جلوك... عندما «تبرق الشمس الواهنة فوق السطح الأملس»

جلوك... عندما «تبرق الشمس الواهنة فوق السطح الأملس»

قبيل الإعلان عن اسمها كشاعرة أمريكية تفوز هذا العام بجائزة نوبل في الأدب، كان اسم لويز جلوك مجهولًا تمامًا لعشاق الأدب، خاصة الشعر المعاصر. تم إعلان الاسم وسط حالة شديدة من الترقب والتكهنات التي خابت آمال أصحابها، الذين حوّلوا الشبكات الإلكترونية إلى ساحات من الترشيحات، سواء بالنسبة للأشخاص الذين يستحقون كل هذا المجد، أو البلاد التي ستنال الشرف من جديد، أو اللغات المكتوب بها إبداع الفائز، وكان أغلب من صنعوا الظاهرة من الشباب، ومَن يمكن تسميتهم بـ «مهاويس» جائزة نوبل الذين تراهنوا على التكهن بالأسماء الفائزة قبلها بأيام.

 

حدث هذا فقط بالنسبة إلى فرع الأدب دون غيره، ووضع المترقبون ساعة إلكترونية تنتظر لحظة إعلان الجائزة، أغلب التكهنات، العربية بالطبع وضعت اسم الشاعر السوري أدونيس في صدارة الأسماء المستحقة، باعتبار أن شاعرنا انتظر طويلًا، أملًا في أن تمنح الجائزة مجددًا إلى كاتب باللغة العربية، لكنني لم أقرأ وسط التوقعات اسمًا آخر من الشعراء، عربيًا كان أو أجنبيًا.
  ومن الواضح أن جعبة الشعر العالمي الخاوية الآن دفعت الأكاديمية لمنح الجائزة قبل عامين إلى المغني الأمريكي المخضرم بوب دايلان، باعتباره مؤلفًا لأغنياته، وهو أيضًا الملحن، ما عنى أن الشعر لم يعد بقوائمه اسمًا يستحق التنافس، أما قرّاء الأدب العالمي المعاصر فهُم يعيشون في الأمس، واختار أغلبهم الروائي التشيكي (المقيم في فرنسا منذ أربعة عقود) ميلان كونديرا، باعتباره الأكثر حضورًا في صفوف الروايات المترجمة إلى اللغة العربية، ومن الواضح أن الجائزة لن يصل إليها أحد من الذين طال انتظارهم، ومنهم إسماعيل قدري الألباني. 
   يجب أن نعرف أن الأكاديمية السويدية اعتادت طوال عشرين عامًا أن تمنح الجائزة لكتّاب مغمورين، إيمانًا بأن الشهرة التي حققها تولستوي أهم له، ولذا منحوا الجائزة للمرة الأولى إلى كاتب فرنسي مغمور اسمه سولي برودم، وقد حرمت الجائزة كتّابًا من نيل شرفها، منهم بورخيس، وجراهام جرين، وآرنستو ساباتو، وجون دوس باسوس، وآرثر ميللر، وتينسي ويليامز، ومارجريت دوراس، وكازانتزكيس، وألبرتو مورافيا، ومارسيل بروست، وجيمس جويس، وأنتوني بيرجيس.
 أي أن الجائزة لا تزال لديها القدرة على اكتشاف أسماء ليست في دائرة الضوء، لكن أصحابها غارقون في الجوائز المحلية والتكريمات، وما أكثر الجوائز التي نالتها لويز جلوك، حيث تأكدنا أنها المفتاح لدفع صاحبتها إلى «نوبل»، مثلما جرى مع باتريك موديانو وبيتر هاندكه.

تشابه ملحوظ
 ورغم أن الناس تأكدت من أن لويز تستحق الجائزة بعد أن قرأوا بعض أشعارها، فإن هناك كاتبتين كانتا يجب أن تفوز إحداهما بـ «نوبل» هذا العام، الأولى موجودة بقوة منذ نصف قرن، وهي الأمريكية جويس كارول أوتس، وهي مقروءة في لغتنا، والثانية التشيلية إيزابيل الليندي التي قرأناها طوال أربعين عامًا، باعتبار أن النساء صرن يحصلن دومًا على الجائزة في الفترة الأخيرة، ومنهن في العقد المنصرم آليس مونرو، وسيفيلانا ألكسفيتش، وأوجا توجارتشوك، ثم هذه هي لويز جلوك، التي يكتب اسمها في المواقع العربية بأكثر من 10 طرق.
  وكما نرى فإنهن من لغات وهويات مختلفة، وأغلبهن روائيات، عدا لويز التي لم يرد في سيرتها قط أنها كتبت رواية، رغم أن عندها نشاطًا إضافيًا، وهو كتابة المقالات. وفي رأيي الشخصي، فإن هناك تشابهًا ملحوظًا بين ثقافة الكاتبة وزميلها شاعر ترينداد، الحاصل على الجائزة عام 1992، فكل منهما متأثر - بعمق - بالميثولوجيا اليونانية، ويستحضر أجواء الأساطير والملاحم في أعماله، ويتلاعب بالأسماء اليونانية، مثلما يكتب الشاعر أوميروس، ومثلما تكتب لويز برسيفوني، غير أن ديرك والكوت أغزر إنتاجًا وارتباطًا بالحضارات القديمة، وقد اشترك الاثنان في التعرف إلى فلسفة الموت ومصائر الأحياء. 
طوال مئة وعشرين عامًا لم يخرج أحد من المبنى كي يقص علينا أسرار وحيثيات المنح، اللهم إلا في رواية بوليسية تخييلية كتبها أرفنج وآلاس باسم «الجائزة»، لذا لم نعرف كيف يفكر أصحاب جائزة نوبل، وتظل النواميس الداخلية في الترشيحات والمنح غامضة، وأغلب الظن أن أسماء أعضاء لجان التحكيم غير معلنة، وغير معروف هل هم من السويد فقط أم يمثلون الثقافة العالمية، لكن أغلب الظن أنهم من أبناء السويد أو النرويج، لكن لا شك في أنها بعد مئة وعشرين عامًا من المنح لم تنظر قطّ خلفها في غضب، إلا من خلال تلميحات، لأن الفائزين بها دخلوا التاريخ بكل قوة.

صاحبة الدواوين الصغيرة
منحت الجائزة عام 2013 إلى آليس مونرو، التي لا تكتب سوى القصة القصيرة كنوع من الترحُّم على واحد من فنون الكتابة المتوهجة في القرنين الماضيين، وما لبثت شمس القصة القصيرة أن خبت، فلا شك في أن آخر شاعر حصل على الجائزة هو توماس ترانسترومر عام 2003، وكان للشاعرة البولندية فتسوافا شمبروسكا نصيب من الاستحقاق الفذ، بعد والكوت.
 أما لويز جلوك صاحبة الدواوين الصغيرة، ونقصد هنا حجم القصائد والدواوين وصفحاتها، وهو أمر يختلف بالنسبة إلى أغلب مَن حصلوا على الجائزة من كتّاب الرواية، أي أن الجائزة محاولة لتنشيط الحركة الشعرية في العالم، حيث ظلت الجائزة تراوح سنويًا بين شاعر وروائي، خصوصًا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.
  بالنسبة إلى سيرة حياة جلوك، فليس فيها ما يدهش، هي قصة عادية لفتاة عاشت مع أبوين لم ينفصلا أبدًا بعد أن جاءا من أوربا، هي حياة عادية مثل شعرها وثقافتها، حتى لو بلغ الأمر بها إلى عدم استكمال دراستها الابتدائية بشكل خاص، لكن صاحبة هذه السيرة في جعبتها أكثر من مئة جائزة وشهادات تكريم، إضافة إلى أنها أستاذة جامعية، وتعتبر جائزة بوليتزر أهم ما حصلت عليه من جوائز.
 ولدت جلوك بمدينة نيويورك في الثاني والعشرين من أبريل عام 1943 لأسرة من المهاجرين المجريين الذين تجمعوا في نيويورك، مما يعني الاهتمام بثقافة المدينة، الأب رجل مثقف لديه هوايات أدبية، استوعب الميثولوجيا اليونانية، لكنّ العمل بالتجارة عند طائفته أمر بالغ الأهمية، ولعله عاش ليرى ابنته تحقق له أحلامه، فقد قرأ الأبوان لابنتهما قصص الأساطير الإغريقية التي ملكت عليها أفكارها وإبداعاتها طوال حياتها، خاصة أن الأم أيضًا على درجة عالية من التعليم والثقافة. 

بوادر الكتابة
ظهرت بوادر الكتابة على لويز في سنّ مبكرة، وأصابتها مجموعة من الأزمات النفسية لأسباب أسرية تتعلق بموت أختها الكبرى، فقررت أمها إخراجها من المدرسة كي تتولى تربيتها وتعليمها بشكل ذاتي، وصار هاجسها الأبدي أنها ستلحق بأختها، ولازمها الألم فترات طويلة، وخضعت للعلاج، مما ساعدها على أن تغرق في التأمل، وصارت ترقب ما حولها، خاصة الطبيعة غير الملموسة، كأنها تكرر التجربة التي عاشها أيضًا الروائي الألماني توماس برنارد، الذي عاش سنوات حياته فوق فراش المرض.
 لكنها كانت فتاة قوية، وانتصرت على آلامها، سعت إلى الانتساب في الجامعة، وأن تتزوج لفترة قصيرة من أستاذها، ثم العزوف عن الدراسة والزواج، واشتركت في العديد من ورشات الكتابة، وبدأت في الكتابة الأدبية بالصحف، ولم تمسك بين أناملها شهادة تدلّ على أنها تخرجت في الجامعة، إنها مريضة تبحث عن المرفأ، فبدت حائرة في الاختيارات، لم يكن الشعر هو العلاج الأوحد للخروج من شعور التوتر، واتضح ذلك في ديوانها الأول «بيت في الأهوار» عام 1968، وكان الديوان قويًا لدرجة أن جامعة فيرمو استعانت بها لتدريس مادة الشعر.
ثم جاء ديوانها الثاني، وصار الحب والشعر والتدريس أهم السبُل لحياة أفضل، وقوبل الديوان الثاني باهتمام شديد من النقاد، فأنجبت من حبيبها، هذا الحبيب هو درانو الذي صار والد ابنها، قبل أن يتزوجا، وأنشأ من أجلها مشروعًا للتعايش الآمن، واسترخت المرأة عند هذا المرفأ، وصارت تقرض الشعر قليلًا حتى جاء ديوانها الثالث «تنزلي الشكل» عام 1980.
 كان شيطان الشعر يأتي إلى الكاتبة كلما تجددت المتاعب أيًا كان شكلها، وكانت الكوارث وقودًا للشعر أكثر من أي شيء آخر، فقد راحت تكتب القصائد بنهَمٍ شديد بعد الحريق الذي دمّر بيتها والتهم تراثها، وأوراقها، وبدت في ديوانها التالي، المسمى «انتصار آخيلوس» شاعرة جديدة تمامًا، وصارت تنشر بانتظام في مجلات وصحف عدة. كانت تكتب القصيدة والمقال الأدبي، والنقد، وصار مشاهير النقاد يرون فيها روح الشعر الأمريكي المعاصر، وصارت محاضرة في جامعة ماساتشوستس.

الفصل الثالث
 أما الفصل الثالث في حياة الكاتبة، فهو وفاة والدها الذي كان يعتبر بمنزلة الفكر والروح بالنسبة لها، ومن جديد زادت خصوبة الشاعرة، وفي المرحلة الجديدة بدا مدى تأثرها أكثر بمعاني حواديت الميثولوجيا اليونانية، واعتبر النقاد أن ديوانها «زهرة السوسن البرية» (1993)، أكثر الشعر حزنًا في القرن العشرين. وفي الديوان اختلطت صورة الأساطير بالحزن والحياة المسدودة الجوانب، وقد أشاد النقاد بالديوان، واعتبروه أفضل ما كتبت وهي تردد:
في نهاية معاناتي 
 كان هناك باب
أسمعني ما تسميه الموت
أتذكره
 فوق ضوضاء تتحول أشجار الصنوبر 
 ثم لا شيء
 تبرق الشمس الواهنة فوق السطح الأملس
إنه لأمر فظيع أن نعيش
مثل دمى مدفونة في الأرض المعتمة
كما نرى فإن الشاعرة حالة مزاجية، ابنة للظروف في المقام الأول، وهي لم تتصرف كمحترفة، لذا فإن عدد الدواوين الشعرية التي صدرت لها خلال مسيرتها قليلة، وقد وجهت طاقتها لكتابة الدراسات النقدية في الشعر، وابتعدت بشكل مؤقت عن كتابة قصائد جديدة، إلى أن حدثت في مدينتها أكبر كارثة عرفتها في حياتها، ألا وهي تدمير برجَي التجارة العالميين، فكتبت حول التجربة أطول قصائدها على الإطلاق، وقد صدرت في ديوان واحد عام 2004 باسم «أكتوبر»، وفيها قامت بتذكير الناس بالمآسي اليونانية الكبرى التي تحدث عنها الإغريق في تراثهم، ومنها سقوط «طروادة» بسبب خدعة.
ومن خلال ستة أقسام روت كيف تنهار الكيانات الكبرى، إنها تجربة حية رأتها بعينيها، وسمعت دويّ الانفجار بأذنيها، وبكت بحرقة من أجلها، ولعلها الشاعرة الوحيدة التي كتبت ديوانًا بأكمله عن الكارثة، وفي اعتقادي أن مثل هذا الديوان كان السبب في أن تتصدّر الشاعرة بقية الكتاب لتنال «نوبل»، وكأن التاريخ يكرر نفسه، فقد نال والكوت الجائزة بمناسبة مرور خمسة قرون على اكتشاف القارتين، وفي العام المقبل سيمرّ عشرون عامًا على الحادي عشر من سبتمبر، إنه عام التذكر، وهو أمر اجتهادي من ناحيتي.

رحلة مع الصدمات
رحلتها مع الشعر، كما أشرنا، هي الصدمات التي تعرضت لها منذ قبل ميلادها وحتى انهيار برجَي التجارة، مرورًا بوفاة أبيها، والصدمات هنا أشبه بالشحنات الكهربية التي يضرب بها أطباء القلب لإيقاظ الكيان الذي يكاد يتوقف، أو الطبيب النفسي الذي يصدم مريضه، والشاعرة معتادة ذلك، إنها ذات همّ اجتماعي، ولا شك في أن للصدمات الاجتماعية نصيبًا وهي تكتب دواوين منها: «زهرة السوسن البرية» (1993)، و«ميدو لانديز» (1997)، و«فيتا نوفا»، ومن العنوانين نتأكد من تأثر الشاعرة حتى بتسمية أعمالها بوالكوت، وهو يسمي أعماله بأسماء إغريقية مثل «أوميروس»، وأيضًا اتجاهها إلى المسرح الغنائي، ولها أيضًا «العصور السبع» (2001)، و«ليلة المؤمنين والفضيلة» (2014).
 كل هذه الأعمال لاحقتها الجوائز الأدبية الكبرى داخل الولايات المتحدة، وحصلت الشاعرة على الكثير جدًا من التكريمات التي تستحقها عن جدارة، رغم إيماننا بأنها ليست العبقرية الفذة ولم تأت بجديد، بل كانت تلميذة نجيبة لأفكار ومشاعر وإبداع من تتلمذت على أيديهم، وقرأت لهم.
 لذا فإن المرأة تعيش والموت بداخلها، كما أن الفشل قريب منها مهما حققت، والموت يترقب عند الباب المفتوح دومًا، وفي قصيدة «صلاة الغروب» تقول:
زرعت البذور وشاهدت البراعم الأولى
مثل الأجنحة تمزق التربة
 وكان قلبي
كسرته الآفة، البقعة السوداء بسرعة
تتضاعف في الصفوف، أشكّ
لك قلب في فهمنا
الديوان الوحيد المنشور باللغة العربية للشاعرة صدر عام 2008 عن دار الجمل باسم «عجلة مشتعلة تمرّ فوقنا» اختارها وترجمها سامر أبو هواش، ومن بين القصائد فيها:
 ولدت لهذه المهمة 
 أن أكون شاهدة 
 على الألغاز العظمى
الآن وقد رأيت الولادة والموت معًا 
أعرف أن الطبيعة السوداء
تقدم البراهين 
لا الألغاز
وحسب رسالة كتبها لي الناشر خالد المعالي، فإن أول من ترجمها إلى العربية هو سركون بولص.
وكما نرى، فإننا أمام شاعرة مهمومة بالمسائل الكونية، أسوة بأعظم مَن نالوا جائزة نوبل الذين حاولوا التعامل مع ألغاز الكون بالفهم لا بالطاعة العمياء ■