فوكو ومانيه العمل الفني كسلطة وتمثيل

فوكو ومانيه  العمل الفني كسلطة وتمثيل

عرف‭ ‬الفن‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬حالات‭ ‬شدّ‭ ‬وجذب‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬السلطة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬السياسي،‭ ‬بل‭ ‬تتجاوز‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬متعلقة‭ ‬باللغة‭ ‬والمجتمع‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬واللاهوت‭ ‬والتقنيات‭ ‬من‭ ‬منظورية‭ ‬Perspectiva‭ ‬وتمثيل‭ ‬Représentation ‬وغيرها،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬فناني‭ ‬النهضة‭ ‬ظلوا‭ ‬مرتبطين‭ ‬بإملاءات‭ ‬الكنيسة‭ ‬والمعايير‭ ‬التقليدية‭ ‬القائمة،‭ ‬التي‭ ‬تحكمت‭ ‬لقرون‭ ‬في‭ ‬الخلق‭ ‬والإبداع،‭ ‬وإن‭ ‬بدأت‭ ‬أولى‭ ‬إرهاصات‭ ‬الانفصال‭ ‬والثورة‭ ‬الفنية‭ ‬ضد‭ ‬السلطة‭ ‬مع‭ ‬فن‭ ‬الحديث‭ ‬وقُبيله‭ ‬بقليل،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تيارات‭ ‬في‭ ‬جغرافيات‭ ‬معيّنة‭ ‬ستتحكم‭ ‬فيها‭ ‬مقاليد‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬والأيديولوجية،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬التقنيات‭ ‬والمواضيع،‭ ‬خدمة‭ ‬لمصالحها‭ ‬البروباجاندية،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬والصين‭ ‬الماوية،‭ ‬حيث‭ ‬صار‭ ‬الفن‭ ‬مقتصرًا‭ ‬على‭ ‬خدمة‭ ‬صورة‭ ‬الدولة‭ ‬وحكّامها،‭ ‬وتمرير‭ ‬خطابها‭.‬

في‭ ‬المعسكر‭ ‬المقابل،‭ ‬لعب‭ ‬التجريد‭ ‬أيضًا‭ ‬دورًا‭ ‬أيديولوجيًّا‭ ‬لمحاربة‭ ‬الواقعية‭ ‬التصويرية‭ ‬التي‭ ‬دعمها‭ ‬المعسكر‭ ‬الشرقي‭ ‬الشيوعي‭. ‬وعربيًّا‭ ‬مارس‭ ‬أكثر‭ ‬الفنانين‭ ‬العرب‭ ‬التزاماتهم‭ ‬بقضاياهم‭ ‬العامة،‭ ‬وكان‭ ‬التزامهم‭ ‬لها‭ ‬طوعيًّا‭ ‬ومتشابهًا،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬قومية‭ ‬واحدة،‭ ‬وأهم‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬كانت‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬وحرب‭ ‬الجزائر‭ ‬التحريرية‭ ‬والعدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬وحرب‭ ‬النكسة‭ ‬1967،‭ ‬ثم‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973‭. ‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬هزت‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وهددت‭ ‬مصيره،‭ ‬كانت‭ ‬قضايا‭ ‬وشعارات‭ ‬تنادي‭ ‬بها‭ ‬الأفكار‭ ‬التقدمية،‭ ‬فهناك‭ ‬النزعات‭ ‬الشيوعية‭ ‬التي‭ ‬تنادي‭ ‬بالواقعية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬وهناك‭ ‬النزعات‭ ‬القومية‭ ‬كنزعة‭ ‬البعث‭ ‬الاشتراكي‭ ‬التي‭ ‬تنادي‭ ‬بهوية‭ ‬قومية‭ ‬للفن‭ ‬الحديث‭. ‬وفي‭ ‬المغرب‭ ‬دعت‭ ‬جماعة‭ ‬65‭ ‬بالدار‭ ‬البيضاء‭ ‬إلى‭ ‬التجريد‭ ‬التصويري،‭ ‬وذلك‭ ‬مواجهة‭ ‬للتصوير‭ ‬التقليدي‭ ‬الذي‭ ‬رؤي‭ ‬أنه‭ ‬تقليدي،‭ ‬وكما‭ ‬مواجهة‭ ‬للفن‭ ‬العفوي‭ ‬الذي‭ ‬نعتته‭ ‬بالفطري،‭ ‬للقطع‭ - ‬على‭ ‬حسب‭ ‬قول‭ ‬المنتمين‭ ‬لتلك‭ ‬الجماعة‭ - ‬مع‭ ‬الأب‭ ‬الغربي،‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يُوّجه‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬خدمة‭ ‬لمصالحه‭ ‬أو‭ ‬تشويهًا‭ ‬له‭.‬

 

فوكو‭ ‬وسلطة‭ ‬الفن

اهتم‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو‭ (‬1926‭ - ‬1984‭)‬،‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬مؤرخي‭ ‬وفلاسفة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بتحليل‭ ‬ودراسة‭ ‬أصول‭ ‬ومنابع‭ ‬السلطة،‭ ‬والحفر‭ ‬الأركيولوجي‭ ‬في‭ ‬الخطابات‭ ‬اللغوية‭ ‬والبصرية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بها،‭ ‬وقاده‭ ‬حماسه‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬المشاركة‭ ‬بشكل‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬1968‭ ‬بفرنسا،‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬شراراتها‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬مجاورة‭ ‬وبعيدة‭. ‬دراسته‭ ‬لتلابيب‭ ‬السلطة‭ ‬ستقوده‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬الفن‭ ‬وأعماله‭ ‬التصويرية ‭ ‬الصباغية‭) ‬بالتحديد‭. ‬واهتمامه‭ ‬هذا‭ ‬مردّه‭ ‬إلى‭ ‬كون‭ ‬فوكو‭ ‬قد‭ ‬وعي‭ ‬بأن‭ ‬الفن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أبدًا‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬وجل‭ ‬تمثّلاتها‭ ‬التي‭ ‬تُحدث‭ ‬تغيرات‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭. ‬وقد‭ ‬اهتم‭ ‬فوكو‭ ‬بأبعاد‭ ‬رباعية‭ ‬للفن‭ ‬متمثلةً‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬‮«‬الواصفات‮»‬‭ ‬لفلاسكيز،‭ ‬حيث‭ ‬يدرس‭ ‬العلامة‭ ‬الرمزية‭ ‬التشكيلية‭ ‬للمعرفة‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬ولوحات‭ ‬مانيه،‭ ‬حيث‭ ‬يعالج‭ ‬المادية‭ ‬الحيّة‭ ‬للفن‭ ‬الحديث،‭ ‬وأعمال‭ ‬بول‭ ‬كلي‭ ‬وكاندانسكي‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬تفكيكًا‭ ‬للغة‭ ‬البصرية،‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فهي‭ ‬مسكونة‭ ‬بالمعرفة‭ ‬التصويرية‭. ‬أما‭ ‬بخصوص‭ ‬أعمال‭ ‬ماغريت‭ ‬السريالية،‭ ‬فيتطرق‭ ‬فوكو‭ ‬عبرها‭ ‬إلى‭ ‬برادوكس‭ (‬مفارقة‭  ‬القطيعة‭ ‬المبرمة‭ ‬مع‭ ‬تمثيل‭ ‬الفضاء‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬المعاصر‭.‬

فلسفة‭ ‬حركية

وقد‭ ‬خاضت‭ ‬دراسات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬الفوكوي‭ ‬في‭ ‬المواضيع‭ ‬التصويرية،‭ ‬فإلى‭ ‬جانب‭ ‬الاستعمالات‭ ‬المتنوعة‭ ‬للصورة‭ ‬في‭ ‬أعماله،‭ ‬انفتح‭ ‬فوكو‭ ‬على‭ ‬الخطاب‭ ‬الفلسفي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جوانبه‭ ‬المرتبطة‭ ‬بتعدد‭ ‬الممارسات‭ ‬الفنية،‭ ‬التي‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬اقتصارها‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬الفكر‭ ‬التقليدي،‭ ‬إذ‭ ‬عبر‭ ‬توغلات‭ ‬غير‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالتفكير‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬استطاع‭ ‬هذا‭ ‬المفكر‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬فلسفة‭ ‬ذات‭ ‬حركية‭ ‬للقوة‭ ‬النظرية‭ - ‬السياسية‭.‬

لا‭ ‬يكاد‭ ‬المشروع‭ ‬الدراسي‭ ‬الجمالي‭ ‬لفوكو‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬مجمل‭ ‬فلسفته،‭ ‬إذ‭ ‬يتتبع‭ ‬عبر‭ ‬تحاليله‭ ‬للأعمال‭ ‬التي‭ ‬درسها‭ ‬بنيات‭ ‬العمل‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬بنياته،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يختفي‭ ‬وراء‭ ‬اللوحة‭ ‬من‭ ‬تراكمات‭ ‬سلطوية‭ ‬متعلّقة‭ ‬بالحقبة‭ ‬المرتبطة‭ ‬بها‭. ‬ولا‭ ‬تنفصل‭ ‬مقارباته‭ ‬الجمالية‭ ‬عن‭ ‬الجو‭ ‬الفكري‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬عرفته‭ ‬أوربا‭ ‬عمومًا‭ ‬وفرنسا‭ ‬خاصة،‭ ‬والذي‭ ‬ساهم‭ ‬فيه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬الذين‭ ‬كانت،‭ ‬بدورهم،‭ ‬لديهم‭ ‬علاقات‭ ‬تجاذب‭ ‬مع‭ ‬السلطة،‭ ‬أمثال‭ ‬جان‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭ ‬ومشيل‭ ‬ليريس‭ ‬وميرلو‭ ‬بونتي‭ ‬وجيل‭ ‬دولوز‭ ‬وجورج‭ ‬باتاي‭ ‬وموريس‭ ‬بلانشو‭ ‬وغيرهم،‭ ‬فالمناخ‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سائدًا‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الـ‭ ‬20‭ ‬كان‭ ‬يفرض‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬بتمثّلات‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الجوانب‭ ‬اليومية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الفن‭.‬

ولا‭ ‬تتعلق‭ ‬السلطة‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬علاقتها‭ ‬بالعمل‭ ‬الفني،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬المتلقي‭ - ‬في‭ ‬أحايين‭ ‬كثيرة‭ - ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬بمقدوره‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬العمل،‭ ‬حداثيًّا‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬معاصرًا،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬سطوة‭ ‬التراكمات‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بمفهوم‭ ‬التمثيل،‭ ‬والذي‭ ‬يحضر‭ ‬كقوة‭ ‬جمالية‭ ‬منطقية‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهذا‭ ‬المتلقي‭.‬

 

فوكو‭ ‬ومانيه‭... ‬أركيولوجيا‭ ‬الفن

من‭ ‬هذا‭ ‬المعطى‭ ‬الأخير‭ ‬سعى‭ ‬فوكو‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬أعمال‭ ‬إدوارد‭ ‬مانيه‭ ‬الصباغية‭ (‬1832‭ - ‬1883‭).‬

ويوضح‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬أركيولوجيا‭ ‬المعرفة‮»‬‭ ‬في‭ ‬عرضه‭ ‬عن‭ ‬أعمال‭ ‬هذا‭ ‬الفنان،‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬يقوم‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الجدال‭ ‬ضد‭ ‬‮«‬الهيمنة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬وقته‮»‬‭. ‬وانطلاقًا‭ ‬من‭ ‬أعماله،‭ ‬بدأت‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬أعمال‭ ‬فنية‭ ‬حداثية‭ ‬وذاتية‭ ‬المرجع،‭ ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬أنتج‭ ‬أشهر‭ ‬الحركات‭ ‬الفنية‭ ‬الحديثة‭: ‬الانطباعية،‭ ‬ومعها‭ ‬بات‭ ‬المتلقي‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬التحاليل‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬جمالية‭ ‬بالمعنى‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬بل‭ ‬اتخذت‭ ‬أبعادًا‭ ‬أركيولوجية‭ ‬وسياسية‭.‬

اختار‭ ‬فوكو‭ ‬أن‭ ‬يستكشف‭ ‬عالم‭ ‬مانيه،‭ ‬ليس‭ ‬عبر‭ ‬التطرق‭ ‬بصيغة‭ ‬عامة‭ ‬إلى‭ ‬اشتغال‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية،‭ ‬بل‭ ‬اعتمادًا‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الصباغية،‭ ‬معلقًا‭ ‬عليها‭ ‬ومعالجًا‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬مما‭ ‬فتح‭ ‬لفوكو‭ ‬إمكان‭ ‬دراسة‭ ‬التصوير‭ ‬الحديث،‭ ‬الذي‭ ‬مهّد‭ ‬لميلاد‭ ‬الفن‭ ‬المعاصر،‭ ‬ما‭ ‬يُبين‭ ‬أهمية‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬لدى‭ ‬مانيه‭.‬

وعبر‭ ‬تشريح‭ ‬مفصل‭ ‬للوحات،‭ ‬يؤكد‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬اعترافات‭ ‬البدن‮»‬‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نفصل‭ ‬الفن‭ ‬عن‭ ‬مسألتي‭ ‬مواجهة‭ ‬المتلقي‭ ‬للعمل‭ ‬الفني‭ ‬وميلاد‭ ‬مشاهد‭ ‬جديد‭ ‬مع‭ ‬الفن‭ ‬الحديث،‭ ‬إنه‭ ‬بالأحرى‭ ‬مشارك،‭ ‬كما‭ ‬يسميه‭ ‬فوكو‭.‬

هاتان‭ ‬المسألتان‭ ‬مرتبطتان‭ ‬بثنايا‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬الغربيين‭ ‬وخباياهما‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬عمل‭ ‬مانيه‭ ‬محوريًّا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬فلأنه‭ ‬قد‭ ‬‮«‬لعب‭ ‬بخاصية‭ ‬اللوحة‭ ‬لكيلا‭ ‬تصير‭ ‬فضاء‭ ‬معياريًّا،‭ ‬يثبت‭ ‬تمثيله‭ ‬للمشاهد‭ ‬نقطة‭ ‬وحيدة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إليها‮»‬،‭ ‬نظرة‭ ‬مؤطرة‭ ‬لا‭ ‬محيد‭ ‬عنها‭. ‬كما‭ ‬تحددها‭ ‬قواعد‭ ‬المنظور‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬التقليدي‭ (‬الكلاسيكي‭). ‬يبدع‭ ‬مانيه‭ ‬‮«‬فضاء‭ ‬يمكن‭ ‬التحرك‭ ‬فيه‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬فوكو،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬كيفية‭ ‬معالجته‭ ‬لمساحة‭ ‬اللوحة‭ ‬عينها‭ ‬لاعبًا‭ ‬على‭ ‬الخواص‭ ‬المادية‭ ‬للقماش‭ ‬والسطح‭ ‬والارتفاع‭ ‬والعرض،‭ ‬فقد‭ ‬لعب‭ ‬مانيه‭ ‬بالخواص‭ ‬الفضائية‭ ‬للقماش‭ ‬بما‭ ‬يمثّله‭ ‬في‭ ‬اللوحة‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬أحدث‭ ‬أول‭ ‬الصراعات‭ ‬التي‭ ‬شابت‭ ‬بين‭ ‬فناني‭ ‬التحديث‭ ‬وفناني‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬التقليد،‭ ‬إذ‭ ‬سيتم‭ ‬منع‭ ‬عرض‭ ‬لوحته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬غداء‭ ‬على‭ ‬العشب‮»‬،‭ ‬برفقة‭ ‬لوحات‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬صالون‭ ‬باريس‭ ‬1963،‭ ‬بدعوى‭ ‬فاحشيتها،‭ ‬حيث‭ ‬تصور‭ ‬امرأة‭ ‬عارية‭ ‬تتنزه‭ ‬مع‭ ‬شابين‭ ‬يرتديان‭ ‬ملابسهما،‭ ‬وأيضًا‭ ‬هناك‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى‭ ‬تغتسل‭ ‬في‭ ‬الخلفية،‭ ‬فقد‭ ‬خلقت‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬فضيحة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬عرضها‭ ‬بصالون‭ ‬مواز‭. ‬بهذا‭ ‬العمل،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬نشوء‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬التيارين‭ ‬القديم‭ ‬والجديد،‭ ‬أعطى‭ ‬مانيه‭ ‬أولى‭ ‬الشرارات‭ ‬لظهور‭ ‬البراديغم‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬التصوير‭ ‬الصباغي‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬الصراعي‭ ‬ضد‭ ‬السلطة‭ ‬القائمة‭ ‬اهتم‭ ‬فوكو‭ ‬بأعمال‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬غداء‭ ‬على‭ ‬العشب‮»‬‭.‬

 

النقطة‭ ‬العمياء

وبشكل‭ ‬جذري،‭ ‬يتحدث‭ ‬فوكو‭ ‬عن‭ ‬القوة‭ ‬الجمالية‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬مانيه،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬اللوحة‭ ‬تفكر‭ ‬أو‭ ‬تمارس‭ ‬تفكيرًا‭ ‬تصويريًّا،‭ ‬مقترحًا‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬دائمًا‭ ‬تحذير‭ ‬المشاهد‭ ‬من‭ ‬حقائق‭ ‬اللوحة‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬العبارات‭ ‬اللغوية‭ ‬المضافة‭ ‬إلى‭ ‬الأعمال‭. ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إفساح‭ ‬المجال‭ ‬للمرئي‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬فالخطاب‭ ‬يحضر‭ ‬باعتباره‭ ‬سلطة‭ ‬على‭ ‬العمل،‭ ‬إنه‭ ‬مضاف‭ ‬إلى‭ ‬العمل،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬بنيته‭ ‬الإنشائية‭.‬

ولأن‭ ‬أي‭ ‬مجابهة‭ ‬لأي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬جرأة،‭ ‬فإن‭ ‬جرأة‭ ‬مانيه،‭ ‬حسب‭ ‬فوكو،‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬تأخذ‭ ‬المتلقي‭ ‬كشاهد‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭ ‬لإثبات‭ ‬أن‭ ‬شخوصها‭ ‬تنظر‭ ‬خارجًا‭ ‬عنها،‭ ‬نحو‭ ‬نقطة‭ ‬عمياء‭ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭. ‬نقطة‭ ‬مازالت‭ ‬تقيم‭ ‬في‭ ‬إضاءة‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬‮«‬أولمبيا‮»‬‭ ‬الشهيرة،‭ ‬الضوء‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬بشكل‭ ‬رئيس‭ ‬من‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬ينظر،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يصبح‭ ‬شريكًا‭ ‬في‭ ‬الفضيحة‭ ‬التي‭ ‬أثيرت‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬عرض‭ ‬هذه‭ ‬اللوحات‭.‬

 

‭ ‬أهمية‭ ‬مانيه

وتكمن‭ ‬أهمية‭ ‬مانيه،‭ ‬حسب‭ ‬فوكو،‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬أول‭ ‬فنان‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬الغربي،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬منذ‭ ‬النهضة،‭ ‬أو‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ (‬القرن‭ ‬الأول‭ ‬للنهضة‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬سمح‭ ‬لنفسه‭ ‬باستخدام‭ ‬الجزء‭ ‬الداخلي‭ ‬من‭ ‬لوحاته،‭ ‬داخل‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬تمثّله،‭ ‬والخصائص‭ ‬المادية‭ ‬التي‭ ‬ترسم‭ ‬عليها‮»‬،‭ ‬فهذا‭ ‬الفنان‭ ‬غيّر‭ ‬فضاء‭ ‬المتلقي‭ ‬الكلاسيكي‭. ‬وهو‭ ‬مدرك‭ ‬للقيود‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬أبعاد‭ ‬اللوحة،‭ ‬لهذا‭ ‬ثار‭ ‬عليها‭ ‬وتمرّد‭ ‬بكامل‭ ‬وعيه،‭ ‬فلعب‭ ‬بها‭ ‬واستخدمها‭ ‬ببراعة‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬لوحاته‭. ‬فالشخوص‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الخطوط‭ ‬والزوايا،‭ ‬مما‭ ‬يقود‭ ‬خيالنا‭ ‬إلى‭ ‬افتراض‭ ‬لوحات‭ ‬غير‭ ‬موجودة،‭ ‬كما‭ ‬يخبرنا‭ ‬فوكو،‭ ‬كأن‭ ‬لوحة‭ ‬مانيه‭ ‬هي‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬أحجية‭ ‬كبيرة‭ ‬تمثّل‭ ‬مشهدًا‭ ‬لحياتنا،‭ ‬فيغدو‭ ‬العمل‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬تمثيلًا،‭ ‬بل‭ ‬كأنه‭ ‬موضوع‭.‬

لا‭ ‬يقدم‭ ‬في‭ ‬بحثه‭ ‬هذا‭ ‬أي‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬لمانيه،‭ ‬ولا‭ ‬يستند‭ ‬إليها،‭ ‬ولا‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬أي‭ ‬تحليل‭ ‬نفسي‭ ‬للمتلقي،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬دراسة‭ ‬سيميائية‭ ‬للصور‭/ ‬اللوحات،‭ ‬ويوضح‭ ‬فوكو‭ ‬أن‭ ‬مانيه‭ ‬ينزع‭ ‬الشرعية‭ ‬عن‭ ‬التمثيل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬اللوحة‭/ ‬الموضوع،‭ ‬موضحًا‭ ‬صفات‭ ‬وحدود‭ ‬اللوحات،‭ ‬ومصرًّا‭ ‬على‭ ‬الرهانات‭ ‬‮«‬السياسية‮»‬‭ ‬للتمثيل‭.‬

فهيمنة‭ ‬تمثيل‭ ‬دالّ‭ ‬بنفسه‭ ‬توقظ،‭ ‬عبر‭ ‬تتالي‭ ‬كلماته،‭ ‬نظامًا‭ ‬كامنًا‭ ‬وراقدًا‭ ‬في‭ ‬الأشياء‭.‬‮ ‬‭ ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬مانيه‭ ‬لم‭ ‬يبدع‭ ‬التصوير‭ ‬غير‭ ‬التمثيلي،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عنده‭ ‬هو‭ ‬تمثيلي،‭ ‬لكنه‭ ‬أقام‭ ‬لعبًا‭ ‬في‭ ‬المكونات‭ ‬الأساسية‭ ‬للقماش‭. ‬لقد‭ ‬ابتكر،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬فوكو،‭ ‬اللوحة‭/ ‬الموضوع،‭ ‬أو‭ ‬التصوير‭/ ‬الموضوع،‭ ‬وهذا‭ - ‬بلا‭ ‬شك‭ - ‬هو‭ ‬الشرط‭ ‬الأساسي،‭ ‬عند‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬المراقبة‭ ‬والعقاب‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬سيقودنا،‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام،‭ ‬إلى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬التمثيل،‭ ‬وترك‭ ‬الفضاء‭ ‬يلعب‭ ‬في‭ ‬خواصه‭ ‬البسيطة‭ ‬والخالصة،‭ ‬خواصه‭ ‬المادية‭ ‬عينها‭. ‬كلام‭ ‬فوكو‭ ‬هذا‭ ‬يتخذ‭ ‬اليوم،‭ ‬مع‭ ‬الفن‭ ‬المعاصر،‭ ‬حضورًا‭ ‬بارزًا،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬أعمالاً‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬برفورمانس‭ ‬وأنستلايشن‭ ‬وفن‭ ‬جاهز‭ - ‬صنع،‭ ‬تتخلى‭ ‬عن‭ ‬الفضاء‭ ‬أو‭ ‬تجعله‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬اللعبة‭ ‬الاستتيقيا‭ ‬للعمل‭ ‬كعنصر‭ ‬ذائب‭ ‬فيه‭.‬

 

تشويش‭ ‬المتلقي

ينهي‭ ‬فوكو‭ ‬بحثه‭/ ‬محاضرته‭ ‬ألقاها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬عام ‭ ‬1971 ‬بالتطرق‭ ‬للوحة‭ ‬‮«‬Bar‭ ‬aux‭ ‬Folies‭ ‬Bergères‮»‬‭ (‬1881‭)‬،‭ ‬إذ‭ ‬يميز‭ ‬هذا‭ ‬المفكر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬نشاطًا‭ ‬معقّدًا‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬المشهد‭ ‬المعتاد،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬انعكاس‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬غير‭ ‬مخلص‭ ‬للمنتظر‭ ‬رؤيته،‭ ‬فهناك‭ ‬تشويش‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬تمثّله‭ ‬المرأة‭ ‬وما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يمثّله‭ ‬انعكاسها‭. ‬فمانيه‭ ‬يضع‭ ‬المشاهد‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬وتشويش‭ ‬كبير،‭ ‬إذ‭ ‬أين‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الرسام؟‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬زاوية‭ ‬كان‭ ‬يقف؟‭ ‬هناك‭ - ‬في‭ ‬العمل‭ - ‬نظرة‭ ‬صاعدة‭ ‬وأخرى‭ ‬هابطة‭. ‬مما‭ ‬يربك‭ ‬ذهن‭ ‬المتلقي،‭ ‬ويكسر‭ ‬سلطة‭ ‬المنظور‭ ‬وأبعاده‭ ‬وقواعده‭ ‬التي‭ ‬هيمنت‭ ‬على‭ ‬الفن‭ ‬طوال‭ ‬العصور‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬مانيه،‭ ‬مما‭ ‬يرتب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬وجود‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬عديدة،‭ ‬وبالضرورة‭ ‬غير‭ ‬موضوعية،‭ ‬فالنادلة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تحتله،‭ ‬والفنان‭ ‬يحتل‭ ‬مكانين‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬آخذًا‭ ‬المتفرج‭ ‬معه‭. ‬

إنها‭ ‬المرحلة‭ ‬المهمة‭ ‬إذن‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬والتي‭ ‬يدخل‭ ‬فيها‭ ‬المشاهد‭ ‬إلى‭ ‬صلب‭ ‬العمل‭ ‬ويتماهى‭ ‬معه،‭ ‬ويصبح‭ ‬جزءًا‭ ‬منه،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تغدو‭ ‬له‭ ‬سلطة‭ ‬تأويلية‭ ‬وقرائية‭ ‬ذاتية‭. ‬بهذه‭ ‬الأعمال‭ ‬فتح‭ ‬إدوارد‭ ‬مانيه‭ ‬عالَم‭ ‬الفن‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬أمام‭ ‬تحديث‭ ‬بصري،‭ ‬ولج‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬التصوير‭ ‬الصباغي‭ ‬مرحلة‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬فجّرت‭ ‬الفضاء‭ ‬والرسم،‭ ‬ممهدةً‭ ‬الطريق‭ ‬نحو‭ ‬الفن‭ ‬المعاصر‭ .

ميشيل‭ ‬فوكو

إدوارد‭ ‬مانيه