سؤال الهوية العمرانية للمدينة العربية

سؤال الهوية العمرانية للمدينة العربية

عندما‭ ‬نبني‭ ‬المدينة‭ ‬باعتبارها‭ ‬مجالًا‭ ‬حياتيًا‭ ‬للاجتماع‭ ‬الإنساني‭ ‬فإننا‭ ‬نبني‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬عبد‭ ‬الهادي‭ ‬التازي‭ - ‬‮«‬الطبائع،‭ ‬نبني‭ ‬الشخصية،‭ ‬نبني‭ ‬الأخلاق،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬بناء‭ ‬المدينة‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬الهين‭ ‬الذي‭ ‬باستطاعتنا‭ ‬أن‭ ‬نقوم‭ ‬به‭ ‬بكل‭ ‬سهولة،‭ ‬إن‭ ‬تخطيط‭ ‬المدينة‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬عملًا‭ ‬عشوائيًا‭ ‬مرتجلًا‭ ‬يحتاج‭ ‬لأسبوع،‭ ‬أو‭ ‬لشهر‭ ‬أو‭ ‬لسنة،‭ ‬ولكنه‭ ‬عمل‭ ‬يحتاج‭ ‬لدراسة‭ ‬مستقبل‭ ‬الأيام‮»‬‭.‬

يحتاج‭ ‬العمران‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ثقافة‭ ‬للبناء‭ ‬فيمكننا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬بناء‭ ‬الثقافة،‭ ‬وهما‭ ‬وجهان‭ ‬لقيام‭ ‬وجود‭ ‬حضاري‭ ‬فاعل‭ ‬ومتميز‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬

وثقافة‭ ‬البناء،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬ناصر‭ ‬الرباط‭ ‬‮«‬هي‭ ‬سياج‭ ‬هويتها‭ ‬المهنية‭ ‬والفكرية‭ ‬ومحيطها‭ ‬المعرفي‭ ‬والدلالي‭ ‬والترميزي‭ ‬الخاص،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬كونها‭ ‬ذلك‭ ‬الجزء‭ ‬المنتمي‭ ‬إلى‭ ‬الثقافة‭ ‬القومية‭ ‬أو‭ ‬الوطنية‭ ‬أو‭ ‬الحضارية‭ ‬الأوسع‭ ‬منها،‭ ‬ولذي‭ ‬تمثله‭ ‬العمارة‭ ‬فنًا‭ ‬ووظيفة‭ ‬وتاريخًا‭ ‬وهندسة‭ ‬وتعبيرًا‭ ‬ورمزًا‮»‬‭.‬

وهنا‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬التذكير‭ ‬بأن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعطي‭ ‬الشرعية‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬لتناول‭ ‬موضوع‭ ‬هوية‭ ‬المدينة‭ ‬العربية،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬العمرانية‭ ‬للمدينة‭ ‬تقتضي‭ ‬طابع‭ ‬الديمومة‭ ‬والاستمرارية‭ ‬والتميز‭ ‬الذي‭ ‬يواجهك‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬لقاء،‭ ‬كما‭ ‬يخبرنا‭ ‬أستاذ‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬والعمارة‭ ‬فرانسوا‭ ‬لويير،‭ ‬لأجل‭ ‬ذلك‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬زمني‭ ‬محدد،‭ ‬بل‭ ‬تتطور‭ ‬لتخترق‭ ‬الزمن‭ ‬ولتشكل‭ ‬الوجود‭ ‬النوعي‭ ‬للمدينة،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مرآة‭ ‬للوجود‭ ‬النوعي‭ ‬للإنسان،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬شرقيًا‭ ‬أو‭ ‬غربيًا‭.‬

وكما‭ ‬يقول‭ ‬جورج‭ ‬نيكلسون،‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬الجغرافيا‭ ‬والتخطيط‭ ‬الحضري،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬كل‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭ ‬فريدة،‭ ‬فالثقافات‭ ‬والوظائف‭ ‬والتاريخ،‭ ‬مجتمعة‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يمنحها‭ ‬فرادتها‭ ‬وهويتها‮»‬،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬مدى‭ ‬استلهام‭ ‬النموذج‭ ‬الحضاري‭ ‬والثقافي‭ ‬للهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬هو‭ ‬المؤشر‭ ‬على‭ ‬تماسك‭ ‬وأصالة‭ ‬الهوية‭ ‬المعمارية‭ ‬أو‭ ‬تفككها،‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬تقويم‭ ‬النظرية‭ ‬المعمارية‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الخصائص‭ ‬البيئية‭ ‬والحضارية‭ ‬المحلية،‭ ‬وعلى‭ ‬قدر‭ ‬وفاء‭ ‬العمارة‭ ‬للشروط‭ ‬الفنية‭ ‬والحاجيات‭ ‬الأصيلة‭ ‬لصانعي‭ ‬الحضارة‭ ‬والثقافة،‭ ‬وينعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬‮«‬المتجلي‮»‬‭ ‬عمرانيًا‭ ‬ولسانيًا‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الهندسي‭ ‬والتواصلي‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬تعكس‭ ‬الاستعارات‭ ‬المعمارية‭ ‬غير‭ ‬الواعية‭ ‬وغير‭ ‬المدروسة‭ ‬خارج‭ ‬سياقها‭ ‬تدهورًا‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬الذوق‭ ‬والفكر‭ ‬والتخطيط،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تعانيه‭ ‬اليوم،‭ ‬حسب‭ ‬غسان‭ ‬الحلبي‭ ‬‮«‬جميع‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬تقريبًا‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬عمارة‭ ‬بسبب‭ ‬دخول‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬الغربية‭ ‬عليها،‭ ‬مسببا‭ ‬انهيار‭ ‬المشهد‭ ‬المعماري‭ ‬العربي‭ ‬الأصيل،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬أو‭ ‬الإسكندرية‭ ‬أو‭ ‬الجزائر‮»‬‭.‬

والهوية‭ ‬البصرية‭ ‬للعمران‭ ‬تختزل‭ ‬تركيبا‭ ‬معقدًا‭ ‬ومزيجًا‭ ‬من‭ ‬عطاء‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬تفاعله‭ ‬مع‭ ‬التاريخ‭ ‬والأرض‭ ‬والمناخ‭ ‬والدين‭ ‬والمجتمع،‭ ‬ومعاش‭ ‬الناس‭ ‬أو‭ ‬طريقة‭ ‬تدبيرهم‭ ‬للاقتصاد،‭ ‬وهذا‭ ‬العطاء‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يمنح‭ ‬الهوية‭ ‬قدرتها‭ ‬التوصيلية‭ ‬والتواصلية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬أي‭ ‬قدرة‭ ‬الهوية‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تُعَبّر‭ ‬عن‭ ‬نفسها،‭ ‬وتَعْبُر‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬إلى‭ ‬الآخر،‭ ‬ذهابًا‭ ‬وإيابًا،‭ ‬تَعْبُر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬الفكرة‭ ‬في‭ ‬المادة‭ ‬أثرها‭ ‬وصورتها،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الاتصال‭ ‬السيميائي،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬رفعت‭ ‬الجادرجي،‭ ‬ينتقل‭ ‬بسيرورات‭ ‬متعددة‭ ‬ضمن‭ ‬بنيوية‭ ‬العمارة،‭ ‬ودلالات‭ ‬المعاني،‭ ‬وظهورها‭ ‬وحركاتها‭ ‬وإيصالاتها‭: ‬من‭ ‬فكر‭ ‬إلى‭ ‬فكر،‭ ‬ومن‭ ‬فكر‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬جامدة،‭ ‬ومن‭ ‬مادة‭ ‬جامدة‭ ‬إلى‭ ‬فكر‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬للمدينة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الوسيط‭ ‬طابع‭ ‬عمراني‭ ‬وهوية‭ ‬عمرانية‭ (‬بغداد‭ ‬وفاس‭ ‬والقاهرة‭ ‬والقيروان‭ ‬وغيرها‭) ‬تعكس‭ ‬فلسفة‭ ‬الوجود‭ ‬والإنسان‭ ‬ورؤيته‭ ‬النسبية‭ ‬المنسجمة‭ ‬مع‭ ‬قيم‭ ‬الجمال‭ ‬والآخر‭ ‬والأخلاق،‭ ‬وتنظيم‭ ‬مركب‭ ‬لقطاعات‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والتجارة‭ ‬والصناعة‭ ‬والفلاحة‭ ‬وغيرها،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬المستشرق‭ ‬الفرنسي‭ ‬إدغار‭ ‬فيبر،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬انسجام‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬مناخ‭ ‬الجغرافيا‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ملهما‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الإبداعات‭ ‬الهندسية‭.‬‭ ‬كان‭ ‬المسجد‭ ‬‮«‬الجامع‮»‬‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المدينة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬رمزا‭ ‬للعبادة‭ ‬والنسك‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬مركزيته‭ ‬كانت‭ ‬رمزا‭ ‬لمركزية‭ ‬سلطة‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬التي‭ ‬تحتل‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬قلبها،‭ ‬وحوله‭ ‬تتوزع‭ ‬وتنتشر‭ ‬في‭ ‬‮«‬خطط‮»‬‭ ‬متناغمة‭ ‬عنقودية،‭ ‬لها‭ ‬نظامها‭ ‬الداخلي‭ ‬المضمر،‭ ‬تتوافر‭ ‬على‭ ‬نهايات‭ ‬مغلقة،‭ ‬تنتهي‭ ‬بأسوار‭ ‬تشكل‭ ‬درع‭ ‬المدينة‭ ‬وحصنها‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الغزاة‭.‬

‭ ‬‮«‬الجامع‮»‬‭ ‬كان‭ ‬المقابل‭ ‬العمراني‭ ‬لهندسة‭ ‬الأغورا‭ ‬اليونانية‭ ‬التي‭ ‬احتلت‭ ‬المركز‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬المشروع‭ ‬الحضاري‭ ‬اليوناني‭... ‬واليوم‭ ‬أمام‭ ‬انتكاسة‭ ‬الفكر‭ ‬والذوق‭ ‬والجمهور‭ ‬العربي‭ ‬والسياسة‭ ‬العربية‭ ‬فقد‭ ‬انتكس‭ ‬التخطيط،‭ ‬بل‭ ‬بات‭ ‬هناك‭ ‬تخطيط‭ ‬لا‭ ‬يؤشر‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬محددة،‭ ‬فهو‭ ‬الفوضى‭ ‬بامتياز،‭ ‬وحتى‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بهذا‭ ‬المنطق‭ ‬ويرى‭ ‬في‭ ‬النموذج‭ ‬القديم‭ ‬نموذجا‭ ‬فوضويا‭ ‬أيضا،‭ ‬فإن‭ ‬القاهرة‭ ‬القديمة‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬بحال‭ ‬إلا‭ ‬أقل‭ ‬فوضوية‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭ ‬الحديثة،‭ ‬وقس‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭ ‬الثقافية‭.‬

إن‭ ‬الهوية‭ ‬الهندسية‭ ‬للمدينة‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الهوية‭ ‬الهندسية‭ ‬للاجتماع‭ ‬وللأسرة‭ ‬اليوم،‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬يان‭ ‬سبورك‭: ‬‮«‬كما‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬العمارة،‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬الاستقرار‭ ‬والدوام‭ ‬للمجتمع‭ ‬ولهيكليته‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الأسرة‭ ‬والإنسان‭ ‬والثقافة‭ ‬هي‭ ‬عناصر‭ ‬للبنية‭ ‬الفوقية‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬المعاصرة،‭ ‬بيد‭ ‬أنها‭ ‬تلعب‭ ‬دورًا‭ ‬حيويًا‭ ‬في‭ ‬اختياراتنا‭ ‬العمرانية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬نمط‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الذي‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬تفتيت‭ ‬البنيات‭ ‬الكبرى‭ ‬للمجتمع‭ ‬لمصلحة‭ ‬الأسرة‭ ‬النووية‭ ‬الصغيرة،‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ظروف‭ ‬ضاغطة‭ ‬أشكال‭ ‬‮«‬البناء‭ ‬التجاري‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬الطابع‭ ‬الفرداني‭ ‬للمدينة‭ ‬وللعلاقات‭ ‬الجديدة‭ ‬فيها،‭ ‬والتي‭ ‬باتت‭ ‬محدودة‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭.‬

والمدينة‭ ‬بهويتها‭ ‬الجديدة‭,‬‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬جورج‭ ‬زيمل‭,‬‭ ‬أثرت‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وفي‭ ‬نظرتنا‭ ‬للظواهر‭ ‬وتعبيرنا‭ ‬عنها،‭ ‬وجعلت‭ ‬الفرد‭ ‬أكثر‭ ‬وعيا‭ ‬بذاته‭ (‬الأنا‭)‬،‭ ‬وأكثر‭ ‬امتلاكًا‭ ‬لحريته‭ ‬بفعل‭ ‬عاملي‭ ‬‮«‬المسافة‮»‬‭ ‬و«الاستقلالية‮»‬،‭ ‬لكنها‭ ‬جعلته‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬معلنة‭ ‬الفقر‭ ‬‮«‬الإنساني‮»‬‭ ‬وعلامات‭ ‬‮«‬التصحر‭ ‬اللساني‮»‬،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬أعراض‭ ‬مرض‭ ‬التمدن‭.‬

ضعف‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ليس‭ ‬عنصرًا‭ ‬خارجًا‭ ‬عن‭ ‬تناولنا‭ ‬لقضية‭ ‬الهوية‭ ‬العمرانية،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬العمرانية‭  ‬للمدينة‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬تناسق‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬تناسق،‭ ‬تقارب‭ ‬أو‭ ‬تباعد‭ - ‬كما‭ ‬سنرى‭ - ‬الرسوم‭ ‬والأشكال‭ ‬والمساحات‭ ‬والأحجام‭ ‬والفراغات،‭ ‬بل‭ ‬تعني‭ ‬كذلك‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬التواصلي‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالتفاعلية‭ ‬الرمزية،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬تتجسد‭ ‬عبر‭ ‬مساحتين‭: ‬‮«‬الواجهة‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬حدها‭ ‬الظهوري‭ ‬البراني،‭ ‬و«نوعية‭ ‬العلاقات‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬حدها‭ ‬الداخلي‭ ‬الجواني‭,‬‭ ‬حسب‭ ‬جوناثان‭ ‬ريتشارد،‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬يتجسد‭ ‬أولا‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬العلاقات‭ ‬التواصلية‭ ‬من‭ ‬التواد‭ ‬والتساند‭ ‬والقرب‭ ‬والبعد‭ ‬الذي‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬عبر‭ ‬النشاط‭ ‬اللساني‭ ‬في‭ ‬اجتماعات‭ ‬الناس‭ ‬ولقاءاتهم‭ ‬ومنتدياتهم‭ ‬وأسواقهم،‭ ‬في‭ ‬احتفالاتهم‭ ‬وأحزانهم‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نسجل‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬انحسار‭ ‬مساحات‭ ‬التواصل‭ ‬اليومي‭ ‬الشفوي‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬مقارنة‭ ‬بذي‭ ‬قبل،‭ ‬وذلك‭ ‬لمصلحة‭ ‬‮«‬النرجسية‭ ‬المدينية‭ ‬الجديدة‮»‬‭ ‬بتعبير‭ ‬شين‭ ‬شارلز‭ ‬ساورغوس،‭ ‬لمصلحة‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الجديد‭ (‬المجال‭ ‬الافتراضي‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬يقضي‭ ‬معها‭ ‬الإنسان‭ ‬أوقاتا‭ ‬أطول،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬معدلات‭ ‬الفردانية‭ ‬التي‭ ‬حملتها‭ ‬معها‭ ‬المدينة‭ ‬الحديثة‭ ‬بهندستها‭ ‬ومتطلباتها‭ ‬المرهقة،‭ ‬فتقلصت‭ ‬معها‭ ‬الأوقات‭ ‬التي‭ ‬يقضيها‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬‮«‬المديني‮»‬‭ ‬مع‭ ‬غيره‭ ‬تقلص‭ ‬المشترك‭ ‬واتساع‭ ‬‮«‬الحيز‭ ‬الخاص‮»‬‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬انكماش‭ ‬التواصل‭ ‬الأفقي‭ ‬الشفوي‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬التواصل،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬والتر‭ ‬أونج،‭ ‬يوحد‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬مجموعات،‭ ‬أما‭ ‬الكتابة‭ ‬والقراءة‭ ‬فنشاطان‭ ‬انفراديان‭ ‬يسحبان‭ ‬النفس‭ ‬إلى‭ ‬ذاتها‭.‬

في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الطيبون‮»‬‭ ‬لمبارك‭ ‬ربيع،‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أحد‭ ‬ساكني‭ ‬المدينة،‭ ‬ما‭ ‬يفجر‭ ‬حقيقة‭ ‬الاغتراب‭ ‬المتصل؛‭ ‬الاغتراب‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينفع‭ ‬معه‭ ‬الاقتراب‭ ‬الفضائي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬التكدس‭ ‬البارد‮»‬،‭ ‬تناقض‭ ‬رهيب،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لو‭ ‬سألتني‭ ‬عن‭ ‬جاري‭ ‬المباشر‭ (‬سكان‭ ‬العمارة‭) ‬وبابه‭ ‬يحادي‭ ‬بابي،‭ ‬لما‭ ‬وجدتني‭ ‬أعرفه‮»‬‭.  ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬السكان‭ ‬أقلَّ‭ ‬معرفة‭ ‬بجيرانهم‭ ‬وقَلَّ‭ ‬مِنْ‭ ‬حولهم‭ ‬عدد‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والأقارب‭... ‬إننا‭ ‬جيران‭ ‬غرباء‭ ‬‭.

الهوية‭ ‬العمرانية‭ ‬للمدينة‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬زمني‭ ‬محدد،‭ ‬بل‭ ‬تتطور‭ ‬لتخترق‭ ‬الزمن‭ ‬ولتشكل‭ ‬الوجود‭ ‬النوعي‭ ‬للمدينة

الهوية‭ ‬البصرية‭ ‬للعمران‭ ‬تختزل‭ ‬تركيبا‭ ‬معقدًا‭ ‬ومزيجًا‭ ‬من‭ ‬عطاء‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬تفاعله‭ ‬مع‭ ‬التاريخ‭ ‬والأرض‭ ‬والمناخ‭ ‬والدين‭ ‬والمجتمع

للمدينة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الوسيط‭ ‬طابع‭ ‬عمراني‭ ‬وهوية‭ ‬عمرانية‭ ‬تعكس‭ ‬فلسفة‭ ‬الوجود‭ ‬والإنسان‭ ‬ورؤيته‭ ‬النسبية‭ ‬المنسجمة‭ ‬مع‭ ‬قيم‭ ‬الجمال‭ ‬والآخر‭ ‬والأخلاق

ثقافة‭ ‬البناء‭ ‬تمثله‭ ‬العمارة‭ ‬فناً‭ ‬ووظيفة‭ ‬وتاريخاً‭ ‬وهندسة‭ ‬وتعبيراً‭ ‬ورمزاً‭ ‬لهوية‭ ‬المدينة