‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬والحب‭ ‬والابتهاج‭ ‬والحزن‭.‬

الواقع‭ ‬الأندلسي‭ ‬واقع‭ ‬‮«‬كان‭ ‬ووُجد‮»‬،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يكفّ‭ ‬عن‭ ‬الكينونة‭ ‬والوجود‭. ‬إنه‭ ‬ماض‭ ‬لم‭ ‬ينطفئ،‭ ‬نهاية‭ ‬لها‭ ‬استمراريتها‭ ‬الغريبة‭. ‬أما‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬القيام‭ ‬بذلك،‭ ‬فيشوّه‭ ‬الحقائق‭ ‬والوقائع‭ ‬أو‭ ‬يفسدها‭ ‬ويضرب‭ ‬بعرض‭ ‬الحائط‭ ‬الوجد‭ ‬التاريخي‭.‬

الأندلس‭ ‬مستمرة‭ ‬إذن‭ ‬عند‭ ‬مونتابيث،‭ ‬وهي‭ ‬استمرارية‭ ‬تحتية‭. ‬إنهاء‭ ‬الأندلس‭ ‬زمنيًا‭ ‬يبقى‭ ‬نوعًا‭ ‬فريدًا‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬والتركة،‭ ‬يضمّ‭ ‬إليه‭ ‬آليات‭ ‬وعمليات‭ ‬متوسطة‭ ‬خاصة‭ ‬بالكيان‭ ‬الإسباني‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبالكيان‭ ‬الإسلامي‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬للمفارقة،‭ ‬يجفّ‭ ‬النهر‭ ‬الذي‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬لكنه‭ ‬يستمرّ‭ ‬بالجريان‭ ‬عبر‭ ‬تيّارين‭ ‬جوفيين‭ ‬يسقيان‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬الجماعتين‭ ‬العظيمتين‭. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬يستخدم‭ ‬مونتابيث‭ ‬صفة‭ ‬‮«‬تحتية‮»‬‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬التراث‭ ‬الأندلسي‭ ‬سوف‭ ‬يعود‭ ‬ويطفو‭ ‬عرضيًا‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬فهو‭ ‬يفضّل‭ ‬أن‭ ‬يجري‭ ‬كما‭ ‬النهر‭ ‬العميق‭ ‬الداخلي،‭ ‬فيكتسب‭ ‬بذلك‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬تلك‭ ‬العملية‭ ‬الحميمة‭ ‬الواسعة،‭ ‬قيمًا‭ ‬وأبعادًا‭ ‬عاطفية،‭ ‬لا‭ ‬واعية‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬كثيرة‭ ‬ترتسم‭ ‬بسهولة‭ ‬نسبية‭ ‬كأبعاد‭ ‬متناقضة‭. ‬ليس‭ ‬غريبًا‭ ‬بالتالي‭ ‬أن‭ ‬يُدرك‭ ‬الكيان‭ ‬الأندلسي‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الانفعال‭ ‬فائق‭ ‬الوصف‭ ‬لا‭ ‬يسعنا‭ ‬لكي‭ ‬نصفه‭ ‬ونعرضه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬المجاز‭ ‬وما‭ ‬يشمله‭ ‬من‭ ‬جدلية‭ ‬وإيحائية‭.‬

يطرح‭ ‬مونتابيث‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭: ‬بمَ‭ ‬يختلف‭ ‬تاريخ‭ ‬إسبانيا‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬البلدان‭ ‬الأخرى؟‭ ‬أين‭ ‬يكمن‭ ‬الفارق‭ ‬الأساسي؟‭  ‬ويجيب‭: ‬ببساطة‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬الأندلس،‭ ‬في‭ ‬تمييز‭ ‬الأندلس‭ ‬عما‭ ‬نسمّيه‭ ‬إسبانيا‭. ‬الكيان‭ ‬الأندلسي‭ ‬مختلف‭. ‬لا‭ ‬أقصد‭ ‬بأنه‭ ‬أفضل‭ ‬أو‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬إسبانيا،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬متميز،‭ ‬مختلف‭ ‬وغريب‭!‬

 

حضارة‭ ‬النص

في‭ ‬بعض‭ ‬صفحات‭ ‬كتابه‭ ‬ينقل‭ ‬المستعرب‭ ‬الإسباني‭ ‬الكبير‭ ‬عبارة‭ ‬للدكتور‭ ‬نصر‭ ‬حامد‭ ‬أبوزيد‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬ليس‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬التبسيط‭ ‬أن‭ ‬نصف‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬بأنها‭ ‬حضارة‭ ‬‮«‬النص‮»‬،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬حضارة‭ ‬أثبتت‭ ‬أسسها‭ ‬وقامت‭ ‬علومها‭ ‬وثقافتها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهل‭ ‬مركز‭ ‬‮«‬النص‮»‬‭ ‬فيه‭... ‬وللقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬حضارتنا‭ ‬دور‭ ‬ثقافي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهله‭ ‬في‭ ‬تشكل‭ ‬ملامح‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة‭ ‬وفي‭ ‬تحديد‭ ‬طبيعة‭ ‬علومها‭. ‬وإذا‭ ‬صحّ‭ ‬لنا‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬التبسيط‭ ‬أن‭ ‬نختزل‭ ‬الحضارة‭ ‬في‭ ‬بُعد‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أبعادها،‭ ‬لصحّ‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬هي‭ ‬حضارة‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الموت‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬الحضارة‭ ‬اليونانية‭ ‬هي‭ ‬حضارة‭ ‬‮«‬العقل‮»‬‭. ‬أما‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬فهي‭ ‬حضارة‭ ‬‮«‬النص‮»‬‭.‬

ينقل‭ ‬مونتابيث‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬ليقول‭: ‬‮«‬أزداد‭ ‬ثقة‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬بأن‭ ‬الواقع‭ ‬الأندلسي‭ ‬هو‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا‭ ‬نص‭: ‬نص‭ ‬لم‭ ‬يلقَ‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭ ‬الفهم‭ ‬والإدراك‭ ‬الكافيين‭. ‬ما‭ ‬زال‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مقاطعه‭ ‬وفقراته‭ ‬مُبهمًا‭ ‬وغامضًا،‭ ‬يفتقر‭ ‬في‭ ‬أقسام‭ ‬كثيرة‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬التفسير‭ ‬والتقويم‭ ‬الصحيحَين‭. ‬حتى‭ ‬أنني‭ ‬أسمح‭ ‬لنفسي‭ ‬بأن‭ ‬أصفه‭ ‬بأكثر‭ ‬النصوص‭ ‬غموضًا‭ ‬في‭ ‬مجلدنا‭ ‬التاريخي‭ ‬الجماعي‭ ‬والقومي،‭ ‬إنها‭ ‬نظرتي‭ ‬إلى‭ ‬الموضوع‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬أطرف‭ ‬ما‭ ‬يذكره‭ ‬أن‭ ‬الإسبان‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬تمكّنوا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يطردوا‭ ‬الموريسكيين،‭ ‬لكنهم‭ ‬عجزوا‭ ‬عن‭ ‬طرد‭ ‬الأندلس‭... ‬وأن‭ ‬الإسبان‭ ‬المعاصرين‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬تركة‭ ‬المسيحية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسبانية،‭ ‬وعن‭ ‬‮«‬إسبانيا‭ ‬اليهودية‮»‬،‭ ‬ولكنهم‭ ‬عندما‭ ‬يصلون‭ ‬إلى‭ ‬الأندلس‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الغزو‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الغزو‭ ‬الإسلامي‮»‬‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬تُستخدم‭ ‬أبدًا‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬الغزو‭ ‬الروماني‮»‬‭. ‬وأقصى‭ ‬ما‭ ‬ظفرت‭ ‬به‭ ‬الحقبة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‮»‬‭!‬

ويروي‭ ‬مونتابيث‭ ‬أن‭ ‬أحفاده‭ ‬طرحوا‭ ‬عليه‭ ‬سؤالين‭ ‬يثيران‭ ‬القلق‭: ‬‮«‬فحفيدي‭ ‬سيرجيو‭ ‬لم‭ ‬يتوصل‭ ‬إلى‭ ‬تبرير‭ ‬استخدام‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬الغزو‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬تفسير‭ ‬تاريخ‭ ‬إسبانيا،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يستخدمون‭ ‬أبدًا‭ ‬مثلها‭ ‬عن‭ ‬الحقبة‭ ‬الرومانية‭ ‬أو‭ ‬حقبة‭ ‬القوط‭ ‬الغربيين‭. ‬ومن‭ ‬جهتها‭ ‬سألتني‭ ‬حفيدتي‭ ‬بلانكا‭:‬‭ ‬جدّي‭! ‬أليس‭ ‬من‭ ‬حسنة‭ ‬وصفة‭ ‬حميدة‭ ‬في‭ ‬الإسلام؟‭  ‬لعلّ‭ ‬هذه‭ ‬التساؤلات‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تُطرح‭ ‬لأننا‭ ‬لم‭ ‬ننجح‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الأندلس‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الملائم،‭ ‬وفي‭ ‬المكان‭ ‬الخاص‭ ‬بها‭ ‬ضمن‭ ‬الهوية‭ ‬الجماعية‭ ‬المتغيرة‭ ‬لإسبانيا‭. ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬ارتكاب‭ ‬هذا‭ ‬الخطأ‭ ‬الفادح‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬نجهل‭ ‬ما‭ ‬ستؤول‭ ‬إليه‭ ‬الأندلس‭ ‬والهوية‭ ‬الإسبانية‭.‬

ضمنًا‭ ‬يطلب‭ ‬مونتابيث‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬تغيير‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ ‬لدى‭ ‬العرب‭ ‬والإسبان‭ ‬عن‭ ‬الأندلس‭. ‬إنه‭ ‬يقول‭ ‬للعرب‭ ‬إن‭ ‬الأندلس‭ ‬ليست‭ ‬لكم‭ ‬وحدكم،‭ ‬لكنها‭ ‬لنا‭ ‬ولكم‭. ‬تأملوا‭ ‬جيدًا‭ ‬في‭ ‬سيرتها‭ ‬وإنجازاتها‭ ‬تجدون‭ ‬أنها‭ ‬تخصّنا‭ ‬معًا‭. ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬للإسبان‭ ‬إن‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يقرأوا‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬بعصبية‭ ‬ونزق،‭ ‬بل‭ ‬بالعقلانية‭ ‬والتأمل‭ ‬الهادئ‭ ‬اللذين‭ ‬قرأ‭ ‬بهما‭ ‬إمريكو‭ ‬كاسترو‭ ‬المؤرخ‭ ‬الإسباني‭ ‬العظيم‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬وعندها‭ ‬تجدون‭ ‬أن‭ ‬الأندلس‭ ‬جزء‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬تاريخكم،‭ ‬جزء‭ ‬كما‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬أجزاء‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسباني‭ ‬المعاصر‭ ‬لم‭ ‬يتشكل‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬تشكل‭ ‬عليه‭ ‬إلا‭ ‬بفضل‭ ‬الحقبة‭ ‬الأندلسية‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬ثمانمئة‭ ‬سنة‭ ‬وهي‭ ‬حقبة‭ ‬كانت‭ ‬أطول‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬حقبة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬إسبانيا‭.‬

الأندلس‭ ‬إذن‭ ‬عربية‭ ‬وإسبانية‭ ‬معًا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬العصور‭ ‬الذهبية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب‭ ‬وتاريخ‭ ‬الإسبان‭. ‬وعندما‭ ‬نقول‭ ‬ذلك‭ ‬يعتبر‭ ‬دعاة‭ ‬التضليل‭ ‬والإساءة‭ ‬تأييد‭ ‬الوجود‭ ‬الأندلسي‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬مناهضة‭ ‬الهوية‭ ‬الإسبانية‭. ‬

يا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬معادلة‭ ‬بائسة‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬قواعد‭ ‬ومبررات،‭ ‬إلى‭ ‬تفسيرات‭ ‬وأدلة‭! ‬فأي‭ ‬إسبانيا‭ ‬يعرف‭ ‬هؤلاء؟‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬إسبانيا‭ ‬يدافعون،‭ ‬وأي‭ ‬إسبانيا‭ ‬يريدون؟‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬دائرة‭ ‬العدائية‭ ‬والكره‭ ‬التي‭ ‬يغرقون‭ ‬في‭ ‬بحثها‭ ‬ويصرّون‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬فيها؟‭ ‬إن‭ ‬ردة‭ ‬فعلهم‭ ‬لا‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬رفضهم‭ ‬تقبُل‭ ‬الآخر‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬حقد‭ ‬متراكم‭ ‬لا‭ ‬يسعهم‭ ‬قمعه‮»‬‭.‬

الواضح‭ ‬أن‭ ‬المستعرب‭ ‬الإسباني‭ ‬يناضل‭ ‬بضراوة‭ ‬على‭ ‬جبهته‭ ‬الإسبانية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬ترزح‭ ‬تحت‭ ‬عبء‭ ‬التاريخ‭ ‬وبخاصة‭ ‬تاريخ‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬وحروبه‭ ‬الدينية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬المستعربين‭ ‬الإسبان‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬الحقبة‭ ‬الوسطى‭ ‬شهدت‭ ‬على‭ ‬إسلام‭ ‬إسباني‭ ‬مفعم‭ ‬بالحياة‭ ‬والابتكار،‭ ‬مهّد‭ ‬ما‭ ‬اتّسم‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬غنى‭ ‬وفكر‭ ‬وتعقيد‭ ‬إلى‭ ‬الإنجازات‭ ‬الكبرى‭ ‬لإسبانيا‭ ‬العتيدة،‭ ‬وأن‭ ‬الدَين‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬اكتسبه‭ ‬الأوربيون‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين‭ ‬دَين‭ ‬هائل‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬به‭ ‬أحد‭: ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬لنا‭ ‬نحن‭ ‬الأوربيين‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بهذا‭ ‬الدين‭ ‬الثقافي‭ ‬العظيم،‭ ‬فهو،‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬الدين‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للسداد‭ ‬بالمال‭.‬

الأندلس‭ ‬لم‭ ‬تمت‭ ‬إذن‭ ‬عند‭ ‬مونتابيث،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬تُهزم‭ ‬ولم‭ ‬تُنكب،‭ ‬وفيها‭ ‬يرقد‭ ‬الجمال‭. ‬صحيح‭ ‬أنه‭ ‬واقع‭ ‬انتهى‭ ‬في‭ ‬الزمن،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬ينتهِ‭ ‬من‭ ‬المخيلة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬الاجتماعية‭. ‬وبلغة‭ ‬تاريخية،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الواقع‭ ‬الأندلسي‭ ‬واقع‭ ‬منجز‭ ‬ومغلق‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬ويستقرّ‭ ‬فيه،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬بُعده‭ ‬الرمزي‭ ‬الملاصق‭ ‬له‭ ‬يُضفي‭ ‬عليه‭ ‬أبعادًا‭ ‬أخرى‭ ‬تتخطّى‭ ‬البعد‭ ‬الزمني‭ ‬البحت،‭ ‬كما‭ ‬يُضفي‭ ‬عليه‭ ‬طابع‭ ‬الدوام‭ ‬والاستمرارية‭ ‬الرائعَين‭ ‬والمذهلَين‭. ‬وهو‭ ‬طابع‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬مقارنته‭ ‬بذاك‭ ‬الذي‭ ‬يشوب‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية‭ ‬المماثلة‭. ‬البُعد‭ ‬الرمزي‭ ‬للأندلس‭ ‬يشكل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬تميّزه‭ ‬وتفرّده،‭ ‬وهو‭ ‬جزء‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬أخذه‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬وفهمه‭ ‬كما‭ ‬يستحق‭.‬

عرفت‭ ‬الأندلس‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني‭ ‬المعاصر‭ ‬عشّاقًا‭ ‬كثيرين،‭ ‬معاميد،‭ ‬بلغة‭ ‬شوقي،‭ ‬أحدثُهم‭ ‬وأشدُّهم‭ ‬بسالة‭ ‬وإخلاصًا،‭ ‬المستعرب‭ ‬الإسباني‭ ‬الكبير‭ ‬بيدرو‭ ‬مارتينيز‭ ‬مونتابيث‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬سلالة‭ ‬مباركة‭ ‬من‭ ‬المستعربين‭ ‬الإسبان،‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬عرب‭ ‬مثلنا‭ ‬تجمعهم‭ ‬بنا‭ ‬مواجد‭ ‬وقيم‭ ‬واحدة‭ ‬تتصل‭ ‬بالماضي‭ ‬كما‭ ‬تتصل‭ ‬بالحاضر‭ ‬والمستقبل‭. ‬ولا‭ ‬أدلّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشجن‭ ‬الخفي‭ ‬الحزين‭ ‬الذي‭ ‬ينبعث‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ (‬الأندلس‭/ ‬الدلالة‭ ‬والرمزية‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬شجن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬شفاء‭ ‬له،‭ ‬تمامًا‭ ‬كذاك‭ ‬الشجن‭ ‬كان‭ ‬يغلي‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬تلك‭ ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬فقدت‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة‭ ‬كل‭ ‬أولادها‭ ‬وفقدت‭ ‬معهم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تتعزّى‭ ‬‮«‬لأنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬بموجودين‮»‬،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الكتب‭ ‬الدينية‭.‬

 

أنين‭ ‬أندلسي

بيدرو‭ ‬مونتابيث‭ ‬منّا‭ ‬نحن‭ ‬العرب‭ ‬وليس‭ ‬مستعربًا،‭ ‬والأنين‭ ‬الذي‭ ‬ينبعث‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬أنين‭ ‬أندلسي‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للشفاء،‭ ‬أنين‭ ‬يرسو‭ ‬صاحبه‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬الأندلس‭ ‬ويأبى‭ ‬أن‭ ‬يغادره‭ ‬لأنه‭ ‬إلى‭ ‬ضفتي‭ ‬هذا‭ ‬الشاطئ‭ ‬ينتمي‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬إحداهما‭ ‬دون‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولأن‭ ‬على‭ ‬هاتين‭ ‬الضفتين‭ ‬معًا‭ ‬ينتشر‭ ‬إخوته‭ ‬وأهله‭.‬

وأودّ‭ ‬الإشارة‭ ‬أخيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭ ‬مونتابيث‭ ‬يحتوي‭ ‬في‭ ‬متون‭ ‬صفحاته‭ ‬على‭ ‬مراجع‭ ‬إسبانية‭ ‬وإنجليزية‭ ‬وفرنسية‭ ‬حديثة‭ ‬عن‭ ‬الأندلس‭ ‬والغرب‭ ‬الإسلامي‭ ‬جديرة‭ ‬بأن‭ ‬تُنقل‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬وذلك‭ ‬لتحديث‭ ‬مكتبتنا‭ ‬العربية‭ ‬الأندلسية‭ ‬التي‭ ‬يعود‭ ‬قسم‭ ‬كبير‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬محمد‭ ‬عبدالله‭ ‬عنان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬عن‭ ‬الأندلس،‭ ‬رحمات‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وعليهم‭. ‬لقد‭ ‬شاخت‭ ‬هذه‭ ‬المكتبة‭ ‬وباتت‭ ‬الحاجة‭ ‬ملحة‭ ‬إلى‭ ‬تزويدها‭ ‬بالجديد‭ ‬حول‭ ‬الأندلس‭ ‬درة‭ ‬تاريخنا‭ ‬وهو‭ ‬كثير‭ ‬في‭ ‬الغرب‭. ‬وهو‭ ‬جهد‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تتعاون‭ ‬في‭ ‬إنجازه‭ ‬دوائر‭ ‬يُفترض‭ ‬أنها‭ ‬معنية‭ ‬به‭ ‬مثل‭ ‬الدائرة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ووزارات‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭. ‬وإلى‭ ‬هذه‭ ‬الدوائر‭ ‬نحيل‭ ‬اقتراح‭ ‬مونتابيث‭ ‬إلى‭ ‬لقاءات‭ ‬عربية‭ /‬‭ ‬إسبانية‭ ‬‮«‬تناقش‭ ‬في‭ ‬العمق،‭ ‬وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الشكوك‭ ‬والطروح‭ ‬البيانية‭ ‬التقليدية‭ ‬والمجاملات‭ ‬المصطنعة،‭ ‬وبمنتهى‭ ‬الصدق‭ ‬والدقة‭ ‬الذهنية،‭ ‬طريقة‭ ‬تصوّرهم‭ ‬وقراءتهم‭ ‬للأندلس،‭ ‬وطريقتنا‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬ذلك‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬اقتراح‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يُتابَع‭ ‬وأن‭ ‬يتحقّق‭ .