متحف خضير... مركز إشعاع ثقافي للحفاظ على هوية الخط العربي
بجوار بيت القاضي الأثري الذي كان سكنًا لقاضي المحكمة الشرعية في عهد الدولة المملوكية في مصر، وعلى بعد أمتار من مسجد السلطان قلاوون في قلب شارع المعز لدين الله الفاطمي، أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم، يقبع «متحف خضير للخط العربي»، ليزيد المكان رونقًا وجمالاً بما يضمه من تحف ومخطوطات برعت فيها أنامل هذا الخطاط التاريخي الذي كتب غالبية لوحات مسلسلات وبرامج التلفزيون المصري الشهيرة والتاريخية.
هو ليس مجرد متحف للخط العربي... بل هو بمنزلة مركز إشعاع ثقافي يلخص قصة الخط العربي منذ نشأته تاريخيًا وجغرافيًا عبر لوحات فنية تصل إلى أكثر من 1000 لوحة لا تتشابه واحدة مع الأخرى من حيث نوعية الخط أو الرسم... رسمتها أنامل المبدع خضير البورسعيدي الذي أطلق عليه شيخ الخطاطين الراحل محمد عبدالقادر وصف «أشهر خطاط على الأرض».
الأصالة تشهدها عند الدخول من ممر المتحف المؤدي إلى قاعات العرض، فتدرك أن العالم كله تجمع حولك، حيث تحمل جدران هذا الممر صور عظماء الخطاطين بالعالم كله، من تركيا إلى أفغانستان، إلى الكويت، إلى السعودية، إلى قبرص وغيرها... فتجد صور الخطاط التركي مصطفى حليم بن حجي، ومحمود عبدالحميد، ونجم الدين، وسيد إبراهيم، ومحمد كمال حسني البابا الشهير بـ «محمد حسني» والد الفنانة سعاد حسني، ومصطفى سعيد، وحمام، وفوزي عفيفي، وعدلي، ونجيب هواويني، وكامل وخلوصي ويوسف أحمد، وغيرهم.
لوحات متنوعة
يحتوي المتحف على العديد من قاعات العرض التي غطت جدرانها اللوحات المختلفة، لا توجد لوحة شبيهة لأخرى من حيث نوع الخط والرسم، هناك لوحات لبعض البرامج التاريخية والمسلسلات الشهيرة بالتلفزيون المصري التي كتبها خضير، مثل «العلم والإيمان»، «حديث الشيخ محمد متولي الشعراوي»، «حكاوي القهاوي»، «حديث الروح»، «ليالي الحلمية»، «مصارعة المحترفين»، ولوحات أخرى تحمل صورًا لأمراء وملوك الدول العربية والإسلامية رسمت بالخط العربي، من بينها صورة للشيخ جابر الأحمد الصباح أمير دولة الكويت الأسبق – رحمه الله – والسلطان حسن بلقيه سلطان بروناي، والرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كان لها نصيب الأسد من اللوحات، لكن تختلف كل لوحة عن مثيلتها، فهناك لوحة بدأ القلم فيها ولم يتوقف إلا في نهايتها، وأخرى كتبت باللغة العربية من اليمين وتستطيع قراءتها باللغة الإنجليزية من اليسار، وهكذا استطاع خضير أن يجعل كل لوحة تعبر عن نفسها دون جهد أو عناء.
استطاع خضير أن يوظف الأحداث المعاصرة في لوحاته، فتجد لوحة تعبر عن الأوضاع في مصر بعد ثورة يناير 2011 من خلال كلمة مصر، التي تتوسطها عين تتساقط منها الدموع بعد توجيه عدد من سكاكين الإرهاب والبلطجة والفتنة الطائفية والانهيار الاقتصادي وضرب السياحة إليها، كما ساعدت عبقرية الخطاط في أن يستخدم خضير البورسعيدي لغة الفرانكو آراب التي انتشرت حاليًا على وسائل التواصل الاجتماعي في كتابة لوحة مشهورة له وهي «محمد رسول الله».
موهبة بالفطرة
المتحف يعبر عن شخصية حملت على عاتقها الحفاظ على هوية الخط العربي، في ظل التحديات والمخاطر التي تمثلت في الغزو التكنولوجي للخطوط العربية، فقد بذل صاحب المتحف كل ما يملك من أجل تشجيع الخطاطين على مستوى العالم، وأقام لهم المسابقات والمعارض وورش العمل بهدف نشر الخط العربي على مجال واسع بدون أن يتلقى أي دعم من أي جهة حكومية، إنه نقيب الخطاطين خضير البورسعيدي الذي جاءته الموهبة عندما كان طفلاً صغيرًا لم يتعد السنوات الخمس بمدينة بورسعيد، حينما كان أهل المدينة يرون بعض العمال يذهبون إلى معسكرات الاحتلال الإنجليزي للعمل فيها، فأرادوا منعهم من خلال إلقاء الحجارة عليهم، ثم توصلوا إلى فكرة كتابة لوحة لمنع هؤلاء عن العمل، فتقدم أحدهم وكتب على لوح زجاج بزهرة الغسيل الزرقاء عبارة «الذي يتعاون مع الاستعمار له الموت»، وقام خضير بنقلها على حوائط المدينة بخط مميز، رغم أنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة في هذا العمر.
وعندما دخل المدرسة كان في جيبه طباشير، وكتب على السبورة عبارة «الملك فاروق ملك مصر والسودان»، فجاء المدرس وسأل: من كتب هذا؟، وعندما عرف أنه ذلك الفتى الذي يدعى خضير، سأله من الذي علمك هذه الجملة؟ أجاب بأنها موجودة على الأوراق المالية، فأتى بالمدرسين والناظر وكان يمسح ويكتب، ومن يومها خصص خضير لكتابة لوحات المدرسة نقلًا رغم صغر سنّه. وعندما كان عمره 8 سنوات بدأ في كتابة لوحة أحد المحال، وعندما كتب أول كلمة قال له صاحب المحل: «إنه اشتهر قبل إكمال اللافتة»، فعندما نظر خلفه وجد مجموعات من الناس تشاهده.
وفي عام 1956 وبعد انتقال عائلته إلى مدينة طنطا بسبب الحرب، بدأ خضير يدرس الخط العربي في مدرسة الخط العربي بطنطا، التي ساعدته على دراسة الخطاطين الكبار، بجانب كتابته لأسماء المحال والمتاجر التي كان يحرص على كتابة أسمائها بأسماء شوارع بورسعيد، وهنا يحكي خضير أنه كتب 15 ألف لوحة ليست هناك واحدة تشبه الأخرى.
وفي حقبة الستينيات من القرن الماضي، وعندما استقر خضير في القاهرة، بدأ يكتب خطوط أفلام إسماعيل ياسين، رغم وجود أسماء خطاطين كبار في ذلك الوقت يكتبون خطوط الأفلام والبرامج، أمثال محمد حسني ومحمد عبدالقادر.
الغزو التكنولوجي
«خطوط الخطاط تعكس دقات قلبه، بينما خطوط الكمبيوتر ليس فيها إبداع»، هكذا قال شيخ الخطاطين عن الغزو التكنولوجي للخط العربي، مبديًا عدم تخوفه من خطر الكمبيوتر على الخط العربي، ومؤكدًا أن الكمبيوتر أفرز تلوثًا خطيًا، وأن التميز يكون في يد الخطاط وليس في الكمبيوتر، والدليل على ذلك هو عودة الناس إلى الخطاطين مرة أخرى رغم سيطرة الكمبيوتر على شركات الدعاية والإعلان لفترة معينة، شارحًا جهوده في المحافظة على هوية الخطوط العربية من خلال عقد ورش عمل ومعارض ومسابقات عالمية لتشجيع الخطاطين وتكريمهم، وأيضًا من خلال إدخال خطوط جديدة لا يستطيع الكمبيوتر ابتكارها.
مقنن الخطوط الحديثة
إذا كان ابن مقلة في العراق هو من قنن 6 خطوط قديمًا، وقنن محمد عبدالقادر الخط الكوفي الباطني، فإن خضير البورسعيدي هو من قنن خط المودرن حديثًا، حيث اخترع 9 أنواع جديدة من الخطوط، يحمل البعض منها اسمه، مثل: فريخضير، ريشتخضير، الخط البورسعيدي، فريمسعد، خط المسعدي، خط المودرن البلية، خط شريط، جلي الديواني، رقعة الإعلان، إضافة إلى تطويره للخطوط القديمة المعروفة، مثل: خط الثلث، والفارسي، والرقعة، والنسخ، والديواني، والكوفي، والنيسبوري، والجلدواني، والديواني، والمحقق، والريحان .
البسملة في خط متواصل