عبدالحي حلمي إلى محيّاك نور البدر يعتذرُ
كثيرًا ما يكون هناك في دنيا الفنّ أكاديمي يلتزم بالأصول، ويحافظ على المبادئ، ويحيط بالأنغام من كل جانب... لكنه لا يبلغ القلوب بيُسر وسهولة. يقابله آخر، يترك العنان لأوتاره، ويبيح الفوضى لريشته، ويبعثر الحروف فوق صحيفته.. ومع ذلك، فإنه يمتلك مجامع تلك القلوب، وتعقد في صالحه جلسات التبرير والتفسير، ويكون فنّه فوق الفنون، وفي هذا نقول: سبحان الله! من هذه الدّائرة الفنيّة اخترت المطرب عبدالحي حلمي، أحد بلابل مطالع القرن العشرين، واخترت من ثماره قصيدة: إلى محيّاك نور البدر يعتذرُ، مع أنّها ليست الأساس في أغانيه.
تلقّى عبدالحي (1857 - 1912) معارفه الموسيقيّة بشكل مباشر من خلال تعرّفه وعمله مع فنّاني ذلك العصر؛ عبدالرّحيم المسلوب (1793 - 1928)، ومحمّد عثمان (1855 - 1900)، وعبده الحامولي (1843 - 1901)، إلى أن استقرّ به الأمر مذهجيًّا ناجحًا مع هذا الأخير، وهذا ما مكنّه من أن ينال موافقة نقابة الموسيقيّين في القاهرة، على أن ينطلق في نشاطه الخاص، ويكوّن تخته الموسيقي، ويلبّي الدّعوات بمفرده، بل امتدّ به الأمر ليكون من أوائل من سجّلوا أصواتهم على اسطوانات (زونوفون 1906)، إلى جانب مطربي عصره: يوسف المنيلاوي (1850 - 1911)، وسلامة حجازي (1852-1917)، وإبراهيم القبّاني (1852-1927).
وهو من أوائل من أحيوا الحفلات الخاصّة والعامّة على السّواء، في بيوت الأعيان، وفي الحدائق (كحديقة الأزبكيّة التّي تمّ افتتاحها قبيل زمانه بفترة قصيرة)، ويعتبر بشكل عام أنّه بلغ عرش الطّرب من خارج المدرسة الدّينيّة.
وبالعودة إلى لقاءاته الأولى مع الفنّانين الأساتذة، فإنّها كانت تتمّ في الصّالونات الكبيرة، خصوصًا صالون إسماعيل حافظ ناصر، خاصة السّلطان في الإسكندرية، الذّي هو فنّان هاوٍ معروف وميسور (وهو والد الفنّانة بهيجة حافظ التّي قدّمت لاحقًا في عام 1936 فيلم ليلى بنت الصّحراء .
وقد ورد في مجلّة الصّباح، بتاريخ 30 نوفمبر 1934، أنّ بهيجة تولّت بطولة فيلم الضّحايا، وهو من الأفلام الناطقة الأولى في تلك الفترة. كما ورد عنها في مجلة الكواكب، بتاريخ 16 يوليو 1968، ضمن مقال لصالح جودت: «السيّدة بهيجة حافظ رائدة السينما منذ 1938 تعيش في محنة قاسية في هذه الأيّام، فهي مريضة، منهارة، جائعة، طريحة الفراش، وقد فقدت إحدى عينيها الإبصار، وتوشك العين الأخرى أن تلحق بأختها، وصوتها كذلك أصبح خافتًا مهدّدًا بالصّمت، ويعالجها لوجه الله نفر من كبار الأطباء الإنسانيين، ويصفون لها الدّواء، لكنها لا تجد ثمن ذلك الدّواء، وكانت وزارة الثقافة قد خصّصت لها معاشًا قدره 30 جنيهًا، لكنّه هبط إلى 19، ثمّ إلى صفر».
وعبدالحي حلمي من مواليد بني سويف في صعيد مصر، انطلق في حياة بسيطة، وكانت دراسته الأولى مختصرة، مال إلى الغناء باكرًا، وفي سبيل ذلك رحل إلى الإسكندرية للعمل في قصر إسماعيل حافظ، وقد عرف النجاح بسبب حلاوة صوته وطواعيّة حنجرته، وبسبب انسجامه مع مشاعره في غنائه، وقدرته على ابتداع الأساليب الجديدة والغريبة في الأداء، وقد بلغ اليسر والبحبوحة بفعل ذلك، فبدا تأنّقه، وكثرت نزواته، وزاد تبذيره، وتنوّع مزاجه، وطغى تدلّلـه، حيث بات يعرف بـ «فتى الفن المدلّل»، وقد استهلك حياته سريعًا، كما يقال، بسبب ذلك كلّه.
وكانت لعبدالحي رحلة فنيّة عامرة إلى بيروت ودمشق وإسطنبول في عام 1910. ويروي سامي الشّوا في مذكّراته التّي نشرها فؤاد قصّاص (1966) أنّ الدّعوة إلى إسطنبول كانت من قبل أمينة إلهامي والدة الخديوي عبّاس، وبواسطة أحمد شوقي. وقد تمنّع عبدالحي عن المشاركة في إحدى السهرات هناك، بحجّة أنّه لا يغنّي في حضرة النّساء على الرّغم ممّا هو معروف عنه من إعراض عن الغناء في حال غياب الوجوه الصّبيحة.
وفي تلك السّهرة كانت المطربة التّركية المعروفة نصيب هي التّي بدأت الغناء، واختارت أن تطلق صوتها في طبقات عالية، وأجادت. كانت ردّة الفعل لدى عبدالحي أنّه اختار أن ينهي السّهرة على طريقته، حيث اصطحب شوقي والشّوا وبعض الأصحاب إلى مركب شراعي مستقرّ في البوسفور مقابل أحد القصور، وغنّى فيما غنّى هناك موّال «قُم في دجى اللّيل ترى بدر الجمال طالع» كما لم يغنّه في حياته، وفق الشّوا، واستمرّت السّهرة إلى وقت لاحظ فيه شوقي، أنّ الأنوار قد أطفئت في القصر المقابل، فأشار إلى رفاقه بالقول: كفاية يا جماعة أفندينا عاوز ينام.
شخصية فنّية غريبة ومحبّبة
اتّسم الأداء الغنائي لعبدالحي بالميل إلى التّحرر من القواعد المعروفة، خصوصًا لجهة التّفلّت من الالتزام التّام بالتّركيبة اللحنيّة، والنّصّ أحيانًا، ومن ذلك:
- إغفاله لأجزاء من اللّحن، وتوجيه جهده وتركيز اهتمامه على مقطعٍ ما يروق له، حيث يروح يعالجه، ويعيده، ويضيف عليه التّحليات، ويستمرّ يكرّره ويغنيه بالارتجالات والإضافات، خصوصًا في المواويل (الفجر أهو لاح، يا حادي العين)، التي كانت خشبة النّجاة بالنسبة إليه من كل قيد فنّي، كما كانت السّبيل لبلوغ الإبداع والنّشوة الفنيّة، له ولجمهوره.
- اتّكاله الواضح على التّخت المرافق له لجهة تحقيق مزاجيّته، إذ كان ذلك التّخت يعرف طبعه، ويتجاوب معه، ويحاول إضفاء الملامح الطّبيعيّة عليه، فكم من مرّة تركه يعزف ويعزف، وهو يؤجّل الغناء ويؤجّل، أو يُعرض عنه تمامًا، خصوصًا إن لم يهتدِ في الحاضرين إلى وجوه صبيحة تُرضي نظره وتسرّ نفسه، ويمتدّ به ذلك إلى أن يغادر المكان، ويقيم حفلته في مكان آخر، ومن أبلغ ما قرأته بخصوصه: أنّه كان ينادي اللّيل، ويستمرّ في ندائه، إلى أن يلتقي به، ويقبض عليه!
- بالنسبة إليه، يعتبر المطرب أساس العمل الفنّي، وحلاوة الصّوت والانسجام العام مع روح اللّحن، هما بذلك الرّكيزتان الأُوليان.
- خروجه في بعض الحالات على الوزن والإيقاع، حتّى في القصائد الموزونة الموقّعة والأدوار، بحكم ميله إلى التحرّر وإطلاق العنان لمفاجآته وخلجات نفسه، وكان لسان حاله يقول في ذلك: إنّني قادر على أن أُطرب من دون الالتزام التّام بالوزن، وللعبقري أن يخرج على الأصول أحيانًا، إلّا أنّ ذلك عرّضه للانتقاد في زمانه، خصوصًا في ظلّ المنافسة المعروفة بين أهل الفنّ.
أثره وصدى فنّه
أول المتأثرين بفن عبدالحي، وتفاصيل حياته كاملة (خصوصًا لجهة البداية الموسرة الباذخة، والنهاية العاثرة المقفرة)، هو ابن شقيقته المطرب صالح خليل (1896 - 1962)، الّذي حمل كنيته بشكل رسمي، وعُرف في كلّ مكان وزمان باسم المطرب صالح عبدالحي. كما يحسب من ضمن المتأثّرين بفنه وطريقته في الغناء: المطرب زكي مراد (1880 - 1946) والد الفنّانة ليلى مراد (إلى جانب تأثّره أيضًا بالملحّن داود حسني، 1870 - 1937 .
وقد أحصى الباحث المصري حسين الدّجاني مئة واثني عشر تسجيلًا لعبدالحي حلمي من مختلف الصّيغ الغنائيّة القديمة (قصيدة، موشّح، موّال، دور، طقطوقة...)، لدى الشّركات الّتي كانت معروفة آنذاك: زونوفون، غراموفون، أوديون، بيضافون، أمّا في إحصاء الباحث المستشرق فريدريك لاغرانج فقد بلغت تسجيلاته حوالي مئتين.
بعض القصائد الّتي شدا بها
القصائد التي أنشدها بلغت حوالي ثلاثين، بعضها تم أداؤه بشكل موزون وموقّع، وبعضها بشكل مرسل وعلى طريقة المواويل. وهي جميعًا من الشّعر القديم، باستثناء واحدة حديثة إلى حدّ ما، وهي لصديقه أحمد شوقي.
معاني تلك القصائد تحسب أحيانًا على المضمون الغزلي، وأحيانًا أخرى على المضمون الوجداني والصّوفي. أذكر منها، في نوعيها:
شكوت فقالت كلّ هذا تبرّمًا
بحبّي أراح الله قلبك من حبّي
وهي تنسب إلى أعرابي يشكو حبيبته، وهناك من يقول إنّها للحسن بن زياد، وكان الحامولي قد غنّاها (مقام بياتي)، كما سجلها صالح عبدالحي لاحقًا.
وللمتنبّي (915 - 965)، قصيدته المعروفة في هجاء كافور, ومنها:
عيد بأيّة حال عُدت يا عيدُ
بما مضى أم بأمر فيك تجديدُ
وهذه حالة نادرة من حالات غناء قصائد المتنبّي في مصر.
إلى محيّاك نور البدر يعتذرُ
وفي محبّتك العشاق قد عذروا
(مقام رست)، وهي لصفّي الدّين الحليّ.
أراك عصيّ الدّمع شيمتك الصّبرُ
أمّا للهوى نهي عليك ولا أمرُ
وهي لأبي فراس الحمداني (932 - 968)، كان الحامولي قد غنّاها (مقام بياتي).
وقد تكون من أكثر القصائد العربية مرافقة للمراحل الغنائيّة، ومن أكثرها عبورًا للحناجر. ويرجّح أن تكون مرّت على ألسنة المغنّين والمغنيّات في عصور كثيرة سالفة، وكانت تُسبق أو تُختم باللازمة المصريّة التي سادت في عصر الطّرب: آه يانا ويش للعواذل عندنا.
وقد ارتبط بها عبدالحي حلمي كثيرًا حين كان يعمل مع الحامولي، كما أن اختياره كان أوّل ما يقع على أسطوانتها كلّما اهتدى إلى آلة فونوغراف في مكان ما، وقد سجّلها بصوته مرّة ومرّتين وثلاثًا وأربعًا... ولدى أكثر من شركة أسطوانات، وفي إحدى تلك التّسجيلات مال إلى إنشادها بمقام الهُزام بديلًا عن مقام البياتي الذي عرفت به.
ولعبدالحي حلمي ميزته الخاصة في أدائه لـ «أراك عصي الدّمع»، خصوصًا حين يبدأها بـ أراك عصي... ويتوقّف، وبعد قليل يضيف مطمئنًّا: الدّمع. كما أنّه يتفنّن في إعادته لكلمة: نعم، عند:
نعم، أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكنّ مثلي لا يذاع له سرّ
ولنا أن نتخيّل لو أنّ مطلع هذا البيت كان بصفته الأساس: بلى، أنا مشتاق... هل كانت بلى لتلبّي زخرفات مطربنا مثل نعم التّي يتلاعب بها متّكئًا على حرف الميم في نهايتها؟
الطّرب أوّلًا والأصول ثانيًا
لم يكتفِ عبدالحي حلمي بأن يغنّي قصيدته بشكل مرسل ومن دون إيقاع (مع أنّ الإيقاع في الغناء القديم كان ضروريًّا لتسمية القصيدة قصيدة، ولم يكن يكفي أن تكون منظومة باللّغة الفصحى لكي تسمّى كذلك)، إنّما انطلق يؤدّي الألفاظ كما يحلو لحنجرته، ويفرض على الحروف الانسجام اللّفظي الّذي يريحه، حتّى ولو أدّى به ذلك إلى طرح الحركات الإعرابية جانبًا، وقد وافقه الحاضرون في ما فعل، ولسان حالهم يعلن: السّامعون يقولون أُطربنا!
صحيح أنّ الأداء تمّ في الاستديو، أي لم يكن فوق مسرح، أو في حفلة عامرة، إنّما كان الحاضرون هؤلاء، على قلّتهم قد حضروا للاستماع المبكّر، وقطاف البراعم الأولى من الأغنية الوليدة قبيل غيرهم، بدليل أنّ واحدًا منهم، وقد استبدّ به الطّرب، والتأثّر، والانكسار، عند سماعه «ونار هجرك لا تبقي ولا تذرُ»، يصرخ متنهّدًا صاغرًا: يا غُلبي!
لم ينبرِ واحد من هؤلاء ليشير، مرّة واحدة، إلى المطرب المحلّق بأن يصوّب الإعراب في بعض المواقف، فلقد كانت السّلطنة النّغمية هي العليا، وكان على اللّغة أن تطيع المقام الموسيقي، وللمقام مقاله هنا، وقوله.
بدأ عبدالحي مهرجانه الخيالي بالقول: إلى محيّاك نور البدر يعتذرُ... بأن نصب كلمة نور بدلًا من أن يرفعها (وهي فاعل يعتذر)، وقد وجد أنّ الفتحة هي الأقرب لفظًا إلى الألف واللّام اللّذين يليانها، فانساب في إنشادها كما طاب له وحلا، ولو أنّ أحدًا قال له: بل نقول نورُ، لغضب بالتّأكيد، وترك القاعة بعازفيها ومهندسي آلاتها وضيوفها، ومضى إلى غاية أخرى في مكان آخر كعادته في المواضع المشابهة. وأنا أتذكّر هنا ما حُكي عن قصيدة علي طه (الجندول)، التي سجّلها عبدالوهّاب في الاستديو (في أربعينيات القرن الماضي)، بحضور بعض أصحابه من أهل الفن والأدب، والتي قال فيها:
غير يوم لم يعد يذكر غيره
يوم أن قابلتَه أوّل مرّة
فانتفض طه حسين (وكان بين الحاضرين) مصوّبًا: قابلتُه... فتجاوب عبدالوهاب في الحال وهو يكرر البيت: يوم أن قابلتُه أوّل مرّة.
ولا بدّ من أن أذكر هنا أنّ اللغّويين يميلون إلى ضوء البدر، أكثر من ميلهم إلى نور البدر، وفي اعتبارهم أنّ النّور يُحسب على الشّمس، في حين أن البدر متلقّ لهذا النّور، وما يصدر عنه هو الضّوء ليس إلّا، لكنّ عبدالحي استبعد حرف الضّاد، واختار الحرف الأرقّ: النّون.
وعند: وفي محّبتك العشّاق، يختار أن يلفظ العشّاق كما يأتي: إِلعشّاق، ويتابع ملبّيًا هواه في القصيدة، بأن يستبدل طالعة في البيت الثاني
بـ «موثقة»، ويمضي ليستبدل هجرك بـ «حبّك» في البيت نفسه، ويتحدّى الإعراب في: يا من يهزّ دلالًا غصنَ قامتهِ، بأن ينشدها كما يأتي:
يا من يهزّ دلالَ الغصنِ قامتُه
الغصن هذا فأين الظلّ والثّمرُ؟
وفي البيت ما قبل الأخير يستبدل النّفيس
بـ «الخطير». أمّا في البيت الأخير، فيطيل التّدلّل والمناجاة مع حرف الميم في لمّا رأيت... وقد ذكّرتنا فتحيّة أحمد بذلك لاحقًا في قصيدة إبراهيم ميرزا وأبي العلا:
كم بعثنا مع النسيم سلامًا
للحبيب الجميل حيث أقامَ
كما ذكّرتنا به أيضًا أم كلثوم في قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي والسّنباطي، عند كلمة: كم، في البيت القائل:
هل رأى الحبّ سكارى مثلنا
كم بنينا من خيال حولنا
ويستبعد عبدالحيّ كلمة ظلام الشَّعر، ويضع مكانها سواد الشَّعر، متجنّبًا المبالغة في كلمة ظلام، ومكتفيًا بـ «سواد»، فالظّلام شامل مطلق، بينما السّواد فرع من فروعه، وأخفّ طغيانًا منه. وقد تكون كلمة الظّلام أتت مرفوعة بدلًا من أن تأتي منصوبة، بعد أن سكّنها وأرفقها بواو العطف، فظهرت وكأنّ عليها إشارة الضّمّة.
إنّما، إنّما... في ذلك كلّه أتى الطّرب سليمًا موفورًا طاغيًا، وكانت الطّير على رؤوس الجميع في قاعة التّسجيل آنذاك، واستمرّت على رؤوسنا، نحن أجيال المنصتين منذ 1908 حتّى الآن .