لويز جلوك بين رحابة الآني وامتداد الأسطوري

لويز جلوك  بين رحابة الآني وامتداد الأسطوري

يتسم صوت الشاعرة الأمريكية لويز جلوك المتوجة أخيرًا بجائزة نوبل للآداب هذا العام بعدد من السمات المهمة، ويتضح من خطابها الشعري ونصوصها ومجموعاتها الشعرية العديدة والممتدة عبر سنوات بعيدة أنها تمتلك بصيرة أو رؤية شعرية تتسم بقدر كبير من التفرد والخصوصية، وفي تقديري أن الرؤية أو البصيرة الشعرية هي جوهر الشعر، لأنها تمكّن الشاعر من النفوذ إلى مساحات مجهولة أو شبه مجهولة، وترى فيها جديدًا وطازجًا، مساحات في الوجود أو النفس الإنسانية تجعلها قادرة على مقاربة الغائر والشديد العمق من الحالات الشعورية التي تتجلى أحيانًا في المشاهد العابرة، والتي ظاهرها أنها عادية أو متكررة أو ليس فيها جديد.

 

ثم هي بعد هذه الرؤية الشعرية الخاصة والفريدة تمتلك المقدرة اللغوية التي تجعلها تمنح هذه الحالات الشعرية العديدة وجودًا لغويًا يتسم بالعفوية والتدفق والتنوع في مستويات الإيقاع والتصوير أو الانزياحات، وغيرها من بقية جماليات البنية أو الشكل، فيتحقق لديها الجمع بين جمال الشكل وجمال المضمون.
تعتني الشاعرة كثــــيرًا بالفرديــــة، ولكــن في الوقت نفسه لا يمكن أن نزعم بإطلاق أنها تحللت من الكليات أو الأسئلة الكبرى، فسؤال الموت - مثلًا - حاضر لديها بقوة، ولكن عبر تمثّلات مختلفة وجديــــدة تمامًا، كذلك أسئلــــة كثيرة أخرى حول الحـــب وعلاقة الرجــــل بالمرأة والرغبة واحتياجات الجسد، وتتبدى في العمق لديها بعض اللمحات الغنوصية أو الروحانية التي هي ربما نتاج الشعور بوحدة الوجود واتحاد الإنسان بالأشياء الأخرى والعناصر الوجودية المختلفة وبخاصة النباتات والشجر. 
وفي تصوري أن من يقرأ هذه الشاعرة بدقة ويتأمل نصوصها وروافدها الجمالية ربما يخرج بنتيجة هي أن الشعر يمكن تعريفه بأن ترى شيئًا شديد العمق في الرتيب والمعتاد من مظاهر الوجود. في نص بعنوان «أرملتان» تختزل الشاعرة رحلة الإنسان كاملة وعلاقته مع الوجود من منظور الخسارة والفقد، وكيف يمكن أن يعيش الإنسان رحلته هذه لمجرد أن يتدرب على الفقد وتساقط الأوراق، وكأنها هذه هي أصلًا أهداف الحياة.

سبك نادر
في لعبة الأوراق بين الأم والخالة في وقت الظهيرة تتجسد تلك المباراة والحال الشعرية الثرية بالدلالات، وتمثّل غاية في القدرة على مقاربة أعمق المشاعر الإنسانية، وأهمها ومقاربة أبرز الأسئلة المكرورة في الشعر لدى كل الأمم واللغات، ولكن عبر حالة تبدو جديدة وطريفة، برغم هيمنة اليومي والتداولي والعابر من التفاصيل وغيرها من أنساق ما بعد الحداثة، فنجد أنها تمزج بين العام والخاص، وبين الكلي والفردي في امتزاج وسبك نادر، وتأتي المفاجأة الجمالية في النهاية عبر وضوح الأثر الجمالي للنص الشعري بكليته. 
  فهذه القصيدة تبلغ ذروة إمتاعها مع نهايتها، وهو ما يدفع إلى العودة لقراءتها مرة أخرى، بل والتوقف أمامها لإعادة تأملها مرات عديدة، برغم أنها في البداية بصورها المألوفة ولغتها التداولية أوحت أنها لن تقول شيئًا خطيرًا، أو على الأقل ستمضي مع هذا التصوير والسرد المتوسط في جمالياته الفردية أو المعتاد. 
   فجمال النص الشعري لديها جمال الكل لا جمال اللقطة أو الصورة الفردية أو المشهد الطريف، بل النص كله كيان واحد وحال في غاية التماسك، ولا يمكن فصل أي جزء منها بأي شكل من الأشكال. هذه القصيدة التي تحتفي بجماليات السرد وتستمد حركيتها من فكرة المباراة بحدودها السطحية، فتصنع تشويقها الخاص، تقفز دفعة واحدة على حافة سؤال الموت والخسارة، وكأن البشر في النهاية ليسوا إلا في مباراة لإثبات من الذي سيخسر كل شيء أسرع من الآخر. 
وتأخذ فكرة الأوراق طابعًا رمزيًا مدهشًا في آخر النص حين تقول:
 خالتي تمارس هذه اللعبة قبل أمي
 لذلك ربما هي أفضل منها
أوراقها تتبخر 
هذا ما تريده، هذا هو الهدف،
في النهاية
من لا يبقى معه شيء
يفوز
لتمثل نهايات النصوص لديها ذروة الإحكام الشعري وقمة الدهشة ومرتكز الجمال، ذلك لأن خاتمة النص غالبًا ما تنفتح على نافذة سؤال يحطم كل ما مضى أو يكسر الثبات والجمود والسكون الذي بدا أن النص في جزئه السابق يكرس لها. هنا نوع من المطابقة الرمزية الفاتنة لأنها تمثّل اقتناص النص ولعبته الذكية، بأن جعل قواعد لعبة الأوراق مشابهة ومطابقة تمامًا للعبة الحياة، فالخالة التي ترملت قبل الأم أصبحت تجيد اللعبة أكثر منها، ولذا فهي تفقد أوراقها أسرع لأنها تجيد اللعب، ومثلما ترملت قبلها، فإنها تسعى في الاتجاه ذاته إلى أن تفقد الأوراق قبلها وتكون هي الرابحة.

صورة طريفة
تحوّل الشاعرة دائمًا المجرد المعنوي إلى مادي ملموس، وأحيانًا تشخصه، لتجعلنا نعيش في كون تهيمن عليه الحركية والإنسان فيه متربص به من كل الجهات، ففي هذه الصورة مثلًا نجد صورة طريفة تلامس مشاعر أي إنسان باختلاف لغته أو ثقافته، وذلك حين تقول:
الأقدار شقيقات متوحشات...
في نهاية المطاف
العاطفة الوحيدة لديهن
هي الحسد
الأقدار هنا لفظة تتسم بالانفتاح الدلالي، إذ هي مشرعة على كثير من الاحتمالات، فهي المصائر والحظ وغيرها، مما قد يعيش الإنسان أو يصادف في حياته مع التفاوت الشديد بينها، بل يصل تعددها إلى احتمالات لا نهائية، وكلها حين تجعلها الشاعرة شقيقات، فهذا يعني أنها من مصدر واحد، ولها الفعل ذاته مع شدة اختلافها، فهي تتربص بالإنسان لتصيبه، وكل واحدة لا تحمل بداخلها من عاطفة تجاه الأخرى غير الحسد، فكل قدر يريد أن يقتنص الإنسان ذاته أو تتصارع عليه، من نجاح وفشل وخيبة وعمل وصحة ومرض، وغيرها الكثير، فقد قالت الشاعرة على هذا النحو الكثير جدًا من الكلام، لكنه بأقل الألفاظ والتركيبات اللغوية.
توظف الشاعرة الأحلام والأساطير، لكنها تتجلى لديها بنعومة نادرة، فهي لا تكرر الأساطير القديمة أو تعيدها، بل تحاول أن ترى الآني والذاتي والفردي المتمدد والمنفتح دائمًا على المزيد، أن ترى كل هذا في الأساطير والتاريخ، ولا تنقطع تمامًا عن الحاضر أو تغادره إلى موطن الأسطورة التي تستعين بها، بل على النقيض تستحضر الأسطورة إلى اللحظة الآنية وتمزجهما بمشاعرها، فتتلاشى الحدود بين العصور، ويبدو الإنسان ممتدًا أو نموذجًا واحدًا متصلًا. 
 الأحلام، بشكل خاص، تستمـــد منها الشاعرة سمتين مهمتين، هما الغرائبية والعبثــية، أو الطابع السريالي العبثي للوجود، فالواقع أو اليقظة لا يختلفــان كثيرًا في ترتيبهمــــا وتنظيمهما عن الأحلام بطبيعتها الممزقة أو المفتتة أو التي تبدو وكأنه لا يوجد قانون ينظمها، والحقيقة أن النصوص المرتكزة لديها على الحلم كثيرة وفي كل مراحلها أو أغلب مجموعاتها الشعرية. 
وترى أحيانًا أن الأحلام واقعية أكثر من الواقع أو بتعبير أدق هي الفاعل أو المؤثر في الواقع أحيانًا. فالعبرة بالأثر النفسي والعاطفي لما نعيش، ولهذا نجد أن شعرها حافل بالتأملات الفلسفية الكثيرة التي يتم طرحها بعفوية شديدة، وتكون الإجابات أشبه بأن تكون حتمية، لأنها مدعومة بالشعور أو العاطفة أو مدعومة بشعرية النص القادر على اجتياح عقل المتلقي ووجدانه، فيمكننا القول بصورة أخرى إن شعر لويز جلوك في جانب منه شعر فلسفي على نحو مختلف تمامًا عن الفلسفة، وأنه يستمد من بلاغة النص الشعري طاقة إقناعية وحجاجية تجعل وجهة نظر النص وتأملاته في مرتبة عالية من مراتب التصديق ■