فوكو ومانيه العمل الفني كسلطة وتمثيل
عرف الفن على مر العصور حالات شدّ وجذب بينه وبين السلطة، التي لا تقتصر على المستوى السياسي، بل تتجاوز هذا الأخير إلى مستويات متعلقة باللغة والمجتمع والأيديولوجيا واللاهوت والتقنيات من منظورية Perspectiva وتمثيل Représentation وغيرها، حيث إن فناني النهضة ظلوا مرتبطين بإملاءات الكنيسة والمعايير التقليدية القائمة، التي تحكمت لقرون في الخلق والإبداع، وإن بدأت أولى إرهاصات الانفصال والثورة الفنية ضد السلطة مع فن الحديث وقُبيله بقليل، إلا أن تيارات في جغرافيات معيّنة ستتحكم فيها مقاليد السلطة السياسية والأيديولوجية، مما أدى إلى التحكم في التقنيات والمواضيع، خدمة لمصالحها البروباجاندية، كما حدث في الاتحاد السوفييتي والصين الماوية، حيث صار الفن مقتصرًا على خدمة صورة الدولة وحكّامها، وتمرير خطابها.
في المعسكر المقابل، لعب التجريد أيضًا دورًا أيديولوجيًّا لمحاربة الواقعية التصويرية التي دعمها المعسكر الشرقي الشيوعي. وعربيًّا مارس أكثر الفنانين العرب التزاماتهم بقضاياهم العامة، وكان التزامهم لها طوعيًّا ومتشابهًا، إذ إنه كان من زاوية قومية واحدة، وأهم هذه القضايا كانت قضية فلسطين وحرب الجزائر التحريرية والعدوان الثلاثي وحرب النكسة 1967، ثم حرب أكتوبر 1973.
وإلى جانب هذه القضايا التي هزت العالم العربي وهددت مصيره، كانت قضايا وشعارات تنادي بها الأفكار التقدمية، فهناك النزعات الشيوعية التي تنادي بالواقعية الاشتراكية في الفن، وهناك النزعات القومية كنزعة البعث الاشتراكي التي تنادي بهوية قومية للفن الحديث. وفي المغرب دعت جماعة 65 بالدار البيضاء إلى التجريد التصويري، وذلك مواجهة للتصوير التقليدي الذي رؤي أنه تقليدي، وكما مواجهة للفن العفوي الذي نعتته بالفطري، للقطع - على حسب قول المنتمين لتلك الجماعة - مع الأب الغربي، الذي ظل يُوّجه الفن في المغرب خدمة لمصالحه أو تشويهًا له.
فوكو وسلطة الفن
اهتم ميشيل فوكو (1926 - 1984)، أحد أبرز مؤرخي وفلاسفة القرن العشرين، بتحليل ودراسة أصول ومنابع السلطة، والحفر الأركيولوجي في الخطابات اللغوية والبصرية المرتبطة بها، وقاده حماسه هذا إلى المشاركة بشكل فاعل في أحداث 1968 بفرنسا، التي انتقلت شراراتها إلى بلدان مجاورة وبعيدة. دراسته لتلابيب السلطة ستقوده إلى عوالم الفن وأعماله التصويرية الصباغية) بالتحديد. واهتمامه هذا مردّه إلى كون فوكو قد وعي بأن الفن لم يكن أبدًا بمعزل عن السلطة وجل تمثّلاتها التي تُحدث تغيرات على المستويين الاجتماعي والسياسي. وقد اهتم فوكو بأبعاد رباعية للفن متمثلةً في لوحة «الواصفات» لفلاسكيز، حيث يدرس العلامة الرمزية التشكيلية للمعرفة الكلاسيكية، ولوحات مانيه، حيث يعالج المادية الحيّة للفن الحديث، وأعمال بول كلي وكاندانسكي التي تعتبر تفكيكًا للغة البصرية، مع ذلك فهي مسكونة بالمعرفة التصويرية. أما بخصوص أعمال ماغريت السريالية، فيتطرق فوكو عبرها إلى برادوكس (مفارقة القطيعة المبرمة مع تمثيل الفضاء في الفن المعاصر.
فلسفة حركية
وقد خاضت دراسات عدة في هذا البحث الفوكوي في المواضيع التصويرية، فإلى جانب الاستعمالات المتنوعة للصورة في أعماله، انفتح فوكو على الخطاب الفلسفي في كل جوانبه المرتبطة بتعدد الممارسات الفنية، التي غالبًا ما تم اقتصارها في حدود الفكر التقليدي، إذ عبر توغلات غير مرتبطة بالتفكير الكلاسيكي، استطاع هذا المفكر أن يبني فلسفة ذات حركية للقوة النظرية - السياسية.
لا يكاد المشروع الدراسي الجمالي لفوكو ينفصل عن مجمل فلسفته، إذ يتتبع عبر تحاليله للأعمال التي درسها بنيات العمل وما بعد بنياته، أي ما يختفي وراء اللوحة من تراكمات سلطوية متعلّقة بالحقبة المرتبطة بها. ولا تنفصل مقارباته الجمالية عن الجو الفكري العام الذي عرفته أوربا عمومًا وفرنسا خاصة، والذي ساهم فيه مجموعة من المفكرين الذين كانت، بدورهم، لديهم علاقات تجاذب مع السلطة، أمثال جان بول سارتر ومشيل ليريس وميرلو بونتي وجيل دولوز وجورج باتاي وموريس بلانشو وغيرهم، فالمناخ العام الذي كان سائدًا في النصف الثاني من القرن الـ 20 كان يفرض هذا الاهتمام بتمثّلات السلطة في كل الجوانب اليومية، بما في ذلك الفن.
ولا تتعلق السلطة عند هذا الحد بالنسبة إلى علاقتها بالعمل الفني، بل إن المتلقي - في أحايين كثيرة - لا يجد نفسه بمقدوره التعامل مع العمل، حداثيًّا كان أو معاصرًا، في ظل سطوة التراكمات الكلاسيكية المتعلقة بمفهوم التمثيل، والذي يحضر كقوة جمالية منطقية بالنسبة لهذا المتلقي.
فوكو ومانيه... أركيولوجيا الفن
من هذا المعطى الأخير سعى فوكو إلى دراسة أعمال إدوارد مانيه الصباغية (1832 - 1883).
ويوضح صاحب «أركيولوجيا المعرفة» في عرضه عن أعمال هذا الفنان، أن هذا الأخير يقوم بنوع من الجدال ضد «الهيمنة الفنية في وقته». وانطلاقًا من أعماله، بدأت أوربا في نشر أعمال فنية حداثية وذاتية المرجع، وذلك ما أنتج أشهر الحركات الفنية الحديثة: الانطباعية، ومعها بات المتلقي في قلب التحاليل التي لم تعد جمالية بالمعنى الكلاسيكي، بل اتخذت أبعادًا أركيولوجية وسياسية.
اختار فوكو أن يستكشف عالم مانيه، ليس عبر التطرق بصيغة عامة إلى اشتغال هذا الفنان أو إلى سيرته الذاتية، بل اعتمادًا على مجموعة من الأعمال الصباغية، معلقًا عليها ومعالجًا تفاصيلها، مما فتح لفوكو إمكان دراسة التصوير الحديث، الذي مهّد لميلاد الفن المعاصر، ما يُبين أهمية العمل الفني لدى مانيه.
وعبر تشريح مفصل للوحات، يؤكد صاحب «اعترافات البدن» أننا لا يمكن أن نفصل الفن عن مسألتي مواجهة المتلقي للعمل الفني وميلاد مشاهد جديد مع الفن الحديث، إنه بالأحرى مشارك، كما يسميه فوكو.
هاتان المسألتان مرتبطتان بثنايا الفكر والثقافة الغربيين وخباياهما. وإن كان عمل مانيه محوريًّا في هذا الصدد فلأنه قد «لعب بخاصية اللوحة لكيلا تصير فضاء معياريًّا، يثبت تمثيله للمشاهد نقطة وحيدة يمكن أن ننظر إليها»، نظرة مؤطرة لا محيد عنها. كما تحددها قواعد المنظور في بعدها التقليدي (الكلاسيكي). يبدع مانيه «فضاء يمكن التحرك فيه»، كما يقول فوكو، من حيث كيفية معالجته لمساحة اللوحة عينها لاعبًا على الخواص المادية للقماش والسطح والارتفاع والعرض، فقد لعب مانيه بالخواص الفضائية للقماش بما يمثّله في اللوحة. كما أنه أحدث أول الصراعات التي شابت بين فناني التحديث وفناني المحافظة على التقليد، إذ سيتم منع عرض لوحته الشهيرة «غداء على العشب»، برفقة لوحات أخرى، في صالون باريس 1963، بدعوى فاحشيتها، حيث تصور امرأة عارية تتنزه مع شابين يرتديان ملابسهما، وأيضًا هناك امرأة أخرى تغتسل في الخلفية، فقد خلقت هذه اللوحة فضيحة في أثناء عرضها بصالون مواز. بهذا العمل، إلى جانب نشوء صراع بين التيارين القديم والجديد، أعطى مانيه أولى الشرارات لظهور البراديغم الحديث في التصوير الصباغي. ومن هذا المنطلق الصراعي ضد السلطة القائمة اهتم فوكو بأعمال صاحب «غداء على العشب».
النقطة العمياء
وبشكل جذري، يتحدث فوكو عن القوة الجمالية في أعمال مانيه، إذ إنه يتحدث عن أن اللوحة تفكر أو تمارس تفكيرًا تصويريًّا، مقترحًا أنه ليس من الضروري دائمًا تحذير المشاهد من حقائق اللوحة بمجموعة من العبارات اللغوية المضافة إلى الأعمال. فلا بد من إفساح المجال للمرئي في العمل، فالخطاب يحضر باعتباره سلطة على العمل، إنه مضاف إلى العمل، وليس من بنيته الإنشائية.
ولأن أي مجابهة لأي نوع من السلطة يحتاج إلى جرأة، فإن جرأة مانيه، حسب فوكو، في الحقيقة تأخذ المتلقي كشاهد على اللوحة لإثبات أن شخوصها تنظر خارجًا عنها، نحو نقطة عمياء لا تظهر على اللوحة. نقطة مازالت تقيم في إضاءة خاصة من «أولمبيا» الشهيرة، الضوء الذي يأتي بشكل رئيس من الشخص الذي ينظر، وبالتالي يصبح شريكًا في الفضيحة التي أثيرت في أثناء عرض هذه اللوحات.
أهمية مانيه
وتكمن أهمية مانيه، حسب فوكو، في أنه «أول فنان في الفن الغربي، على الأقل منذ النهضة، أو منذ القرن الخامس عشر (القرن الأول للنهضة)، الذي سمح لنفسه باستخدام الجزء الداخلي من لوحاته، داخل حتى ما تمثّله، والخصائص المادية التي ترسم عليها»، فهذا الفنان غيّر فضاء المتلقي الكلاسيكي. وهو مدرك للقيود التي تفرضها أبعاد اللوحة، لهذا ثار عليها وتمرّد بكامل وعيه، فلعب بها واستخدمها ببراعة في تكوين لوحاته. فالشخوص تنظر إلى ما وراء الخطوط والزوايا، مما يقود خيالنا إلى افتراض لوحات غير موجودة، كما يخبرنا فوكو، كأن لوحة مانيه هي قطعة من أحجية كبيرة تمثّل مشهدًا لحياتنا، فيغدو العمل ليس فقط تمثيلًا، بل كأنه موضوع.
لا يقدم في بحثه هذا أي سيرة ذاتية لمانيه، ولا يستند إليها، ولا يقدم لنا أي تحليل نفسي للمتلقي، ولا حتى دراسة سيميائية للصور/ اللوحات، ويوضح فوكو أن مانيه ينزع الشرعية عن التمثيل من قبل اللوحة/ الموضوع، موضحًا صفات وحدود اللوحات، ومصرًّا على الرهانات «السياسية» للتمثيل.
فهيمنة تمثيل دالّ بنفسه توقظ، عبر تتالي كلماته، نظامًا كامنًا وراقدًا في الأشياء. ومن المؤكد أن مانيه لم يبدع التصوير غير التمثيلي، حيث إن كل شيء عنده هو تمثيلي، لكنه أقام لعبًا في المكونات الأساسية للقماش. لقد ابتكر، كما يؤكد فوكو، اللوحة/ الموضوع، أو التصوير/ الموضوع، وهذا - بلا شك - هو الشرط الأساسي، عند صاحب «المراقبة والعقاب»، الذي سيقودنا، في يوم من الأيام، إلى التخلص من التمثيل، وترك الفضاء يلعب في خواصه البسيطة والخالصة، خواصه المادية عينها. كلام فوكو هذا يتخذ اليوم، مع الفن المعاصر، حضورًا بارزًا، إذ إن أعمالاً عدة من برفورمانس وأنستلايشن وفن جاهز - صنع، تتخلى عن الفضاء أو تجعله يدخل في اللعبة الاستتيقيا للعمل كعنصر ذائب فيه.
تشويش المتلقي
ينهي فوكو بحثه/ محاضرته ألقاها لأول مرة في تونس عام 1971 بالتطرق للوحة «Bar aux Folies Bergères» (1881)، إذ يميز هذا المفكر في هذه اللوحة نشاطًا معقّدًا قادرًا على عكس المشهد المعتاد، إذ إن انعكاس المرأة في المرآة غير مخلص للمنتظر رؤيته، فهناك تشويش بين ما تمثّله المرأة وما ينبغي أن يمثّله انعكاسها. فمانيه يضع المشاهد في حيرة وتشويش كبير، إذ أين يمكن أن يكون الرسام؟ وفي أي زاوية كان يقف؟ هناك - في العمل - نظرة صاعدة وأخرى هابطة. مما يربك ذهن المتلقي، ويكسر سلطة المنظور وأبعاده وقواعده التي هيمنت على الفن طوال العصور التي سبقت مانيه، مما يرتب عن هذا العمل الفني وجود وجهات نظر عديدة، وبالضرورة غير موضوعية، فالنادلة ليست في المكان الذي يجب أن تحتله، والفنان يحتل مكانين في الوقت نفسه، آخذًا المتفرج معه.
إنها المرحلة المهمة إذن في الفن، والتي يدخل فيها المشاهد إلى صلب العمل ويتماهى معه، ويصبح جزءًا منه، وبالتالي تغدو له سلطة تأويلية وقرائية ذاتية. بهذه الأعمال فتح إدوارد مانيه عالَم الفن على مصراعيه أمام تحديث بصري، ولج من خلاله التصوير الصباغي مرحلة الحداثة التي فجّرت الفضاء والرسم، ممهدةً الطريق نحو الفن المعاصر .
ميشيل فوكو
إدوارد مانيه