عندما استأذن اللص في الاحتفاظ بصورة طه حسين

عندما استأذن اللص في الاحتفاظ بصورة طه حسين

تمرّ هذه الأيام الذكرى الحادية والثلاثون بعد المئة على ميلاد عميد الأدب العربي د. طه حسين، الذي شغل الدنيا والناس بإنتاجه الأدبي والفكري المتميز، وفي هذه المقالة نستعرض ما تبقّى من طه حسين. ذهبت السيدة سوزان (زوجة طه حسين) إلى استديو معروف بميدان الجيزة؛ لكي تتسلَّم صور زوجها التي كان المصور قد التقطها له قبل أيام، تسلمت السيدة الصور (12 صورة) ووضعتها في حقيبة يدها وانصرفت. 

 

قبل أن تصل سوزان إلى «رامتان» (منزل طه حسين) اكتشفت أن الحقيبة بما فيها قد سُرقت. وبعد أسبوع وصلها خطاب من اللص يقول لها فيه، إنه سرق «الشنطة»، وأخذ ما بها من مال وذهب وساعة يد، لكنه وجد بها صورًا للدكتور طه حسين، وهو «يستأذنها» في أن يحتفظ بصورة منها له، حتى يعلّقها في منزله، ويفخر بأن لديه صورة لعميد الأدب العربي. وها هي الصور الباقية (11 صورة) مع البطاقة العائلية للسيدة سوزان.
انتهت الحكاية، وبدأ السؤال: ما المعاني الدفينة الني ينطوي عليها سلوك هذا اللص باستئذانه في الاحتفاظ بصورة طه حسين؟
لا شك في أن سلوك هذا اللص يعني أنه يحمل «باعتباره مواطنًا مصريًا، قبل أن يكون لصًا، أو مع أنه لص»، تقديرًا داخليًا لطه حسين واعترافًا بفضله على الحياة المصرية والعربية. 
وربما كان وجود ذلك التقدير وهذا الاعتراف بالفضل، في دخيلة اللص، وجودًا مبهمًا مضغوطًا غير مفهوم. وسنحاول هنا أن نُجلي هذا الإبهام، وأن نفكك ذلك الانضغاط إلى عناصره وبواعثه الأولى الكامنة، لا في قرارة اللص وحده، بل في قرارة معظم المصريين والعرب، على اختلاف مواقعهم الاجتماعية والثقافية، وذلك في النقاط الموجزة التالية:
طه حسين بالنسبة للأدباء والشعراء والمبدعين هو الرجل الذي كتب مجموعة من الأعمال الروائية والفكرية والفنية الباقية في تراثنا الأدبي القريب. ربما لا تكون رواياته من الأمهات الشامخات (مع أن بعضها صارت أفلامًا شهيرة، مثل «الحب الضائع»، و«دعاء الكروان»، و«أديب»)، لكن المؤكد بالنسبة للأدباء والشعراء والمبدعين ما يلي:
1 - أن رواياته حملت بُعدًا إنسانيًا واجتماعيًا ساطعًا، يدين الفقر والقهر والمرض، ويدعو «المعذبين في الأرض» إلى اجتثاث «شجرة البؤس» من جذورها، حتى نستطيع أن نستمتع بصفاء إلى «دعاء الكروان».
وعلى ذلك يمكن - بقدر ضئيل من المبالغة - أن نعتبر أعمال طه حسين الروائية منتمية إلى «الواقعية الاشتراكية» على نحو من الأنحاء، بالرغم من المعركة الشهيرة التي نشبت بينه وبين بعض روّاد الدعوة إلى الواقعية الاشتراكية، في أوائل الخمسينيات، مثل محمود أمين العالم، وعبدالعظيم أنيس، اللذين اتهماه بالمثالية التي ترى أن الصورة تسبق المادة، وأن الشكل أولى من المضمون، ومثل الناقد المسرحي علي الراعي، الذي اتهمه بأنه «كاتب برجوازي».
وقد رد «العميد» على الاتهام الأول بأنه «يوناني لا يقرأ»، وعلى الاتهام الثاني بقوله: «إنني أياسر- أي اتّجه إلى اليسار- قدر ما أستطيع».
2 - إن طه حسين هو الرجل الذي أعلن أننا نملك لغتنا العربية مثلما كان الأقدمون يمتلكونها، وأن واجبنا هو أن نطورها ونحدثها بما يواكب العصر. اللغة، من هذا المنظور، هي في خدمة الإنسان، وليس الإنسان - كما في منظور الجامدين - هو في خدمة اللغة.
ويتصل بذلك مفهوم طه حسين المضيء، في لقاء له مع أدونيس حول قصيدة النثر، حين أوضح أن كل عصر يختار شعره الذي يعبّر عن حاجته وطبيعته، وهي شهادة أكثر تقدمًا وسعة من موقف شعراء ونقاد معاصرين. 
ولهذا كان رأيه في حركة الشعر الحر أكثر تسامحًا وتفهمًا من رأي رصيفه عباس محمود العقاد الذي أحال شعر صلاح عبدالصبور «إلى لجنة النثر للاختصاص»، والذي قال عن العالم وأنيس - أثناء سجالهما معه حول الأدب الجديد: «إنني لا أناقشهما، بل أضبطهما: امسك شيوعي»!
 3 -  إن طه حسين هو الذي قدّم في ثلاثية الأيام نموذجًا باهرًا رائدًا للسيرة الذاتية. وهو النموذج الذي لم يضارعه نموذج تالٍ له في كتابات السيرة الذاتية (إذا استثنينا «أصداء السيرة الذاتية» لنجيب محفوظ)؛ من حيث درجة الصدق الغائرة، ومن حيث فداحة الاعترافات، ومن حيث ارتباط المسار الشخصي بالمسار الوطني والاجتماعي، ومن حيث الأداء الفني الرفيع. 
و«الأيام» - في اعتقادي - هي النموذج الذي راح كتّاب الموجة الجديدة في مصر يستلهمونه في كتابة السيرة الذاتية، التي تفشت في إبداع شباب اللحظة الراهنة.

أحرار وعبيد
طه حسين – بالنسبة للمناضلين من أجل التقدم والمدافعين عن حقوق الإنسان - هو الرجل الذي دعا إلى حرية الفكر ومارسها، ودفع ثمن هذه الدعوة وتلك الممارسة غاليًا؛ فضح التفاوت الاجتماعي في «المعذبون في الأرض»، فصادرتها سلطات ما قبل ثورة يوليو 1952. 
دعا طه حسين إلى الشك في الشعر الجاهلي وإلى التفرقة بين الموعظة الدينية والحقيقة التاريخية، فتمت مصادرة كتابه «في الشعر الجاهلي»، وهاجت عليه هائجة وكلاء الله على الأرض، على الرغم من التقرير التاريخي لوكيل النيابة محمد نور، الذي أعلن أن الكتاب يقوم على بحث علمي يخطئ أو يصيب، لكنه يدعو إلى الاجتهاد، فمَن يصيب له أجران ومن يخطئ له أجر.
وطه حسين هو الرجل الذي دفع ضريبة موقفه المتحفظ من ثورة 23 يوليو 1952 (التي أسماها الحركة المباركة، ولم يسمّها ثورة)، حتى عاش في الظل، مهمشًا منسيًا، ليغدو واحدًا من المعذبين في الأرض، وهو أكبر قامة فكرية في البلاد، لدرجة أنه فوجئ ذات صباح من صباحات عام 1961 بقرار فصله من جريدة الجمهورية، وهي التي حملت شعار «جريدة الثورة»، كما يُفصل السُّعاة وصغار المخبرين!

معيار فارز
وهو الرجل الذي نادى بألّا ينص دستور البلاد على دين الدولة، حتى يظل المعيار الفارز بين المواطنين هو المُواطنة لا الدين، وحتى يكون العقد الحاكم بين الناس هو العقد المدني لا الديني، منبهًا إلى أن النص في الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام «قد فرّق بين المسلمين والمصريين، وأنشأ قوة سياسية دينية منظمة، تؤيد الرجعية وتجر مصر جرًّا إلى الوراء»، فهل هذا حديث أوائل القرن أم أواخره؟ وهل نهتف: ما أشبه الليلة بالبارحة؟!
وهو الرجل الذي أعلن أن الحرية لا تُنال إلّا بأن نأخذها بأنفسنا، لا ننتظر أن تمنحنا إياها سلطة. كما أعلن أن تشدد السلطات في مصادرة حرية الأدب «لا يحمي الفضيلة، بل يحمي الرذيلة»، منطلقًا في ذلك من أن «الفن أثر من آثار الأحرار لا من آثار العبيد».
طه حسين - بالنسبة للمفكرين والأكاديميين - هو الرجل الذي جسّد عند الكثيرين صورة من صور «المثقف العضوي»، كما تحدث عنه جرامشي. وهو المثقف الذي يمزج النظر بالتطبيق، ويطور رؤاه على ضوء الممارسة الميدانية، ويستلهم الواقع وحركة البشر في صنع الأبنية العقلية لا العكس. ولهذا نجده في - مرآة الضمير الحديث - يرى أن «تغيير الأشياء لا يكون بالكلام الذي يقال عن إخلاص أو تكلّف، وعن تفكير أو اندفاع، وإنما يكون بالعمل الذي ينقل الأشياء من طور إلى طور».
ولعل ذلك هو ما جعل الناقد محمود أمين العالم يرى أن طه حسين «هو مفكر عملي» سبيله هو «هدم الهدم»، وهي الجملة التي أتت لطه حسين في أول النوم وآخر اليقظة، على هيئة هاتف طيفي يعرف «الحق».
وعلى ذلك، فإن دراساته الأدبية والتاريخية والفنية والتربوية هي في جوهرها فكر في موقف ورأي في تطبيق، وأكاد أجد فيه - والكلام لمحمود العالم - قائدًا يدفع ويحرّك ويحرض، ولولا ملابساته الخاصة لكان له شأن في حياتنا الاجتماعية أعمق أثرًا من شأنه في حياتنا الفكرية والأدبية، رغم رفعة هذا الشأن.

إضاءة المناخ الاجتماعي والثقافي
طه حسين هو الرجل الذي انتقل بالدراسة الأدبية والتاريخية من طور الدردشة المرسلة أو الوقائع المصمتة، إلى طور إضاءة المناخ الاجتماعي والثقافي والسياسي والحضاري الذي نشأ فيه النص الأدبي أو وقعت فيه الواقعة. ولعل أبرز الأدلة على ذلك هو كتبه الإسلامية «على هامش السيرة، وعليّ وبنوه، والفتنة الكبرى»، وهي الكتب التي يرى بعض المحللين أنه كتبها كنوع من الردّة على كتابه «في الشعر الجاهلي»، بعد العاصفة التي واجهها الكتاب وكاتبه. ومع ذلك فإن هذه الكتب الإسلامية لم تغرق في الفقه الديني واللاهوت السماوي؛ بل قامت على رصد الأدلة التاريخية للأحداث، موضحة أن كثيرًا من الصراعات التي شهدتها مرحلة صدر الإسلام - بعد وفاة النبي [ - لم يكن محرّكها الوحيد هو الباعث الديني، وإنما داخلته بواعث مصلحية اجتماعية واقتصادية وسياسية وقبلية عديدة.
وهو الرجل الأكاديمي، الذي أدخل إلى الدرس أقسامًا ولغات وعلومًا لم تكن موجودة قبله. وهو الذي ربط الجامعة بالمجتمع، مُنهيًا عزلتها عنه وتقوقعها دونه. والذي صان حُرمة الجامعة وبجّل قداسة «الروح الجامعي»، حتى أنه رفض طلب رئيس الوزراء منح بعض الوزراء الدكتوراه الفخرية، الأمر الذي أدى إلى فصله، ثم إلى عودته محمولًا على أعناق طلابه وزملائه ومريديه، في مشهد لم تشهده الجامعة المصرية منذ نشأتها حتى لحظتها الراهنة. وهذا هو المعنى الذي قصد إليه د. جابر عصفور حينما أشار إلى أن الطليعة الجامعية رأت في طه حسين «رمزًا لإمكان تحقيق استقلال الجامعة، وتأكيد انتصارها على جمود التقاليد الاجتماعية والفكرية والسياسية، ومجاوزة التأصيل النظري للمشروع الحضاري في الجامعة إلى التطبيق العملي خارج أسوارها».

ابن البلد
طه حسين – بالنسبة للمواطنين العاديين - هو الرجل الذي دعا إلى مجانية التعليم، حين أطلق صيحته المدوية «التعليم حق طبيعي، كالماء والهواء»، قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948.
وهو الرجل الذي ربط بين مستقبل الثقافة ومستقبل التعليم ومستقبل مصر، حيث يؤكد أن الحرية لا تستقيم مع الجهل، رابطًا بين الثقافة وبين الحرية، وواصلًا بين التعليم وبين الثورة على الظلم، فالتعليم وحده هو الوسيلة التي بها يعرف الشعب مواضع الظلم، وبها يحاسب ظالميه.
وهو الرجل الذي ضرب المثل المُعجز في قوة الإرادة وصلابة النفس، حتى أنه حوّل عاهته إلى حافز، وحوّل عمى البصر إلى نصاعة البصيرة، متحديًا في ذلك عوامل ظلام عديدة، ليصبح بعد كسب التحدي «مُنوّرَ» القرن العشرين.
هذه البصيرة الكاشفة هي التي حيَّاها نزار قبَّاني في رحيل العميد بقوله:
كلهم لا يرى، وأنت تراني
ضوء عينيك، أم حوار المرايا
أم هما طائران يحترقان
إرم نظارتيك... ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان
وهو الرجل الذي حكى عنه سعدالدين وهبة في كتابه عن «عبدالوهاب... النهر الخالد» هذه الحكاية التي تدل على صلابة الإرادة وسعة البصيرة في آن:
«كان شوقي وعبدالوهاب يقضيان الصيف في جبل لبنان. وكانا قد اتفقا مع متعهد حفلات على إقامة حفل غنائي كبير لعبدالوهاب، وكان طه حسين يقضي الصيف بنفس الجبل في لبنان، وكان شوقي وعبدالوهاب يزورانه كل يوم. وقبل موعد الحفل بيومين قرأ عبدالوهاب نعي أبيه في صحيفة الأهرام، فحزن وقرر العودة إلى مصر، وإلغاء الحفل، وطلب من شوقي أن يبلّغ المتعهد بهذا الإلغاء.
وفي عصر ذلك اليوم زارا طه حسين، الذي قال لعبدالوهاب: «سوف نسمعك غدًا يا محمد»، فردّ شوقي بأن والد عبدالوهاب مات. وأنهما سيلغيان الحفل، فإذا بطه حسين يصمت برهة، ثم يقول لعبدالوهاب: «ولماذا لا تغني؟ هل الغناء هو فرح وبهجة فقط؟ الغناء حزن وشجن وألمٌ كذلك. غنّ يا محمد، ابك أباك غناء، وتألم غناء». فاستجاب عبدالوهاب وغنى في الحفل كما لم يغنّ أبدًا. شجنًا ولوعة وطربًا محزونًا. أي إرادات سامقة يختزنها هذا الثلاثي المدهش: طه وعبدالوهاب وشوقي؟!
يبدو أن اللص عندما استأذن السيدة سوزان في الاحتفاظ بواحدة من صور العميد كان يدرك - ولو في عمقه النظيف المتواري - أنه وهب نفسه وعقله وعمله لكل المعذبين في الأرض، وربما كان يعد نفسه واحدًا من هؤلاء المعذبين في الأرض ■