سامي بن عامر الفنان وعوالمه الحيّة

حين يقول الفنان التونسي سامي بن عامر إن رسومه، على ما فيها من أبعاد طبيعية التشكلات، ولا تتضمن أي «محاكاة لطبيعة بصريّة»، فلكي يُؤكد لمشاهد أعماله أنها ليست «نزهة رومانسية، أو إدراكًا انطباعيًّا لتأثيرات عينية»، وإنما هي، وفق تعييناته لها، «رحلة إنشاء، ووصل» بين النهائي واللانهائي، مما جعلها تأتي مشبّعة بـ «أبعاد الأحاسيس ودلالة الحركات الجسدية التي تُحيلنا إلى الأشكال الأرضية»، والحفريات، وإلى الفضاءات تحت الأرضية ـ أي تلك التي تنتظم في مدارات كونية ـ موظفًا، في هذا، حروف الكتابتين العربية والمسمارية، بما يستخلص منهما من شاعرية، وبـ «مرجعيات ثقافية وروحية» ـ أو أنه يتلقاها على هذا النحو مضمونًا.
ولعل هذا هو ما يجعــل لرســومه تجلياتهــا في هذين البُعدين؛ الــــمادي والروحي، إذ إنها، في أخص ما لهـــا من وجوه، «حــــوار بيــــن عالَمين؛ خارجــــي، وداخلـــي»، ذلك أنــــه يريـــد لها أن تُشكّل «عالمًا جديدًا» بكونيةٍ رؤيــــوية تعتمـــد الصلة بين «سلام الروح» و«تنازعات الفكر».
وهو، في هذا، كما يُنصت للطبيعـــة بأصواتها، فإنه يجد نفسه تحتمي بأوتار نفسه حميمة الإيقاع، متلقيًّا منها أصداء عالمه الداخلي... واصفًا الرسوم، التي تنتجها علاقته هذه، بكونها «مقاومة» للذات على أرض الوجود.
لذلك نجده يحرص على أن يُبقيها على الأرض - أرضه التي يغشاها بأحلامه ورؤاه - وهي، بدورها، تمنحه القدرة على استمرار العطاء.
وإذا كان عمل هذا الفنان قد عرف «محطات» مثّلتْ انتقالات في بناء الشكل، وتوظيفات اللون ـ وهذا ما يتجلى في أعمال معرضه الجديد (2018) ـ فهو يعدّ العمل الفني لقاءً متجدِّداَ «مع مادية نُغيّر فيها كما تُغيّر فينا»، معتمدًا ما يجد فيه «اختزالًا للزمن»... غايته من ذلك أن يُشكل مسيرته الفنية، التي بدأها قبل أكثر من ثلاثين عامًا، بخطوات متعاقبة تعتمد «التطور المدروس»، لا القفز على «الحواجز الشكلية» التي لا تضيف للعمل الفني بُعدًا إبداعيًّا حقيقيًّا، أو خصائص هي خلاصة ذات المبدع.
رؤية كونية
علاقة عمله بكل من الحيــاة والـــواقـع تُفضي به إلى رؤيــــة كونيــــة تتشكل، بفضـــاءاتها وإيقـــاعاتها، على نحو يؤكد أن عمله، كما كل عمل فنــي، إذا كان قد ولد ولادة جنــينيّة فإنه سيكبر، وهو اليوم قد كَبُرَ في عملية نموّ متواصلة، حتى أنه، وهو ينظره في هذا السياق، يتجلى له عن أن الكون كامن فينـــا، وأن «حركاتنا، التي تُحدث الطاقــة وتَهب الريح وتبثّ الحــرارة»، هي الشاهد الذي يجسّد حقيقة الإحساس، ويُعبّر عنه، ملخصًا مسيرة استجابــــاته هذه فـــي الانتقال من العضــوي إلى اللاعضــوي، ومن الصلب إلى السائـــل، ومــن المادي إلى ضدّه، ومن الطاقـــة المتراكمة تحت الأرض إلـــى «الحركة المتحرّرة والفضاءات الدينامية»، ومن المعتم الداكن إلى المضيء الشفاف، ومن الانطواء على الداخل إلى الانفتاح على الخارج.
وفي هذا كله نجده يدور في عالم الداخل - حيث الذات فيما تعقد من تواصلات حيّة - عاقدًا صلته بعالم الخارج, ويتمثل هذا بما يفتح من آفاق يتحرك فيها حركة مستقبلية بتفاعل حي مع الحاضر.
فهو فنان رؤى وأفكـــار، وفـــي هذا يجد نفسه، كما يجده من قرأ عمله قراءة نقــــدية، فنانًا يعود، في عمله الفني إلى «الأصول» التي هي، عنده، أصول ارتباط بالفعل الفنــــي، مشكِّلة من خــلال ذلك/ وبه حركتين؛ تاريخية وإبداعية، منسوجتين في فضاء كوني رحب الفُسحة.
فهو حتى إن وجد نفسه أمام حالات متعينة التكوين (البحر والسفائن فيه، على سبيل المثال، وكما في أعمال له بهذا التكوين)، فإنه يُحركها حركة غير عادية بفعل حركية خياله.
الخط والتكوينات الحروفية
وإذا كان من بين أعماله ما اعتمد طابعًا زخرفيًّا في تكوينه، فإن تحولاته الأخيرة أخذت، من خلال التجريد/ وبه، نزوعًا تعبيريًّا خاصًّا جمع بين «الخط» و«التكوينات» التي يؤلفها، سواء بأبعاد بَصَريّة أم بمعطيات تشكيلية يقف وراءها «الإحساس» و«الشعور» وليس «الكتلة التكوينية»، فهي خطوط محكمة، لها حمولاتها الدلالية، فإن اعتمد فيها اللون الأسود، فلكي يجعل لـ « فراغات البياض» فيها طاقة تعبيرية مضافة، محققًا منحى من التوازن الإبداعي القائم، في عمله هذا، على اختزال «فسحات التكوين» للتعبير عن رؤية/ فكرة يحرص على أن تأتي مكثفة التكوينات.
فالحركة هي العنصر الأساس في عمله الفني، وهي التي تجعل له دلالته البَصَريّة التي، بدورها، تجعل للخطوط، كما للحروف، خاصيتها الرمزية والفنية معًا. فزخرفيته «زخرفية جمالية»، ذات حيوية تعبيرية لها دورها في البعد التكويني - التشكيلي للوحة.
فضلًا عن هذا، فهو يسعى إلى تحقيق ما يُطلِق عليه، هو نفسه، «فنًا إحداثيًا»، يستجيب فيه لإدراكه العالم إدراك حس وإحساس.
فهذا الفنان كما أنشأ حداثته على هذا النحو المتعيّن بحالات، وفي أشكال وصيغ تعبير، نجده يحرص على أن يُجدد هذه الحداثة بما يجعل لعمله الفني، المتوثِّب بها، من تشكلات - هي عبارة عن خطوط متداخلة، ومتمازجة، أو منزاحة من بعضها إلى ما تشكّل من تكوين, فإن نحى بها منحىً تجريديًّا، فللتجريد عنده عوالمه التخييلية التي تتجلى فيما للوحته/ عمله الفني من تكوينات قلقة.
دوران تصاعدي
وإذا كان هناك من ينسب فنّه إلى الأرض، التي وجدها غير قارئ لعمله، متجلية بتوهج في عمله الفني (لوحته)، فهي، كما رآها فنان آخر (الحبيب بيده) تدور «به دورانًا تصاعديًا نحو مطلق وجد نفسه فيه صُحبة ملائكة جعلها الخالق مبدأ خَلْقه». فإذا هو، في هذا، مبدع لعوالم هذه الأرض، ليس بما عليها من وجود مباشر، وإنما بإحساسه بما يتراءى له منها في صور «أشكال» و«تكوينات»... فهو يستجيب، عملًا، لما يتحرك في داخله، هو الفنان، بعيدًا عن أي نزعة انطباعية - فمهمة الفنان فيها، وفق رؤيته، «مراقبة الخارج». وبهذا فهو يُقدّم ما يمكن أن نُطلقَ عليه «نسيج شراكة» بينه «ذاتًا»، وبين «الشكل» مجسَّدًا تجسيدًا يجمع بين التعبير والتجريد في «سُلَّمٍ إيقاعي» أقرب ما يكون إلى تجسيدات «السُّلّم الموسيقي»، فيما يعقّد من إحساس وتواصل مع المُعطى ـ معطى الحياة التي يتمثّل فيها «حقيقة العالم».
وسواء في أعماله الأخيرة، أو في التي قبلها، نجده دائم الحرص على تغذية أسلوبه التشكيلي بمقومات تقنية تمنحه قدرة التفاعل لإنتاج «الجمالي» في بُعد آخر غير البُعد المتداول في تجارب فنيّة أخرى.
فهو يجعل من لوحته بؤرة قابلة للتركيب، مطوِّعًا مادته (الخط، واللون، والرموز الزخرفية، أو العلامات الحروفية) تطويعَ تجديد لما تحمل من إشارات تنتظم في أنساق تكوينية فيها تكثيف لرؤيته/ رؤياه، مخاطبًا بها البصر والإحساس.
الثقافة وبراعة الإبداع
بقي أن نقول إنه فنان يجمع بين الثقافة الفنية ذات التكوين النظري، والبراعة الإبداعية (الاحترافية)... وهو في هذا يُجدد في عمله فاتحًا باب الإضافة المتفاعلة مع الاتجاهات الحديثة في الفن، يرفدها بما توفّر عليه من خصائص تكوينية تتصل بما هو بيئي - مجتمعي، ما جعل منه فنانًا له خصوصيته الإبداعية التي تتجلى، أكثر ما تتجلى، في ذلك «البُعد الإيقاعي» لتكويناته التشكيلية، بما يمكن وصفه، عملًا فنيًّا، بـ «الفنان الباحث»، فهو دائب التطوير لكشوفاته الرؤيوية بنضج وإدراك تشكيلي يمارسه بضرب من «الإنشائية البارعة» حسًّا وإحساسًا .
أكريليك على توال 150 x 150 cm
أكريليك على خشب 80 x 80 cm