عبدالحي حلمي إلى محيّاك نور البدر يعتذرُ

عبدالحي حلمي إلى محيّاك نور البدر يعتذرُ

كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬دنيا‭ ‬الفنّ‭ ‬أكاديمي‭ ‬يلتزم‭ ‬بالأصول،‭ ‬ويحافظ‭ ‬على‭ ‬المبادئ،‭ ‬ويحيط‭ ‬بالأنغام‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب‭... ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يبلغ‭ ‬القلوب‭ ‬بيُسر‭ ‬وسهولة‭. ‬يقابله‭ ‬آخر،‭ ‬يترك‭ ‬العنان‭ ‬لأوتاره،‭ ‬ويبيح‭ ‬الفوضى‭ ‬لريشته،‭ ‬ويبعثر‭ ‬الحروف‭ ‬فوق‭ ‬صحيفته‭.. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنه‭ ‬يمتلك‭ ‬مجامع‭ ‬تلك‭ ‬القلوب،‭ ‬وتعقد‭ ‬في‭ ‬صالحه‭ ‬جلسات‭ ‬التبرير‭ ‬والتفسير،‭ ‬ويكون‭ ‬فنّه‭ ‬فوق‭ ‬الفنون،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬نقول‭: ‬سبحان‭ ‬الله‭! ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدّائرة‭ ‬الفنيّة‭ ‬اخترت‭ ‬المطرب‭ ‬عبدالحي‭ ‬حلمي،‭ ‬أحد‭ ‬بلابل‭ ‬مطالع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬واخترت‭ ‬من‭ ‬ثماره‭ ‬قصيدة‭: ‬إلى‭ ‬محيّاك‭ ‬نور‭ ‬البدر‭ ‬يعتذرُ،‭ ‬مع‭ ‬أنّها‭ ‬ليست‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬أغانيه‭.‬

تلقّى‭ ‬عبدالحي‭  (‬1857‭ - ‬1912‭) ‬معارفه‭ ‬الموسيقيّة‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعرّفه‭ ‬وعمله‭ ‬مع‭ ‬فنّاني‭ ‬ذلك‭ ‬العصر؛‭ ‬عبدالرّحيم‭ ‬المسلوب‭ (‬1793‭ - ‬1928‭)‬،‭ ‬ومحمّد‭ ‬عثمان‭ (‬1855‭ - ‬1900‭)‬،‭ ‬وعبده‭ ‬الحامولي‭ (‬1843‭ - ‬1901‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استقرّ‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬مذهجيًّا‭ ‬ناجحًا‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الأخير،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬مكنّه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬موافقة‭ ‬نقابة‭ ‬الموسيقيّين‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ينطلق‭ ‬في‭ ‬نشاطه‭ ‬الخاص،‭ ‬ويكوّن‭ ‬تخته‭ ‬الموسيقي،‭ ‬ويلبّي‭ ‬الدّعوات‭ ‬بمفرده،‭ ‬بل‭ ‬امتدّ‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬ليكون‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬من‭ ‬سجّلوا‭ ‬أصواتهم‭ ‬على‭ ‬اسطوانات‭ (‬زونوفون‭ ‬1906‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مطربي‭ ‬عصره‭: ‬يوسف‭ ‬المنيلاوي‭ (‬1850‭ - ‬1911‭)‬،‭ ‬وسلامة‭ ‬حجازي‭ (‬1852‭-‬1917‭)‬،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬القبّاني‭ (‬1852‭-‬1927‭).‬

وهو‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬من‭ ‬أحيوا‭ ‬الحفلات‭ ‬الخاصّة‭ ‬والعامّة‭ ‬على‭ ‬السّواء،‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬الأعيان،‭ ‬وفي‭ ‬الحدائق‭ (‬كحديقة‭ ‬الأزبكيّة‭ ‬التّي‭ ‬تمّ‭ ‬افتتاحها‭ ‬قبيل‭ ‬زمانه‭ ‬بفترة‭ ‬قصيرة‭)‬،‭ ‬ويعتبر‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬أنّه‭ ‬بلغ‭ ‬عرش‭ ‬الطّرب‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬المدرسة‭ ‬الدّينيّة‭.‬

وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬لقاءاته‭ ‬الأولى‭ ‬مع‭ ‬الفنّانين‭ ‬الأساتذة،‭ ‬فإنّها‭ ‬كانت‭ ‬تتمّ‭ ‬في‭ ‬الصّالونات‭ ‬الكبيرة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬صالون‭ ‬إسماعيل‭ ‬حافظ‭ ‬ناصر،‭ ‬خاصة‭ ‬السّلطان‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬الذّي‭ ‬هو‭ ‬فنّان‭ ‬هاوٍ‭ ‬معروف‭ ‬وميسور‭ (‬وهو‭ ‬والد‭ ‬الفنّانة‭ ‬بهيجة‭ ‬حافظ‭ ‬التّي‭ ‬قدّمت‭ ‬لاحقًا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1936‭ ‬فيلم‭ ‬ليلى‭ ‬بنت‭ ‬الصّحراء‭ .‬

وقد‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬مجلّة‭ ‬الصّباح،‭ ‬بتاريخ‭ ‬30‭ ‬نوفمبر‭ ‬1934،‭ ‬أنّ‭ ‬بهيجة‭ ‬تولّت‭ ‬بطولة‭ ‬فيلم‭ ‬الضّحايا،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬الناطقة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الكواكب،‭ ‬بتاريخ‭ ‬16‭ ‬يوليو‭ ‬1968،‭ ‬ضمن‭ ‬مقال‭ ‬لصالح‭ ‬جودت‭: ‬‮«‬السيّدة‭ ‬بهيجة‭ ‬حافظ‭ ‬رائدة‭ ‬السينما‭ ‬منذ‭ ‬1938‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬محنة‭ ‬قاسية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيّام،‭ ‬فهي‭ ‬مريضة،‭ ‬منهارة،‭ ‬جائعة،‭ ‬طريحة‭ ‬الفراش،‭ ‬وقد‭ ‬فقدت‭ ‬إحدى‭ ‬عينيها‭ ‬الإبصار،‭ ‬وتوشك‭ ‬العين‭ ‬الأخرى‭ ‬أن‭ ‬تلحق‭ ‬بأختها،‭ ‬وصوتها‭ ‬كذلك‭ ‬أصبح‭ ‬خافتًا‭ ‬مهدّدًا‭ ‬بالصّمت،‭ ‬ويعالجها‭ ‬لوجه‭ ‬الله‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الأطباء‭ ‬الإنسانيين،‭ ‬ويصفون‭ ‬لها‭ ‬الدّواء،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬ثمن‭ ‬ذلك‭ ‬الدّواء،‭ ‬وكانت‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬قد‭ ‬خصّصت‭ ‬لها‭ ‬معاشًا‭ ‬قدره‭ ‬30‭ ‬جنيهًا،‭ ‬لكنّه‭ ‬هبط‭ ‬إلى‭ ‬19،‭ ‬ثمّ‭ ‬إلى‭ ‬صفر‮»‬‭.‬

وعبدالحي‭ ‬حلمي‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬بني‭ ‬سويف‭ ‬في‭ ‬صعيد‭ ‬مصر،‭ ‬انطلق‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬بسيطة،‭ ‬وكانت‭ ‬دراسته‭ ‬الأولى‭ ‬مختصرة،‭ ‬مال‭ ‬إلى‭ ‬الغناء‭ ‬باكرًا،‭ ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك‭ ‬رحل‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬إسماعيل‭ ‬حافظ،‭ ‬وقد‭ ‬عرف‭ ‬النجاح‭ ‬بسبب‭ ‬حلاوة‭ ‬صوته‭ ‬وطواعيّة‭ ‬حنجرته،‭ ‬وبسبب‭ ‬انسجامه‭ ‬مع‭ ‬مشاعره‭ ‬في‭ ‬غنائه،‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬ابتداع‭ ‬الأساليب‭ ‬الجديدة‭ ‬والغريبة‭ ‬في‭ ‬الأداء،‭ ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬اليسر‭ ‬والبحبوحة‭ ‬بفعل‭ ‬ذلك،‭ ‬فبدا‭ ‬تأنّقه،‭ ‬وكثرت‭ ‬نزواته،‭ ‬وزاد‭ ‬تبذيره،‭ ‬وتنوّع‭ ‬مزاجه،‭ ‬وطغى‭ ‬تدلّلـه،‭ ‬حيث‭ ‬بات‭ ‬يعرف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬فتى‭ ‬الفن‭ ‬المدلّل‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬استهلك‭ ‬حياته‭ ‬سريعًا،‭ ‬كما‭ ‬يقال،‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه‭.‬

وكانت‭ ‬لعبدالحي‭ ‬رحلة‭ ‬فنيّة‭ ‬عامرة‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭ ‬ودمشق‭ ‬وإسطنبول‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1910‭. ‬ويروي‭ ‬سامي‭ ‬الشّوا‭ ‬في‭ ‬مذكّراته‭ ‬التّي‭ ‬نشرها‭ ‬فؤاد‭ ‬قصّاص‭ (‬1966‭) ‬أنّ‭ ‬الدّعوة‭ ‬إلى‭ ‬إسطنبول‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أمينة‭ ‬إلهامي‭ ‬والدة‭ ‬الخديوي‭ ‬عبّاس،‭ ‬وبواسطة‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭. ‬وقد‭ ‬تمنّع‭ ‬عبدالحي‭ ‬عن‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬السهرات‭ ‬هناك،‭ ‬بحجّة‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬يغنّي‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬النّساء ‭ ‬على‭ ‬الرّغم‭ ‬ممّا‭ ‬هو‭ ‬معروف‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬إعراض‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬غياب‭ ‬الوجوه‭ ‬الصّبيحة‭.‬

وفي‭ ‬تلك‭ ‬السّهرة‭ ‬كانت‭ ‬المطربة‭ ‬التّركية‭ ‬المعروفة‭ ‬نصيب‭ ‬هي‭ ‬التّي‭ ‬بدأت‭ ‬الغناء،‭ ‬واختارت‭ ‬أن‭ ‬تطلق‭ ‬صوتها‭ ‬في‭ ‬طبقات‭ ‬عالية،‭ ‬وأجادت‭. ‬كانت‭ ‬ردّة‭ ‬الفعل‭ ‬لدى‭ ‬عبدالحي‭ ‬أنّه‭ ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬ينهي‭ ‬السّهرة‭ ‬على‭ ‬طريقته،‭ ‬حيث‭ ‬اصطحب‭ ‬شوقي‭ ‬والشّوا‭ ‬وبعض‭ ‬الأصحاب‭ ‬إلى‭ ‬مركب‭ ‬شراعي‭ ‬مستقرّ‭ ‬في‭ ‬البوسفور‭ ‬مقابل‭ ‬أحد‭ ‬القصور،‭ ‬وغنّى‭ ‬فيما‭ ‬غنّى‭ ‬هناك‭ ‬موّال‭ ‬‮«‬قُم‭ ‬في‭ ‬دجى‭ ‬اللّيل‭ ‬ترى‭ ‬بدر‭ ‬الجمال‭ ‬طالع‮»‬‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يغنّه‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وفق‭ ‬الشّوا،‭ ‬واستمرّت‭ ‬السّهرة‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬لاحظ‭ ‬فيه‭ ‬شوقي،‭ ‬أنّ‭ ‬الأنوار‭ ‬قد‭ ‬أطفئت‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬المقابل،‭ ‬فأشار‭ ‬إلى‭ ‬رفاقه‭ ‬بالقول‭: ‬كفاية‭ ‬يا‭ ‬جماعة‭ ‬أفندينا‭ ‬عاوز‭ ‬ينام‭.‬

 

شخصية‭ ‬فنّية‭ ‬غريبة‭ ‬ومحبّبة

اتّسم‭ ‬الأداء‭ ‬الغنائي‭ ‬لعبدالحي‭ ‬بالميل‭ ‬إلى‭ ‬التّحرر‭ ‬من‭ ‬القواعد‭ ‬المعروفة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬لجهة‭ ‬التّفلّت‭ ‬من‭ ‬الالتزام‭ ‬التّام‭ ‬بالتّركيبة‭ ‬اللحنيّة،‭ ‬والنّصّ‭ ‬أحيانًا،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭: ‬

‭- ‬إغفاله‭ ‬لأجزاء‭ ‬من‭ ‬اللّحن،‭ ‬وتوجيه‭ ‬جهده‭ ‬وتركيز‭ ‬اهتمامه‭ ‬على‭ ‬مقطعٍ‭ ‬ما‭ ‬يروق‭ ‬له،‭ ‬حيث‭ ‬يروح‭ ‬يعالجه،‭ ‬ويعيده،‭ ‬ويضيف‭ ‬عليه‭ ‬التّحليات،‭ ‬ويستمرّ‭ ‬يكرّره‭ ‬ويغنيه‭ ‬بالارتجالات‭ ‬والإضافات،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬المواويل‭ (‬الفجر‭ ‬أهو‭ ‬لاح،‭ ‬يا‭ ‬حادي‭ ‬العين‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬خشبة‭ ‬النّجاة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬قيد‭ ‬فنّي،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬السّبيل‭ ‬لبلوغ‭ ‬الإبداع‭ ‬والنّشوة‭ ‬الفنيّة،‭ ‬له‭ ‬ولجمهوره‭.‬

‭- ‬اتّكاله‭ ‬الواضح‭ ‬على‭ ‬التّخت‭ ‬المرافق‭ ‬له‭ ‬لجهة‭ ‬تحقيق‭ ‬مزاجيّته،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬التّخت‭ ‬يعرف‭ ‬طبعه،‭ ‬ويتجاوب‭ ‬معه،‭ ‬ويحاول‭ ‬إضفاء‭ ‬الملامح‭ ‬الطّبيعيّة‭ ‬عليه،‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬مرّة‭ ‬تركه‭ ‬يعزف‭ ‬ويعزف،‭ ‬وهو‭ ‬يؤجّل‭ ‬الغناء‭ ‬ويؤجّل،‭ ‬أو‭ ‬يُعرض‭ ‬عنه‭ ‬تمامًا،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يهتدِ‭ ‬في‭ ‬الحاضرين‭ ‬إلى‭ ‬وجوه‭ ‬صبيحة‭ ‬تُرضي‭ ‬نظره‭ ‬وتسرّ‭ ‬نفسه،‭ ‬ويمتدّ‭ ‬به‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭ ‬المكان،‭ ‬ويقيم‭ ‬حفلته‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬ومن‭ ‬أبلغ‭ ‬ما‭ ‬قرأته‭ ‬بخصوصه‭: ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬ينادي‭ ‬اللّيل،‭ ‬ويستمرّ‭ ‬في‭ ‬ندائه،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يلتقي‭ ‬به،‭ ‬ويقبض‭ ‬عليه‭!‬

‭- ‬بالنسبة‭ ‬إليه،‭ ‬يعتبر‭ ‬المطرب‭ ‬أساس‭ ‬العمل‭ ‬الفنّي،‭ ‬وحلاوة‭ ‬الصّوت‭ ‬والانسجام‭ ‬العام‭ ‬مع‭ ‬روح‭ ‬اللّحن،‭ ‬هما‭ ‬بذلك‭ ‬الرّكيزتان‭ ‬الأُوليان‭.‬

‭- ‬خروجه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحالات‭ ‬على‭ ‬الوزن‭ ‬والإيقاع،‭ ‬حتّى‭ ‬في‭ ‬القصائد‭ ‬الموزونة‭ ‬الموقّعة‭ ‬والأدوار،‭ ‬بحكم‭ ‬ميله‭ ‬إلى‭ ‬التحرّر‭ ‬وإطلاق‭ ‬العنان‭ ‬لمفاجآته‭ ‬وخلجات‭ ‬نفسه،‭ ‬وكان‭ ‬لسان‭ ‬حاله‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬ذلك‭: ‬إنّني‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أُطرب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الالتزام‭ ‬التّام‭ ‬بالوزن،‭ ‬وللعبقري‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬على‭ ‬الأصول‭ ‬أحيانًا،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬ذلك‭ ‬عرّضه‭ ‬للانتقاد‭ ‬في‭ ‬زمانه،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬المنافسة‭ ‬المعروفة‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬الفنّ‭.‬

 

أثره‭ ‬وصدى‭ ‬فنّه

أول‭ ‬المتأثرين‭ ‬بفن‭ ‬عبدالحي،‭ ‬وتفاصيل‭ ‬حياته‭ ‬كاملة‭ (‬خصوصًا‭ ‬لجهة‭ ‬البداية‭ ‬الموسرة‭ ‬الباذخة،‭ ‬والنهاية‭ ‬العاثرة‭ ‬المقفرة‭)‬،‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬شقيقته‭ ‬المطرب‭ ‬صالح‭ ‬خليل‭ (‬1896‭ - ‬1962‭)‬،‭ ‬الّذي‭ ‬حمل‭ ‬كنيته‭ ‬بشكل‭ ‬رسمي،‭ ‬وعُرف‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مكان‭ ‬وزمان‭ ‬باسم‭ ‬المطرب‭ ‬صالح‭ ‬عبدالحي‭. ‬كما‭ ‬يحسب‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬المتأثّرين‭ ‬بفنه‭ ‬وطريقته‭ ‬في‭ ‬الغناء‭: ‬المطرب‭ ‬زكي‭ ‬مراد‭ (‬1880‭ - ‬1946‭)‬‭ ‬والد‭ ‬الفنّانة‭ ‬ليلى‭ ‬مراد‭ (‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تأثّره‭ ‬أيضًا‭ ‬بالملحّن‭ ‬داود‭ ‬حسني،‭ ‬1870‭ - ‬1937 .‬

وقد‭ ‬أحصى‭ ‬الباحث‭ ‬المصري‭ ‬حسين‭ ‬الدّجاني‭ ‬مئة‭ ‬واثني‭ ‬عشر‭ ‬تسجيلًا‭ ‬لعبدالحي‭ ‬حلمي‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الصّيغ‭ ‬الغنائيّة‭ ‬القديمة‭ (‬قصيدة،‭ ‬موشّح،‭ ‬موّال،‭ ‬دور،‭ ‬طقطوقة‭...)‬،‭ ‬لدى‭ ‬الشّركات‭ ‬الّتي‭ ‬كانت‭ ‬معروفة‭ ‬آنذاك‭: ‬زونوفون،‭ ‬غراموفون،‭ ‬أوديون،‭ ‬بيضافون،‭ ‬أمّا‭ ‬في‭ ‬إحصاء‭ ‬الباحث‭ ‬المستشرق‭ ‬فريدريك‭ ‬لاغرانج‭ ‬فقد‭ ‬بلغت‭ ‬تسجيلاته‭ ‬حوالي‭ ‬مئتين‭.‬

 

بعض‭ ‬القصائد‭ ‬الّتي‭ ‬شدا‭ ‬بها

القصائد‭ ‬التي‭ ‬أنشدها‭ ‬بلغت‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثين،‭ ‬بعضها‭ ‬تم‭ ‬أداؤه‭ ‬بشكل‭ ‬موزون‭ ‬وموقّع،‭ ‬وبعضها‭ ‬بشكل‭ ‬مرسل‭ ‬وعلى‭ ‬طريقة‭ ‬المواويل‭. ‬وهي‭ ‬جميعًا‭ ‬من‭ ‬الشّعر‭ ‬القديم،‭ ‬باستثناء‭ ‬واحدة‭ ‬حديثة‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬ما،‭ ‬وهي‭ ‬لصديقه‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭.‬

معاني‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬تحسب‭ ‬أحيانًا‭ ‬على‭ ‬المضمون‭ ‬الغزلي،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬المضمون‭ ‬الوجداني‭ ‬والصّوفي‭. ‬أذكر‭ ‬منها،‭ ‬في‭ ‬نوعيها‭:‬

شكوت‭ ‬فقالت‭ ‬كلّ‭ ‬هذا‭ ‬تبرّمًا‭ ‬

بحبّي‭ ‬أراح‭ ‬الله‭ ‬قلبك‭ ‬من‭ ‬حبّي

وهي‭ ‬تنسب‭ ‬إلى‭ ‬أعرابي‭ ‬يشكو‭ ‬حبيبته،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬إنّها‭ ‬للحسن‭ ‬بن‭ ‬زياد،‭ ‬وكان‭ ‬الحامولي‭ ‬قد‭ ‬غنّاها‭ (‬مقام‭ ‬بياتي‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬سجلها‭ ‬صالح‭ ‬عبدالحي‭ ‬لاحقًا‭.‬

وللمتنبّي‭ (‬915‭ - ‬965‭)‬،‭ ‬قصيدته‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬هجاء‭ ‬كافور‭, ‬ومنها‭:‬

عيد‭ ‬بأيّة‭ ‬حال‭ ‬عُدت‭ ‬يا‭ ‬عيدُ‭ ‬

بما‭ ‬مضى‭ ‬أم‭ ‬بأمر‭ ‬فيك‭ ‬تجديدُ

وهذه‭ ‬حالة‭ ‬نادرة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬غناء‭ ‬قصائد‭ ‬المتنبّي‭ ‬في‭ ‬مصر‭.‬

إلى‭ ‬محيّاك‭ ‬نور‭ ‬البدر‭ ‬يعتذرُ‭ ‬

وفي‭ ‬محبّتك‭ ‬العشاق‭ ‬قد‭ ‬عذروا

‭(‬مقام‭ ‬رست‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬لصفّي‭ ‬الدّين‭ ‬الحليّ‭.‬

أراك‭ ‬عصيّ‭ ‬الدّمع‭ ‬شيمتك‭ ‬الصّبرُ‭ ‬

أمّا‭ ‬للهوى‭ ‬نهي‭ ‬عليك‭ ‬ولا‭ ‬أمرُ

وهي‭ ‬لأبي‭ ‬فراس‭ ‬الحمداني‭ (‬932‭ - ‬968‭)‬،‭ ‬كان‭ ‬الحامولي‭ ‬قد‭ ‬غنّاها‭ (‬مقام‭ ‬بياتي‭).‬

وقد‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬القصائد‭ ‬العربية‭ ‬مرافقة‭ ‬للمراحل‭ ‬الغنائيّة،‭ ‬ومن‭ ‬أكثرها‭ ‬عبورًا‭ ‬للحناجر‭. ‬ويرجّح‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مرّت‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬المغنّين‭ ‬والمغنيّات‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬كثيرة‭ ‬سالفة،‭ ‬وكانت‭ ‬تُسبق‭ ‬أو‭ ‬تُختم‭ ‬باللازمة‭ ‬المصريّة‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الطّرب‭: ‬آه‭ ‬يانا‭ ‬ويش‭ ‬للعواذل‭ ‬عندنا‭.‬

وقد‭ ‬ارتبط‭ ‬بها‭ ‬عبدالحي‭ ‬حلمي‭ ‬كثيرًا‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬مع‭ ‬الحامولي،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬اختياره‭ ‬كان‭ ‬أوّل‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬أسطوانتها‭ ‬كلّما‭ ‬اهتدى‭ ‬إلى‭ ‬آلة‭ ‬فونوغراف‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما،‭ ‬وقد‭ ‬سجّلها‭ ‬بصوته‭ ‬مرّة‭ ‬ومرّتين‭ ‬وثلاثًا‭ ‬وأربعًا‭... ‬ولدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شركة‭ ‬أسطوانات،‭ ‬وفي‭ ‬إحدى‭ ‬تلك‭ ‬التّسجيلات‭ ‬مال‭ ‬إلى‭ ‬إنشادها‭ ‬بمقام‭ ‬الهُزام‭ ‬بديلًا‭ ‬عن‭ ‬مقام‭ ‬البياتي‭ ‬الذي‭ ‬عرفت‭ ‬به‭.‬

ولعبدالحي‭ ‬حلمي‭ ‬ميزته‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬أدائه‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬أراك‭ ‬عصي‭ ‬الدّمع‮»‬،‭ ‬خصوصًا‭ ‬حين‭ ‬يبدأها‭ ‬بـ‭ ‬أراك‭ ‬عصي‭... ‬ويتوقّف،‭ ‬وبعد‭ ‬قليل‭ ‬يضيف‭ ‬مطمئنًّا‭: ‬الدّمع‭. ‬كما‭ ‬أنّه‭ ‬يتفنّن‭ ‬في‭ ‬إعادته‭ ‬لكلمة‭: ‬نعم،‭ ‬عند‭:‬

نعم،‭ ‬أنا‭ ‬مشتاق‭ ‬وعندي‭ ‬لوعة

ولكنّ‭ ‬مثلي‭ ‬لا‭ ‬يذاع‭ ‬له‭ ‬سرّ

‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نتخيّل‭ ‬لو‭ ‬أنّ‭ ‬مطلع‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬كان‭ ‬بصفته‭ ‬الأساس‭: ‬بلى،‭ ‬أنا‭ ‬مشتاق‭... ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬بلى‭ ‬لتلبّي‭ ‬زخرفات‭ ‬مطربنا‭ ‬مثل‭ ‬نعم‭ ‬التّي‭ ‬يتلاعب‭ ‬بها‭ ‬متّكئًا‭ ‬على‭ ‬حرف‭ ‬الميم‭ ‬في‭ ‬نهايتها؟‭ ‬

 

الطّرب‭ ‬أوّلًا‭ ‬والأصول‭ ‬ثانيًا

لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬عبدالحي‭ ‬حلمي‭ ‬بأن‭ ‬يغنّي‭ ‬قصيدته‭ ‬بشكل‭ ‬مرسل‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬إيقاع‭ (‬مع‭ ‬أنّ‭ ‬الإيقاع‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬القديم‭ ‬كان‭ ‬ضروريًّا‭ ‬لتسمية‭ ‬القصيدة‭ ‬قصيدة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منظومة‭ ‬باللّغة‭ ‬الفصحى‭ ‬لكي‭ ‬تسمّى‭ ‬كذلك‭)‬،‭ ‬إنّما‭ ‬انطلق‭ ‬يؤدّي‭ ‬الألفاظ‭ ‬كما‭ ‬يحلو‭ ‬لحنجرته،‭ ‬ويفرض‭ ‬على‭ ‬الحروف‭ ‬الانسجام‭ ‬اللّفظي‭ ‬الّذي‭ ‬يريحه،‭ ‬حتّى‭ ‬ولو‭ ‬أدّى‭ ‬به‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬الحركات‭ ‬الإعرابية‭ ‬جانبًا،‭ ‬وقد‭ ‬وافقه‭ ‬الحاضرون‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬فعل،‭ ‬ولسان‭ ‬حالهم‭ ‬يعلن‭:‬‭ ‬السّامعون‭ ‬يقولون‭ ‬أُطربنا‭!‬

صحيح‭ ‬أنّ‭ ‬الأداء‭ ‬تمّ‭ ‬في‭ ‬الاستديو،‭ ‬أي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فوق‭ ‬مسرح،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬حفلة‭ ‬عامرة،‭ ‬إنّما‭ ‬كان‭ ‬الحاضرون‭ ‬هؤلاء،‭ ‬على‭ ‬قلّتهم‭ ‬قد‭ ‬حضروا‭ ‬للاستماع‭ ‬المبكّر،‭ ‬وقطاف‭ ‬البراعم‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الأغنية‭ ‬الوليدة‭ ‬قبيل‭ ‬غيرهم،‭ ‬بدليل‭ ‬أنّ‭ ‬واحدًا‭ ‬منهم،‭ ‬وقد‭ ‬استبدّ‭ ‬به‭ ‬الطّرب،‭ ‬والتأثّر،‭ ‬والانكسار،‭ ‬عند‭ ‬سماعه‭ ‬‮«‬ونار‭ ‬هجرك‭ ‬لا‭ ‬تبقي‭ ‬ولا‭ ‬تذرُ‮»‬،‭ ‬يصرخ‭ ‬متنهّدًا‭ ‬صاغرًا‭: ‬يا‭ ‬غُلبي‭!‬

لم‭ ‬ينبرِ‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬ليشير،‭ ‬مرّة‭ ‬واحدة،‭ ‬إلى‭ ‬المطرب‭ ‬المحلّق‭ ‬بأن‭ ‬يصوّب‭ ‬الإعراب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواقف،‭ ‬فلقد‭ ‬كانت‭ ‬السّلطنة‭ ‬النّغمية‭ ‬هي‭ ‬العليا،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬اللّغة‭ ‬أن‭ ‬تطيع‭ ‬المقام‭ ‬الموسيقي،‭ ‬وللمقام‭ ‬مقاله‭ ‬هنا،‭ ‬وقوله‭.‬

بدأ‭ ‬عبدالحي‭ ‬مهرجانه‭ ‬الخيالي‭ ‬بالقول‭: ‬إلى‭ ‬محيّاك‭ ‬نور‭ ‬البدر‭ ‬يعتذرُ‭... ‬بأن‭ ‬نصب‭ ‬كلمة‭ ‬نور‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يرفعها‭ (‬وهي‭ ‬فاعل‭ ‬يعتذر‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬وجد‭ ‬أنّ‭ ‬الفتحة‭ ‬هي‭ ‬الأقرب‭ ‬لفظًا‭ ‬إلى‭ ‬الألف‭ ‬واللّام‭ ‬اللّذين‭ ‬يليانها،‭ ‬فانساب‭ ‬في‭ ‬إنشادها‭ ‬كما‭ ‬طاب‭ ‬له‭ ‬وحلا،‭ ‬ولو‭ ‬أنّ‭ ‬أحدًا‭ ‬قال‭ ‬له‭: ‬بل‭ ‬نقول‭ ‬نورُ،‭ ‬لغضب‭ ‬بالتّأكيد،‭ ‬وترك‭ ‬القاعة‭ ‬بعازفيها‭ ‬ومهندسي‭ ‬آلاتها‭ ‬وضيوفها،‭ ‬ومضى‭ ‬إلى‭ ‬غاية‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬كعادته‭ ‬في‭ ‬المواضع‭ ‬المشابهة‭. ‬وأنا‭ ‬أتذكّر‭ ‬هنا‭ ‬ما‭ ‬حُكي‭ ‬عن‭ ‬قصيدة‭ ‬علي‭ ‬طه‭ (‬الجندول‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬سجّلها‭ ‬عبدالوهّاب‭ ‬في‭ ‬الاستديو‭ (‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭)‬،‭ ‬بحضور‭ ‬بعض‭ ‬أصحابه‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الفن‭ ‬والأدب،‭ ‬والتي‭ ‬قال‭ ‬فيها‭:‬

غير‭ ‬يوم‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يذكر‭ ‬غيره

يوم‭ ‬أن‭ ‬قابلتَه‭ ‬أوّل‭ ‬مرّة‭ ‬

فانتفض‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ (‬وكان‭ ‬بين‭ ‬الحاضرين‭) ‬مصوّبًا‭: ‬قابلتُه‭... ‬فتجاوب‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬في‭ ‬الحال‭ ‬وهو‭ ‬يكرر‭ ‬البيت‭: ‬يوم‭ ‬أن‭ ‬قابلتُه‭ ‬أوّل‭ ‬مرّة‭.‬

ولا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬هنا‭ ‬أنّ‭ ‬اللغّويين‭ ‬يميلون‭ ‬إلى‭ ‬ضوء‭ ‬البدر،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ميلهم‭ ‬إلى‭ ‬نور‭ ‬البدر،‭ ‬وفي‭ ‬اعتبارهم‭ ‬أنّ‭ ‬النّور‭ ‬يُحسب‭ ‬على‭ ‬الشّمس،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬البدر‭ ‬متلقّ‭ ‬لهذا‭ ‬النّور،‭ ‬وما‭ ‬يصدر‭ ‬عنه‭ ‬هو‭ ‬الضّوء‭ ‬ليس‭ ‬إلّا،‭ ‬لكنّ‭ ‬عبدالحي‭ ‬استبعد‭ ‬حرف‭ ‬الضّاد،‭ ‬واختار‭ ‬الحرف‭ ‬الأرقّ‭: ‬النّون‭. ‬

وعند‭: ‬وفي‭ ‬محّبتك‭ ‬العشّاق،‭ ‬يختار‭ ‬أن‭ ‬يلفظ‭ ‬العشّاق‭ ‬كما‭ ‬يأتي‭: ‬إِلعشّاق،‭ ‬ويتابع‭ ‬ملبّيًا‭ ‬هواه‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬بأن‭ ‬يستبدل‭ ‬طالعة‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الثاني
بـ‭ ‬‮«‬موثقة‮»‬،‭ ‬ويمضي‭ ‬ليستبدل‭ ‬هجرك‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬حبّك‮»‬‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬نفسه،‭ ‬ويتحدّى‭ ‬الإعراب‭ ‬في‭: ‬يا‭ ‬من‭ ‬يهزّ‭ ‬دلالًا‭ ‬غصنَ‭ ‬قامتهِ،‭ ‬بأن‭ ‬ينشدها‭ ‬كما‭ ‬يأتي‭:‬

يا‭ ‬من‭ ‬يهزّ‭ ‬دلالَ‭ ‬الغصنِ‭ ‬قامتُه‭ ‬

الغصن‭ ‬هذا‭ ‬فأين‭ ‬الظلّ‭ ‬والثّمرُ؟‭ ‬

وفي‭ ‬البيت‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الأخير‭ ‬يستبدل‭ ‬النّفيس
بـ‭ ‬‮«‬الخطير‮»‬‭. ‬أمّا‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الأخير،‭ ‬فيطيل‭ ‬التّدلّل‭ ‬والمناجاة‭ ‬مع‭ ‬حرف‭ ‬الميم‭ ‬في‭ ‬لمّا‭ ‬رأيت‭... ‬وقد‭ ‬ذكّرتنا‭ ‬فتحيّة‭ ‬أحمد‭ ‬بذلك‭ ‬لاحقًا‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬إبراهيم‭ ‬ميرزا‭ ‬وأبي‭ ‬العلا‭:‬

كم‭ ‬بعثنا‭ ‬مع‭ ‬النسيم‭ ‬سلامًا

للحبيب‭ ‬الجميل‭ ‬حيث‭ ‬أقامَ

‭ ‬كما‭ ‬ذكّرتنا‭ ‬به‭ ‬أيضًا‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬الأطلال‭ ‬لإبراهيم‭ ‬ناجي‭ ‬والسّنباطي،‭ ‬عند‭ ‬كلمة‭: ‬كم،‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬القائل‭:‬

هل‭ ‬رأى‭ ‬الحبّ‭ ‬سكارى‭ ‬مثلنا‭ ‬

كم‭ ‬بنينا‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬حولنا

ويستبعد‭ ‬عبدالحيّ‭ ‬كلمة‭ ‬ظلام‭ ‬الشَّعر،‭ ‬ويضع‭ ‬مكانها‭ ‬سواد‭ ‬الشَّعر،‭ ‬متجنّبًا‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬كلمة‭ ‬ظلام،‭ ‬ومكتفيًا‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬سواد‮»‬،‭ ‬فالظّلام‭ ‬شامل‭ ‬مطلق،‭ ‬بينما‭ ‬السّواد‭ ‬فرع‭ ‬من‭ ‬فروعه،‭ ‬وأخفّ‭ ‬طغيانًا‭ ‬منه‭. ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬كلمة‭ ‬الظّلام‭ ‬أتت‭ ‬مرفوعة‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬منصوبة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سكّنها‭ ‬وأرفقها‭ ‬بواو‭ ‬العطف،‭ ‬فظهرت‭ ‬وكأنّ‭ ‬عليها‭ ‬إشارة‭ ‬الضّمّة‭.‬

إنّما،‭ ‬إنّما‭... ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه‭ ‬أتى‭ ‬الطّرب‭ ‬سليمًا‭ ‬موفورًا‭ ‬طاغيًا،‭ ‬وكانت‭ ‬الطّير‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬التّسجيل‭ ‬آنذاك،‭ ‬واستمرّت‭ ‬على‭ ‬رؤوسنا،‭ ‬نحن‭ ‬أجيال‭ ‬المنصتين‭ ‬منذ‭ ‬1908‭ ‬حتّى‭ ‬الآن‭ .‬