سؤال الهوية العمرانية للمدينة العربية
عندما نبني المدينة باعتبارها مجالًا حياتيًا للاجتماع الإنساني فإننا نبني - كما يقول عبد الهادي التازي - «الطبائع، نبني الشخصية، نبني الأخلاق، ولذلك فإن بناء المدينة ليس بالأمر الهين الذي باستطاعتنا أن نقوم به بكل سهولة، إن تخطيط المدينة لا يعني عملًا عشوائيًا مرتجلًا يحتاج لأسبوع، أو لشهر أو لسنة، ولكنه عمل يحتاج لدراسة مستقبل الأيام».
يحتاج العمران إلى ثقافة، إذ إنه كما أن هناك ثقافة للبناء فيمكننا الحديث عن بناء الثقافة، وهما وجهان لقيام وجود حضاري فاعل ومتميز في الحياة.
وثقافة البناء، كما يقول ناصر الرباط «هي سياج هويتها المهنية والفكرية ومحيطها المعرفي والدلالي والترميزي الخاص، بالإضافة إلى كونها ذلك الجزء المنتمي إلى الثقافة القومية أو الوطنية أو الحضارية الأوسع منها، ولذي تمثله العمارة فنًا ووظيفة وتاريخًا وهندسة وتعبيرًا ورمزًا».
وهنا لابد من التذكير بأن الحديث عن المستقبل هو الذي يعطي الشرعية في الواقع لتناول موضوع هوية المدينة العربية، ذلك أن الهوية العمرانية للمدينة تقتضي طابع الديمومة والاستمرارية والتميز الذي يواجهك في أول لقاء، كما يخبرنا أستاذ تاريخ الفن والعمارة فرانسوا لويير، لأجل ذلك فهي لا تتوقف في إطار زمني محدد، بل تتطور لتخترق الزمن ولتشكل الوجود النوعي للمدينة، الذي هو مرآة للوجود النوعي للإنسان، سواء كان شرقيًا أو غربيًا.
وكما يقول جورج نيكلسون، المتخصص في الجغرافيا والتخطيط الحضري، فإن «كل مدينة في حد ذاتها فريدة، فالثقافات والوظائف والتاريخ، مجتمعة مع بعضها هي ما يمنحها فرادتها وهويتها»، من هنا كان مدى استلهام النموذج الحضاري والثقافي للهندسة المعمارية هو المؤشر على تماسك وأصالة الهوية المعمارية أو تفككها، في إطار من تقويم النظرية المعمارية في ضوء الخصائص البيئية والحضارية المحلية، وعلى قدر وفاء العمارة للشروط الفنية والحاجيات الأصيلة لصانعي الحضارة والثقافة، وينعكس ذلك على «المتجلي» عمرانيًا ولسانيًا في الفضاء الهندسي والتواصلي.
وفي المقابل، تعكس الاستعارات المعمارية غير الواعية وغير المدروسة خارج سياقها تدهورًا واضحًا في الذوق والفكر والتخطيط، وهو ما تعانيه اليوم، حسب غسان الحلبي «جميع المدن العربية تقريبًا من أزمة عمارة بسبب دخول فن العمارة الغربية عليها، مسببا انهيار المشهد المعماري العربي الأصيل، سواء في القاهرة أو في بغداد أو الإسكندرية أو الجزائر».
والهوية البصرية للعمران تختزل تركيبا معقدًا ومزيجًا من عطاء الفكر في تفاعله مع التاريخ والأرض والمناخ والدين والمجتمع، ومعاش الناس أو طريقة تدبيرهم للاقتصاد، وهذا العطاء هو الذي يمنح الهوية قدرتها التوصيلية والتواصلية في الوقت ذاته، أي قدرة الهوية على أن تُعَبّر عن نفسها، وتَعْبُر من الذات إلى الآخر، ذهابًا وإيابًا، تَعْبُر بعد أن تترك الفكرة في المادة أثرها وصورتها، إذ إن الاتصال السيميائي، كما يقول رفعت الجادرجي، ينتقل بسيرورات متعددة ضمن بنيوية العمارة، ودلالات المعاني، وظهورها وحركاتها وإيصالاتها: من فكر إلى فكر، ومن فكر إلى مادة جامدة، ومن مادة جامدة إلى فكر.
لقد كان للمدينة العربية في التاريخ الوسيط طابع عمراني وهوية عمرانية (بغداد وفاس والقاهرة والقيروان وغيرها) تعكس فلسفة الوجود والإنسان ورؤيته النسبية المنسجمة مع قيم الجمال والآخر والأخلاق، وتنظيم مركب لقطاعات الاقتصاد والتجارة والصناعة والفلاحة وغيرها، كما يؤكد المستشرق الفرنسي إدغار فيبر، بالإضافة إلى انسجام ذلك مع مناخ الجغرافيا العربية الذي كان ملهما لكثير من الإبداعات الهندسية. كان المسجد «الجامع» في قلب المدينة، ولم يكن رمزا للعبادة والنسك فحسب، وإنما مركزيته كانت رمزا لمركزية سلطة العلم والمعرفة التي تحتل من المدينة قلبها، وحوله تتوزع وتنتشر في «خطط» متناغمة عنقودية، لها نظامها الداخلي المضمر، تتوافر على نهايات مغلقة، تنتهي بأسوار تشكل درع المدينة وحصنها في وجه الغزاة.
«الجامع» كان المقابل العمراني لهندسة الأغورا اليونانية التي احتلت المركز من قلب المشروع الحضاري اليوناني... واليوم أمام انتكاسة الفكر والذوق والجمهور العربي والسياسة العربية فقد انتكس التخطيط، بل بات هناك تخطيط لا يؤشر على هوية محددة، فهو الفوضى بامتياز، وحتى من لا يعترف بهذا المنطق ويرى في النموذج القديم نموذجا فوضويا أيضا، فإن القاهرة القديمة لن تكون بحال إلا أقل فوضوية من القاهرة الحديثة، وقس على بقية العواصم العربية الثقافية.
إن الهوية الهندسية للمدينة العربية لا تنفصل عن طبيعة الهوية الهندسية للاجتماع وللأسرة اليوم، وكما يقول يان سبورك: «كما في فن العمارة، نحن أمام ما يمنح الاستقرار والدوام للمجتمع ولهيكليته»، إذ لا شك في أن الأسرة والإنسان والثقافة هي عناصر للبنية الفوقية في مجتمعاتنا المعاصرة، بيد أنها تلعب دورًا حيويًا في اختياراتنا العمرانية إلى جانب نمط الاقتصاد الذي يزيد من تفتيت البنيات الكبرى للمجتمع لمصلحة الأسرة النووية الصغيرة، التي حملت معها في ظل ظروف ضاغطة أشكال «البناء التجاري» التي تتناسب مع الطابع الفرداني للمدينة وللعلاقات الجديدة فيها، والتي باتت محدودة شيئًا فشيئًا.
والمدينة بهويتها الجديدة, كما يقول جورج زيمل, أثرت بشكل كبير في العلاقات الاجتماعية، وفي نظرتنا للظواهر وتعبيرنا عنها، وجعلت الفرد أكثر وعيا بذاته (الأنا)، وأكثر امتلاكًا لحريته بفعل عاملي «المسافة» و«الاستقلالية»، لكنها جعلته في الوقت نفسه أضعف من ناحية العلاقة مع الآخر، معلنة الفقر «الإنساني» وعلامات «التصحر اللساني»، وهما من أعراض مرض التمدن.
ضعف العلاقات الاجتماعية ليس عنصرًا خارجًا عن تناولنا لقضية الهوية العمرانية، ذلك أن الهوية العمرانية للمدينة العربية لا تتوقف عند حدود تناسق أو عدم تناسق، تقارب أو تباعد - كما سنرى - الرسوم والأشكال والمساحات والأحجام والفراغات، بل تعني كذلك ما وراء ذلك من النشاط التواصلي الإنساني في إطار ما يسمى بالتفاعلية الرمزية، لأن هذه الهوية تتجسد عبر مساحتين: «الواجهة» وهو حدها الظهوري البراني، و«نوعية العلاقات»، وهو حدها الداخلي الجواني, حسب جوناثان ريتشارد، هذا الحد يتجسد أولا في طبيعة العلاقات التواصلية من التواد والتساند والقرب والبعد الذي يكشف عن ذاته عبر النشاط اللساني في اجتماعات الناس ولقاءاتهم ومنتدياتهم وأسواقهم، في احتفالاتهم وأحزانهم.
ويمكن أن نسجل في البداية انحسار مساحات التواصل اليومي الشفوي في المدينة العربية الحديثة مقارنة بذي قبل، وذلك لمصلحة «النرجسية المدينية الجديدة» بتعبير شين شارلز ساورغوس، لمصلحة وسائل الإعلام الجديد (المجال الافتراضي)، التي بات يقضي معها الإنسان أوقاتا أطول، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الفردانية التي حملتها معها المدينة الحديثة بهندستها ومتطلباتها المرهقة، فتقلصت معها الأوقات التي يقضيها الإنسان العربي «المديني» مع غيره تقلص المشترك واتساع «الحيز الخاص» في ما يمكن أن نسميه «انكماش التواصل الأفقي الشفوي»، لأن هذا التواصل، كما يقول والتر أونج، يوحد الناس في مجموعات، أما الكتابة والقراءة فنشاطان انفراديان يسحبان النفس إلى ذاتها.
في رواية «الطيبون» لمبارك ربيع، يرد على لسان أحد ساكني المدينة، ما يفجر حقيقة الاغتراب المتصل؛ الاغتراب الإنساني الذي لا ينفع معه الاقتراب الفضائي الذي هو أقرب إلى «التكدس البارد»، تناقض رهيب، يقول: «لو سألتني عن جاري المباشر (سكان العمارة) وبابه يحادي بابي، لما وجدتني أعرفه». لقد أصبح السكان أقلَّ معرفة بجيرانهم وقَلَّ مِنْ حولهم عدد الأصدقاء والأقارب... إننا جيران غرباء .
الهوية العمرانية للمدينة لا تتوقف في إطار زمني محدد، بل تتطور لتخترق الزمن ولتشكل الوجود النوعي للمدينة
الهوية البصرية للعمران تختزل تركيبا معقدًا ومزيجًا من عطاء الفكر في تفاعله مع التاريخ والأرض والمناخ والدين والمجتمع
للمدينة العربية في التاريخ الوسيط طابع عمراني وهوية عمرانية تعكس فلسفة الوجود والإنسان ورؤيته النسبية المنسجمة مع قيم الجمال والآخر والأخلاق
ثقافة البناء تمثله العمارة فناً ووظيفة وتاريخاً وهندسة وتعبيراً ورمزاً لهوية المدينة