أبو فراس الحمداني حين يلتقي حُسن الخُلُق مع حُسن البيان

أبو فراس الحمداني حين يلتقي حُسن الخُلُق مع حُسن البيان

يتميز أبو فراس الحمداني عن الكثيرين من شعراء عصره، بما لا تخطئه عين ناظر في شعره وسيرته، من نفس طيبة عفيفة، وأخلاق رفيعة، هي بحق أخلاق أمير فارس، حاز  من مكارم الأخلاق نصيبًا وافرًا، وعبر  عنها أحسن تعبير، بما آتاه الله من شاعرية وحسن بيان. ومن أكثر أخلاقه وضوحًا في شعره، ترفعه عن الدنايا وسفاسف الأمور، وعفته عن اجتراح ما يقدح في المروءة من الأفعال، فهو يفاخر بعفته وطهارة ثوبه، كما يفاخر ببطولاته في غزواته على أعدائه، عكس الكثيرين من الشعراء، الذين ما فتئوا يفاخرون بمغامراتهم في هتك الستور، وغزو الخدور. 

 

ترك‭ ‬لنا‭ ‬أبو‭ ‬فراس‭ ‬الحمداني‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬دروسًا‭ ‬في‭ ‬الأخلاق‭ ‬والعفة‭ ‬وطيب‭ ‬العشرة،‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يفتقر‭ ‬مع‭ ‬جمال‭ ‬معانيه،‭ ‬إلى‭ ‬روعة‭ ‬البيان‭ ‬وبلاغة‭ ‬التعبير‭.‬

‭ ‬فمن‭ ‬ذلك‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬معاركه،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬النصر‭ ‬فيها‭ ‬حليفه‭ ‬واكتسح‭ ‬جيش‭ ‬الأعداء‭ ‬حتى‭ ‬ملك‭ ‬أرضهم،‭ ‬ولكنه‭ ‬توقف‭ ‬عند‭ ‬منازل‭ ‬النساء‭ ‬فلم‭ ‬يقتحمها‭ ‬ولم‭ ‬ينتهكها،‭ ‬ثم‭ ‬طيَّب‭ ‬خاطرهن‭ ‬بعطاء‭ ‬جزيل‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يخدش‭ ‬حياءهن‭ ‬ويكشف‭ ‬حجبهن،‭ ‬يقول‭:‬

وحيٍّ‭ ‬رددت‭ ‬الخيل‭ ‬حتى‭ ‬ملكته

هزيمًا‭ ‬وردتني‭ ‬البراقع‭ ‬والخُمْرُ

وساحبة‭ ‬الأذيال‭ ‬نحوي‭ ‬لقيتها

فلم‭ ‬يلقها‭ ‬جهم‭ ‬اللقاء‭ ‬ولا‭ ‬وعرُ

وهبتُ‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬حازه‭ ‬الجيش‭ ‬كله

ورحت‭ ‬ولم‭ ‬يُكشف‭ ‬لأثوابها‭ ‬سِ

‭ ‬وما‭ ‬أحسن‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬وصفٍ‭ ‬للعفة‭ ‬قل‭ ‬نظيره‭ ‬في‭ ‬جماله‭ ‬وشموله‭ ‬وإبداعه‭ ‬وبلاغته‭:‬

وَيا‭ ‬عِفَّتي‭ ‬مالي‭ ‬وَما‭ ‬لَكَ‭ ‬كُلَّما

هَمَمتُ‭ ‬بِأَمرٍ‭ ‬هَمَّ‭ ‬لي‭ ‬مِنكَ‭ ‬زاجِرُ

كأَنَّ‭ ‬الحِجا‭ ‬وَالصَونُ‭ ‬وَالعَقلُ‭ ‬وَالتُقى

لَدَيَّ‭ ‬لِرَبّاتِ‭ ‬الخُدورِ‭ ‬ضَرائِرُ

عَفافُكَ‭ ‬غَيٌّ‭ ‬إِنَّما‭ ‬عِفَّةُ‭ ‬الفَتى

إِذا‭ ‬عَفَّ‭ ‬عَن‭ ‬لَذّاتِهِ‭ ‬وَهوَ‭ ‬قادِرُ

لله‭ ‬دره‭ ‬كيف‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬العفة‭ ‬شخصًا‭ ‬عاقلًا‭ ‬يأمر‭ ‬وينهى،‭ ‬وكيف‭ ‬جعل‭ ‬الحجا‭ ‬والصون‭ ‬والعقل‭ ‬والتقى،‭ ‬ضرائر‭ ‬أربع،‭ ‬يرافقنه‭ ‬أينما‭ ‬حل‭ ‬وارتحل،‭ ‬ويعتصم‭ ‬بهن‭ ‬عــــن‭ ‬كل‭ ‬منقصـــة‭ ‬لا‭ ‬تلــــيق‭ ‬به؟،‭ ‬وتلك‭ ‬لعمري‭ ‬من‭ ‬نوادر‭ ‬التشبيهات،‭ ‬وفرائد‭ ‬الأبيات‭.‬

ولأنه‭ ‬رفيع‭ ‬الخلـــــق‭ ‬طاهــــر‭ ‬اللســــان،‭ ‬نجــده‭ ‬عندما‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يصف‭ ‬ليلة‭ ‬قضـــاها‭ ‬مع‭ ‬محـــبوبته،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬نشك‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬زوجته‭ ‬وحليلته،‭ ‬نظرًا‭ ‬لما‭ ‬بيناه‭ ‬من‭ ‬عفته‭ ‬ورفعة‭ ‬خلقـــه،‭ ‬عندما‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يصف‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬يصفهــــا‭ ‬ببيت‭ ‬نــــادر‭ ‬بديع،‭ ‬نفث‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬سحر‭ ‬البيان‭ ‬ما‭ ‬قل‭ ‬نظيره،‭ ‬وهو‭ ‬قوله‭:‬

 

وبِكغصني‭ ‬بانةٍ‭ ‬عاب

إلى‭ ‬الصبحِ‭ ‬ريحا‭ ‬شمألٍ‭ ‬وجنوبِ

 

‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬الجميل‭ ‬الرقيق‭ ‬البليغ‭ ‬اللطيف،‭ ‬لم‭ ‬يسلك‭ ‬مسلك‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬يختارون‭ ‬الوصف‭ ‬المباشر،‭ ‬مثل‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬وعمر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة،‭ ‬وغيرهما،‭ ‬فيأتي‭ ‬بما‭ ‬يجرح‭ ‬السمع‭ ‬من‭ ‬فحش،‭ ‬ثم‭ ‬يكون‭ ‬الوصف‭ ‬محدودًا‭ ‬بالحس،‭ ‬ولكنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وصفه‭ ‬عفيفًا‭ ‬كأخلاقه،‭ ‬ويريد‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬يطلق‭ ‬العنان‭ ‬لخيال‭ ‬السامع‭ ‬فيخيل‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬لقاء‭ ‬الحبيبين‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تحده‭ ‬كلمات‭ ‬معدودات،‭ ‬بل‭ ‬يتسع‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يسبح‭ ‬السامع‭ ‬في‭ ‬خياله‭. ‬

يبدأ‭ ‬الشاعر‭ ‬بتشبيه‭ ‬عبقري‭ ‬لعلاقته‭ ‬مع‭ ‬المحبوب،‭ ‬وذلك‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬وبتنا‭ ‬كغصني‭ ‬بانة‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬‮«‬كغصنين‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬كبانتين‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬هما‭ ‬غصنان‭ ‬ينتميان‭ ‬للشجرة‭ ‬نفسها،‭ ‬يلتقيان‭ ‬في‭ ‬أصل‭ ‬واحد،‭ ‬هو‭ ‬العقدة‭ ‬التي‭ ‬تجمـــع‭ ‬بين‭ ‬الغصنين‭ ‬ليتفرعا‭ ‬منها،‭ ‬وما‭ ‬أحسن‭ ‬هذا‭ ‬التشبيه‭ ‬دليلًا‭ ‬على‭ ‬شدة‭ ‬القرب،‭ ‬ومتانة‭ ‬العلاقة،‭ ‬وهذه‭ ‬برأيي‭ ‬إشارة‭ ‬واضحة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬زوجته،‭ ‬التي‭ ‬جعل‭ ‬الله‭ ‬بينها‭ ‬وبينه‭ ‬‮«‬ميثاقًا‭ ‬غليظًا‮»‬،‭ ‬يشبه‭ ‬العقدة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬غصنين‭ ‬متفــــرعين‭ ‬عنها،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬فإن‭ ‬البان‭ ‬شجر‭ ‬محبب‭ ‬طيب‭ ‬الرائحة‭ ‬لين‭ ‬الأغصان‭ ‬جميل‭ ‬المنظر،‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬العرب‭ ‬تضرب‭ ‬به‭ ‬المثل‭ ‬في‭ ‬الحسن‭ ‬والطلاوة‭ ‬وطيب‭ ‬الريح‭.‬

ثم‭ ‬قال‭: ‬‮«‬عابثتهما‮»‬،‭ ‬فالعبث‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬عشوائية‭ ‬الفعل‭ ‬وعلى‭ ‬كونه‭ ‬عفويًا‭ ‬بلا‭ ‬تكلف،‭ ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬‮«‬عبثت‭ ‬بهما‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬وزن‭ ‬‮«‬فاعل‮»‬‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬المشاركة،‭ ‬فهناك‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬الفعلين‭ ‬‮«‬قتل‮»‬‭ ‬و«قاتَـل‮»‬،‭ ‬الأول‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬القاتل،‭ ‬ويكون‭ ‬الطرف‭ ‬الثاني‭ ‬مفعولاً،‭ ‬أما‭ ‬قولنا‭ ‬‮«‬قاتَـل‮»‬،‭ ‬فهو‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬تساوي‭ ‬الطرفين‭ ‬في‭ ‬فعل‭ ‬القتال،‭ ‬وكذلك‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الفعلين‭ ‬‮«‬عبث‮»‬‭ ‬و«عابث‮»‬،‭ ‬فالأول‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬واحد،‭ ‬والثاني‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬العبث‭ ‬من‭ ‬الطرفين،‭ ‬من‭ ‬الحبيبين،‭ ‬هو‭ ‬وهي،‭ ‬ومن‭ ‬الريحين،‭ ‬الشمالية‭ ‬والجنوبية،‭ ‬فالحبيبان‭ ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬لعبة‭ ‬طيعة‭ ‬في‭ ‬مهب‭ ‬الريح،‭ ‬بل‭ ‬كانا‭ ‬يتفاعلان‭ ‬معها،‭ ‬فيعابثانها،‭ ‬كما‭ ‬تعابث‭ ‬الريح‭ ‬مع‭ ‬غصنين‭ ‬متفرعين‭ ‬عن‭ ‬أصل‭ ‬واحد،‭ ‬تهب‭ ‬شمالًا‭ ‬فيميلان‭ ‬معها،‭ ‬وتهب‭ ‬جنوبًا‭ ‬فيميلان‭ ‬معها،‭ ‬ثم‭ ‬يعودان‭ ‬إلى‭ ‬وضعهما‭ ‬الأول‭ ‬إذا‭ ‬سكنت،‭ ‬مما‭ ‬يعطي‭ ‬للصورة‭ ‬حركة‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الروعة،‭ ‬وقد‭ ‬حقق‭ ‬الشاعر‭ ‬بهذا‭ ‬التشبيه‭ ‬وصفه‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحبيبين،‭ ‬ولكن‭ ‬بشكل‭ ‬لطيف‭ ‬رشيق‭ ‬أنيق‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬فحش‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬ولا‭ ‬جرأة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭.‬

ومما‭ ‬تضفيه‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬عابثتهما‮»‬‭ ‬من‭ ‬معان،‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تحدد‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬المعابثة‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬بين‭ ‬الحبيبين،‭ ‬بل‭ ‬تترك‭ ‬للسامع‭ ‬أن‭ ‬يتخيل‭ ‬أي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬المعابثة‭ ‬والتواصل‭ ‬بينهما،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬كلامًا‭ ‬أو‭ ‬عتابًا‭ ‬أو‭ ‬مؤانسة‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬السامع‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الحبيب‭ ‬بمحبوبه،‭ ‬وأعذب‭ ‬الشعراء‭ ‬شعرًا‭ ‬هم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يطلقون‭ ‬خيال‭ ‬السامع‭ ‬بلا‭ ‬حدود،‭ ‬ومن‭ ‬أمثلة‭ ‬ذلك‭ ‬قول‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭:‬

إن‭ ‬رأتني‭ ‬تميل‭ ‬عني‭ ‬كأن‭ ‬لم

تك‭ ‬بيني‭ ‬وبينها‭ ‬أشياء

فلو‭ ‬تأملنا‭ ‬كلمة‭ ‬أشياء‭ ‬لوجدنا‭ ‬محتواها‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬إلا‭ ‬حيث‭ ‬ينتهي‭ ‬خيال‭ ‬السامع،‭ ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء؟‭ ‬مواعيد؟‭ ‬كلام؟‭ ‬عهود؟‭ ‬صلة؟‭ ‬وعادة‭ ‬كلمة‭ ‬شيء‭ ‬يعدها‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬نقاط‭ ‬الضعف،‭ ‬ولكنها‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬شوقي‭ ‬هي‭ ‬قمة‭ ‬في‭ ‬البلاغة،‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬تطلقه‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬السامع،‭ ‬والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬عابثتهما‮»‬‭ ‬لأنها‭ ‬صورة‭ ‬فيها‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الغموض،‭ ‬تترك‭ ‬لخيال‭ ‬السامع‭ ‬أن‭ ‬يتصور‭ ‬نوع‭ ‬المعابثة‭ ‬والصلة‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬بين‭ ‬الحبيبين،‭ ‬وهكذا‭ ‬تكون‭ ‬أبعاد‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬أراده‭ ‬الشاعر،‭ ‬بقدر‭ ‬سعة‭ ‬خيال‭ ‬السامع،‭ ‬وليست‭ ‬محدودة‭ ‬بالمعاني‭ ‬المجردة‭ ‬لمدلولات‭ ‬الألفاظ،‭ ‬وصلى‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬رسول‭ ‬الله،‭ ‬الذي‭ ‬نصح‭ ‬سيدنا‭ ‬جابر‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬حين‭ ‬أراد‭ ‬الزواج‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬‮«‬هلّا‭ ‬بكرا‭ ‬تلاعبها‭ ‬وتلاعبك»؟

وأخيرًا،‭ ‬فإن‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬الصبح‮»‬‭ ‬جاء‭ ‬ليكمل‭ ‬الصورة‭ ‬فيعطيها‭ ‬امتدادًا‭ ‬زمنيًا‭ ‬واسعًا،‭ ‬وليوحي‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬نوم‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬بل‭ ‬وصال‭ ‬للصباح،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬يبين‭ ‬للسامع‭ ‬طول‭ ‬المدة،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬يبين‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬طوله،‭ ‬مر‭ ‬وانقضى‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬ينام‭ ‬أو‭ ‬يغفل،‭ ‬فهو‭ ‬طويل‭ ‬في‭ ‬مدته‭ ‬ولكنه‭ ‬قصير‭ ‬بالنسبة‭ ‬لتواصله‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يحب،‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬إلى‭ ‬الصبح‭ ‬لما‭ ‬وصل‭ ‬لهذا‭ ‬المعنى‭.‬

وأغلب‭ ‬الظن‭ ‬أن‭ ‬شاعرنا‭ ‬أبا‭ ‬فراس‭ ‬قد‭ ‬تعلم‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الله،‭ ‬فمن‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬ولله‭ ‬المثل‭ ‬الأعلى،‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭: ‬‮«‬ألهاكم‭ ‬التكاثر‭ ‬حتى‭ ‬زرتم‭ ‬المقابر‮«‬،‭ ‬فقول‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬‮«‬حتى‭ ‬زرتم‭ ‬المقابر‮»‬،‭ ‬يبين‭ ‬أن‭ ‬التكاثر‭ ‬بالمال‭ ‬والولد‭ ‬يستغرق‭ ‬كل‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬القبر،‭ ‬ويبين‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاستغراق‭ ‬كله‭ ‬سينتهي‭ ‬بالموت،‭ ‬فهو‭ ‬قصير‭ ‬مهما‭ ‬طال،‭ ‬ويالها‭ ‬من‭ ‬قمة‭ ‬في‭ ‬البلاغة،‭ ‬تبين‭ ‬قصر‭ ‬الحياة‭ ‬مع‭ ‬طول‭ ‬استغراق‭ ‬الإنسان‭ ‬الغافل‭ ‬فيها‭ ‬باللهو‭.‬

ألا‭ ‬ما‭ ‬أحسن‭ ‬الشعـــر‭ ‬عندما‭ ‬يجتمع‭ ‬فيه‭ ‬المعنى‭ ‬الجميل‭ ‬والخلق‭ ‬الرفـــيع‭ ‬والبلاغة‭ ‬البديعة‭ ‬والبيان‭ ‬الساحر،‭ ‬ولا‭ ‬جرم‭ ‬أن‭ ‬بيت‭ ‬أبي‭ ‬فراس‭ ‬هذا،‭ ‬هو‭ ‬مثــال‭ ‬على‭ ‬ذاك‭ ‬الطراز‭ ‬النادر‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬‭.