هنري بركات 50 عامًا من الفن الجميل

هنري بركات  50 عامًا من الفن الجميل

يعدّ المخرج السينمائي الكبير هنري بركات (1914 - 1997) واحدًا من علامات السينما المصرية، وأحد أعمدتها الراسخة، عبّرت أعماله عن الأصالة في الريف والمدينة، وعن الشخصيات البسيطة في المجتمع، ومدى تأثّرها بمختلف الظروف والحقب الزمنية، وعبّر عن ذلك في أكثر من 90 فيلمًا روائيًا تعتبر من كلاسيكيات السينما المصرية، ولقب بـ «شيخ المخرجين»، نظرًا لغزارة إنتاجه الفني. 

 

تناول بركات في أفلامه أحوال الناس وأحلامهم وما يمرّون به من حبّ، وألمٍ، وخَوف، وشَجن، مُوظفًا في ذلك صورًا معبّرة وتكوينات بديعة تكشف عن عمق رؤيته الفنية، كما طرح قضايا المرأة في المجتمع من زوايا عدة، ومن خلال ثقافات متنوعة، في أمكنة وأزمنة مختلفة، فتجلّى حسُّه الفني ووعيُه بمكنون المرأة وطرائق تفكيرها، وما يمكن أن تواجهه في حياتها.
بدأ المخرج الراحل عمله في المجال الفني بعد سنوات قليلة من بداية ظهور الأفلام الروائية الطويلة في مصر، وبالتحديد عام 1935، حيث دخل عالَم الإنتاج السينمائي بتأسيس شركة إخوان بركات (شارل وهنري بركات)، وكان فيلم «عنتر أفندي» في العام نفسه أول الأفلام التي أنتجتها شركته، كما قام بعمل المونتاج في الفيلم نفسه. وشارك في عام 1940 طاقم العمل في فيلم «الورشة» من إخراج استيفان روستي، حيث عمل مساعدًا للإخراج، ومونتيرًا (عمل المونتاج)، وغيرها من الأفلام التي شارك في طواقمها الفنية، إذ بدأ شغفه بالسينما مبكرًا، وسعى إلى معرفة كل الوسائل والتقنيات المستخدمة في الفيلم السينمائي. 
استطاع بركات، على مدى نصف قرن، أن يقدّم أعمالًا فنية خالدة أضافت للسينما العربية مزيدًا من الرقيّ والتميز، وذلك منذ انطلاقته الأولى في الإخراج السينمائي عام 1942 مع أفلام «الشريد»، و«لو كنت غني»، و«المتهمة»، وحتى ختام مسيرته الفنية عام 1993 بفيلم «تحقيق مع مواطنة» من بطولة سهير رمزي، وفاروق الفيشاوي. وبين العامين قدّم كثيرًا من الأفلام التي شكلت ملامح السينما في مصر، مثل: «شاطئ الغرام»، و«الباب المفتوح»، و«الحب الضائع»، و«الخيط الرفيع»،... وغيرها، فضلًا عن أفلامه التي تم اختيارها ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وهي «أمير الانتقام»، و«دعاء الكروان»، و«في بيتنا رجل»، و«الحرام»، الذي تم ترشيحه لجائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي الدولي عام 1965، فقد شكلت أفلامه تراث السينما المصرية، ورسمت خريطة تطورها، وكان وجود اسمه على «الأفيش» دليلاً دامغًا على جودة الفيلم.
على الرغم من مرور رحلته الفنية بأجيال ومدارس مختلفة، ووجوده بين مجموعة كبيرة من المخرجين المتميزين من أمثال نيازي مصطفى، وكمال سليم، ويوسف وهبي، وأحمد بدرخان، وصلاح أبو سيف، ويوسف شاهين...، وغيرهم، فقد كان لكل منهم بصمته ورؤيته الخاصة، وكانت له رؤيته الفنية الخالصة التي جعلت أعماله تتسم بالتنوع والثراء الدلالي والموضوعي، وتتسع لكل ما هو جديد وفارق، سواء في الأفلام التي تمحورت حول عالم المدينة، مثل «سجى الليل» (1948)، و«ليلة الزفاف» (1966)، و«الخيط الرفيع» (1971)، وغيرها، أو نظيرتها التي دارت حول القرية مثل «حسن ونعيمة» (1959)، الذي أنتجه وقدّم فيه سعاد حسني لأول مرة على شاشة السينما، وهو من تأليف عبدالرحمن الخميسي، وكذلك «أفواه وأرانب» (1976) الذي دارت أحداثه بين حياة الريف والحضر. كما ارتكزت أعماله أيضًا على قضايا الفقراء والمعدمين وما يمكن أن يواجهونه بسبب فقرهم، وتجلّى ذلك في عديد من الأفلام، على رأسها «دعاء الكروان»، الذي عُنى بقضايا الشرف والانتقام الإلهي.
ويجد المتأمل لرحلة هذا المخرج الكبير مع الأفلام الروائية أنها رحلة بها قدر كبير من التنوع، فكما عُني بالمرأة وبما واجهته من تحديات؛ عُني بها أيضًا في سياق الرومانسية، فقدّم للمشاهد عديدًا من القصص العاطفية، وكشف عن كنه المرأة في كثير من الأفلام، وفضلًا عن الاتجاه الرومانسي، والفيلم الغنائي العاطفي؛ تجلّى أيضًا الهاجس الوطني في بعض أفلامه. كما قدّم عددًا من الأفلام الكوميدية، وكان حسّه الفني مختلفًا. 
 
بؤرة التحول الدرامي
المرأة في أفلام بركات هي مركز الأحداث وبؤرة التحول الدرامي، وأولى البوابات الواسعة لتناول السمات الفنية لعالمه، ويمكن رصد أكثر من 20 فيلمًا أخرجها تدور حول المرأة، ولا يضاهيه في ذلك مخرج سينمائي آخر، فالمرأة في أفلام «المتهمة»، و«الحرام»، و«الباب المفتوح»، و«أفواه وأرانب»، و«لا عزاء للسيدات»، و«الخيط الرفيع»، و«ليلة القبض على فاطمة»، و«الحب الضائع»، و«امرأة سيئة السمعة»، و«امرأة بلا قيد»،... وغيرها، هي بؤرة الحدث الفيلمي، وهي ما يشكّل مبررات التصاعد الدرامي والدافع الرئيسي لتطور الأحداث.
وأخرج بركات فيلمين لبنانيين للفنانة الكبيرة فيروز، هما «سفر برلك» (1967)، و«بنت الحارس» (1968)، واجهت المرأة في الأول سلطة المحتل، ووقفت في الآخر إلى جانب أبيها، والتأكيد على قيمة الحق والعدل، واستطاعت أن تقنع أهالي البلدة بخطأ وجهة نظرهم وعدم جدواها. والفيلمان من الأفلام الغنائية التي قدّم كثيرًا منها على مدى رحلته الفنية.
تميّزت شخصيات أفلامه بأنها من طين الواقع، سواء في القرية أو المدينة، ومن هذه الشخصيات، «آمنة» في فيلم «دعاء الكروان» (1959) في رائعة عميد الأدب العربي طه حسين، وهي الرواية التي تحمل الاسم نفسه، وصُنّفت واحدةً من أفضل مئة رواية في تاريخ الرواية العربية، أما الفيلم فهو أحد أهم 10 أفلام في تاريخ السينما المصرية (حسب استطلاعات لمجلات فنية)، وتؤدي فاتن حمامة دور آمنة، الفتاة التي فقدت الأب، وطردت مع أختها الوحيدة وأمهما، فعملت خادمة في بيت مهندس الري من أجل الانتقام لأختها، لكنها، وهي شخصية لافتة، ثرية بمخزونها النفسي، على الرغم من تجربتها المحدودة في الحياة، تقع في شرَك الحب، ولا تستطيع مواصلة مشوار الانتقام. 
يكتنز الفيلم بكثير من المحاور الدلالية والصور الموحية القائمة على قواعد السينما الكلاسيكية، مثل القتل والقصاص كنتيجة حتمية للخطيئة (مقتل الأب، وهنادي، ومهندس الري). واتسم أغلب الحوار الذي كتبه يوسف جوهر - بإتقان شديد - بالرقي والإيحاء، لا سيِّما حوارات آمنة مع المهندس، والأم، وزنوبة، وجميعها يشير إلى دلالات عديدة، ويحيل إلى صور شتّى في العلاقة بالآخر/ الرجل، من وجهة نظر المرأة. ولا يزال هذا الفيلم يحظى بمتابعة كبيرة من جمهور المشاهدين، برغم مرور 60 عامًا على إنتاجه. 
وأخرج بركات مجموعة أفلام من بطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وتعتبر من أكثر الفنانين بطولة لأعماله، وأفلامها معه من أفضل ما قدمت طوال مسيرتها الفنية، فتتركز أغلبها حول كينونة المرأة في المجتمع، ويتمحور فيلم «أفواه وأرانب» - على سبيل المثال - حول استغلال نعمة من قِبل أسرتها «الأخت، وزوج الأخت»، ومن قِبل المعلم بطّاوي الذي يتزوجها زورًا، وتظل عُرضة للقهر المجتمعي واستفحال السلطة الذكورية وهيمنتها، كذلك فيلم «لا عزاء للسيدات» (1979)، و«ليلة القبض على فاطمة» (1984) مع شكري سرحان، وصلاح قابيل، ودارت أحداثه في إحدى المدن الساحلية حول استبداد الأخ واستغلال نفوذه.
من هذه الأفلام أيضًا «الحب الضائع» (1970)، الذي تناول إشكالية الازدواجية في الحب، وجاء التصاعد الدرامي مبنيًّا على وقوع الرجل في حب آخر، وكشفت الأحداث عن أثر ذلك على استقرار الأسرة. وتأتي النهاية لفضّ الاشتباك وحلّ العقدة الدرامية بمصرع السيدة الأخرى في حادث. 

بركات... والفيلم الغنائي
قدّم بركات عددًا كبيرًا من الأفلام الغنائية التي يعتبر أحد روّادها البارزين مع محمد كريم، وأحمد بدرخان، وتوجو مزراحي،... وغيرهم، فقد قدّموا عديدًا من الأفلام الغنائية لكل من محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، وشادية، وغيرهم. وأدت هذه النوعية من الأفلام دورًا مهمًا في جذب المشاهدين إلى السينما الروائية من خلال الطرب، لا سيما في حقبتي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وهو ما أدى إلى الارتقاء بالذائقة الطربية والفيلمية عند الأجيال التالية التي تربّى وعيها على هذه الأفلام عند عرضها على الشاشة الصغيرة، خاصة أن أفلام تلك المرحلة الزمنية اتسمت بالبساطة والرقيّ، وساهم فيها مخرجون كبار، منهم بركات الذي قدّم سينما بسيطة غير معقّدة، تقترب من المشاهد البسيط الذي لا تتطلب مشاهدته للفيلم أن يكون مثقفًا أو متعلمًا، فالسينما ثقافة العامة، لا تحتاج إلّا للإدراك البصري فحسب.   
فضلًا عن الفيلمين اللذين أخرجهما لفيروز، ومزج فيهما بين هموم المرأة وتطلعاتها لخدمة الوطن، وبين توظيف الأغنية دراميًا؛ استطاع أن يقدّم الفيلم الغنائي القائم على الحبكة الرومانسية التي تقوم على القصص العاطفية التي تعيشها الشخصيات، خاصة أولئك الذين يمرّون بظروف متردية ويواجهون أعباء الحياة في سبيل تحقيق الذات، ثم يعيشون رحلة صعود يأتي بعدها النجاح والتميز. 
قدّم في هذا الاتجاه مجموعة من الأفلام الغنائية التي مزجت بين الأغنية والسرد الدرامي والصورة البصرية، مثل أفلام: «ما تقولش لحدّ»، و«لحن الخلود»، و«حبيب العمر» و«عفريته هانم»، و«ماليش غيرك»، و«قصة حبي»، و«رسالة غرام»، و«نغم في حياتي» مع فريد الأطرش، و«دايمًا معاك» مع محمد فوزي، و«شاطئ الغرام»، مع ليلى مراد، و«حسن ونعيمة» مع محرم فؤاد، و«بنات اليوم»، و«أيام وليالي» مع عبدالحليم حافظ، وغيرها.
وقد طرح صراع المال والحب والعلم في فيلم «لست شيطانًا ولا ملاكًا» عام 1980، ليقدّم رؤية ثرية وعميقة للقصة العاطفية عند اصطدامها بمشكلة المال، كما أخرج عديدًا من الأفلام الرومانسية مثل: «موعد غرام»، و«شاطئ الغرام»، و«شاطئ الحب»، و«رسالة غرام»، و«وادي الذكريات»، وفيلم «اذكريني» (1978) المقتبس عن فيلم «بين الأطلال» الذي أخرجه عزالدين ذوالفقار عام 1959، والمأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب يوسف السباعي.
 
تجربة متسعة ومتنوعة
تجربة بركات السينمائية متسعة ومتنوعة، فقد امتدت زمنيًا من الأربعينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، حيث عمل مع آسيا، واستيفان روستي، وعبدالفتاح القصري، وبشارة واكيم، وإحسان الجزايرلي، وغيرهم، ومع نجوم السبعينيات والثمانينيات في الوقت نفسه. 
واستطاع أن يطأ مناطق إبداعية متنوعة الثراء، إذ لم يتوقف مشروعه الفني عند إخراج الأفلام الرومانسية، أو الغنائية، أو المعنيّة بالمرأة فحسب؛ فقدّم أفلامًا أخرى توظف الحس الوطني، وتحثّ على خدمة الوطن، كما قدّم الفيلم الكوميدي من خلال رؤية مغايرة.  
نجح بركات في تقديم أفلام وطنية على درجة كبيرة من الأهمية، فإضافة إلي فيلمي فيروز؛ أخرج أفلامًا تعدّ من أهم كلاسيكيات السينما المصرية، مثل «في بيتنا رجل» (1961)، و«الباب المفتوح» (1963) وقدّم في الفيلمين رؤية فنية تحرِّض على الوطنية وتغرس روح الانتماء، وتحث على الكفاح ضد الظلم والاحتلال، ففي الفيلم الأول تقوم أسرة مصرية مسالمة، ليس لأفرادها شأن بالسياسة، بإخفاء شاب فدائي هارب، فتقوم بمساعدته حتى يتمكن من الهرب إلى خارج البلاد، لكنه يترك المركب التي ستقله إلى خارج مصر، ويقرر الكفاح ضد المستعمر حتى النّفَس الأخير، فيقوم بعمليات فدائية ضد ثكنات العساكر الإنجليز ومخازن الذخيرة، ويستشهد فداء للوطن.
يقوم البناء الدرامي لفيلم «الباب المفتوح»، المأخوذ عن رواية «خرجت للنور» للكاتبة لطيفة الزيات، على خطين دراميين أساسيين، هما جسارة الشباب وسفرهم إلى مدينة بورسعيد للقيام بعمليات فدائية ضد المحتل من ناحية، وبحث المرأة عن ذاتها وعن مستقبلها في مقابل رجعية الأسرة والتمسك بأفكار قديمة وغير موضوعية من ناحية أخرى، ويمتزج الخطان الدراميان عندما ترفض ليلى (فاتن حمامة) الزواج من رجل مفروض عليها، وتذهب إلى بورسعيد لمساندة الفدائيين في مواجهة المحتل، فيرتكز موضوع الفيلم على بحث المرأة عن ذاتها وكينونتها من أجل خدمة الوطن.
وقد عمل الفيلمان على توظيف عديد من النماذج الإنسانية المتناقضة، مثل شخصية الشاب صاحب الأفق المتسع الذي وجّهها وفتح عينيها على آفاق الحياة وعلى كيفية تحقيق ذاتها، في مقابل الشاب العاطل المستهتر الذي لا يعي قيمة الحياة ولا يفيد وطنه. 
احتفى بركات بالصورة البصرية، وضمّن أفلامه كثيرًا من اللوحات الفنية المعبّرة عن الأحداث، فارتكزت الصورة لديه على صنع حالة من التشكيل البصري المعبّر عن الشخصيات وعن السياق الدرامي، وظهر ذلك بشكل خاص في أفلام «دعاء الكروان»، و«في بيتنا رجل»، و«ليلة القبض على فاطمة»، و«لا عزاء للسيدات»،... وغيرها. 
على صعيد الكوميديا، قدّم عديدًا من الأفلام مع نجوم الكوميديا القدامى والجدد، مثل «لو كنت غني» (1942) مع بشارة واكيم وإحسان الجزايرلي، و«عفريته هانم» (1949) مع فريد الأطرش وعبدالسلام النابلسي، و«إخواته البنات» (1976) مع محمد عوض وناهد شريف، و«شعبان تحت الصفر» (1980)، و«العسكري شبراوي» (1982)، و«حسن بيه الغلبان» (1982)، وغيرها من أفلام الثمانينيات التي اعتمدت على المفارقة الكوميدية، وحققت لنجوم الكوميديا عادل إمام، ويونس شلبي، وسمير غانم، نجاحًا كبيرًا، حيث تعاطف الجمهور مع شخصياتها.  
لجأ بركات في بعض أفلامه إلى الأعمال الأدبية، وفضلًا عن «دعاء الكروان»، و«في بيتنا رجل»، قدّم فيلم «الحرام» عن قصة بالاسم نفسه للكاتب يوسف إدريس، و«الخيط الرفيع» عن رواية لإحسان عبدالقدوس، وعرضت أفلامه في معظم المهرجانات الدولية، وحصل على عديد من الجوائز والتكريمات، مثل جائزة أفضل فيلم من مهرجان جاكرتا السينمائي الدولي عام 1964 عن فيلم «الباب المفتوح»، وجائزة من مهرجان فالنسيا الدولي عام 1984، عن فيلم «ليلة القبض على فاطمة»، وتم تكريمه في مصر رسميًا بمنحه جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1995.
سيبقى هنري بركات الصوت الذي لا يغيب، بما قدّمه من أعمال فنية تلقى متابعة ومشاهدة جيل بعد جيل، لما حوته من صور معبّرة وقضايا جادة ومعالجات هادفة، حققت متعة للمشاهد واحتوته بسحرها ■