الوحدة والحياة دون ترك أثر
على مدار ساعة و49 دقيقة، طافت بنا المخرجة ديبرا غرانيك عبر فيلم Leave No Trace «لا تترك أثرًا»، الذي تم إنتاجه في يونيو من العام الماضي، والذي قامت ببطولته الممثلة النيوزيلندية توماسين ماكنزي.
أدت توماسين دورها ببراعة وبراءة، مما جعلنا نتعاطف معها في نهاية الفيلم حين اتخذت قرار ترك والدها من أجل الحياة الصحيَّة في مجتمع يتعايش فيه الناس بمودَّة وصُحْبة طيبة وسط الطبيعة.
لم نفقد التعاطف الذي قدّمه الممثل بن فوستر، فالحقّ أنه أدخلنا إلى حالة الوحدة مع الذات من أول طلَّة على الشاشة، فكلّ ملامحه تشي بأنه وحيـــد، وأن داخلــــه صراعات لا يعالجها سوى الوحدة والتوحُّد مع الذات والطبيعة، حتى أنه كان يستخدم مفردات الطبيعة بشكل جيد، وكأنه ابن هذه الأشجار، فعندما كانت ابنته توم في غاية البرودة، وضع في ملابسها بعض الحشائش كي تمتصّ منها الرطوبة.
الفيلم قائم على الأب وابنته، جميع الشخصيات الأخرى ليست ذات تأثير فعَّال، كلها شخصيات ثانوية، ليس لها ملامح خاصة، ولا يظهر لها أي عمق، الفيلم يغوص في الوحدة، ونَجَحَ في توصيل مشاعر الوحدة التي كان الأب يعانيها، وكانت الفتاة تتعايش معها في بداية الفيلم، لكنها غيَّرت وجهة نظرها حين اختلطت بالناس، ورأت حياة أخرى، أرادت أن تحيا في المجتمع الذي راق لها، ونجحت في النهاية، وظل الوحيد وحيدًا.
في البدء نجد الفتاة تتحرَّك وحـــدها وسط الخُضْرَة، ثم تظهــــر عنكبوت تحاول نسج شباكها، متمنيًّة اصطياد فريسة، وإذا بالأب يظهر.
الفيلم يحاول من البداية التصريح بأن هناك لحظة قَنْص، لحظة صيد سوف تحدث في وقت ما، عنكبوت ما تترصَّد، هل العنكبوت هي التي أخرجت الأب وابنته من حياة المنتزه للحياة وسط الناس؟ هل العنكبوت هي الوحدة ذاتها التي اقتنصت الأب وأوقعته في فخ ترك العالم والحياة وحيدًا مع ابنته؟
حياة صافية
الفيلم يدخل بنا إلى حياة بسيطة، حياة بدائية صافية خالية من كل التعقيدات، العودة إلى الطبيعة جانب الوحدة مع الذات، والتوحُّد مع الروح دون الانشغال بالعالم الآخر، الذي ربما يمثّل ضغطًا، فالنار تُوقَد بإشعال أعشاب جافة عن طريق احتكاك يعطي شرارة، والطعام بيض مسلوق على نار الخشب، والماء يتم اصطياده عن طريق حاجز قماشي سميك.
ربما تتعاطف في البداية مع هذه الحياة البدائية البسيطة، وتتمنَّى أن تنام داخل خيمة في العراء لا تشغل بالك بهموم العالم، وتَدْخُلك الوحدة التي تسيطر على الأب الذي لم تُفْلِح الكاميرا في التقاط بَسْمة له طوال الفيلم سوى مرات معدودة. نرى أول ابتسامة على الشاشة حين تصنع توم طعامًا يمتدحه والدها ويقول هذا جيد، ساعتها ندرك أن توم فتاة في قلبها امرأة صغيرة تريد أن نمتدحها على ما تقدمه.
وإذا كان البطل يستخدم بعض الأدوات الحديثة كملابسه وسِكِّينه الجديد، والكشّاف الذي يستخدمه في قراءة الكتب في الليل، والكتب نفسها، وفرن الغاز، إلا أنك تشعر أنك عُدْتَ إلى عصر فائت، وأنك الآن مع الطبيعة، تستمتع بكل ما تجود به.
شهيّة مفتوحة
وسط هذه الشاعرية، التي لا يجرحها سوى الكآبة التي تظهر على وجه البطل، يظهر صوت المنشار فجأة يخترق الهدوء، يُحِيل المشاهد إلى حالة من التوتر والترقُّب.
استطاعت المخرجة، بمهارة، أن تمنحنا المتعة مع اللون الأخضر في البداية، وأن تُدخلنا معها في عالم الأشجار والخُضْرَة البسيطة المحبوبة، وغَلَبَ اللون الأخضر الشاعري على مشاهد الفيلم، كان هذا ناجحًا، لكن الأخضر يختفي حين يخرج الأب وابنته للمدينة لشراء الطعام؛ لأن الفتاة شهيتها مفتوحة وتحتاج إلى الطعام لتنمو، وجاء الرمادي المتوتر، وتغيَّرت الحالة الشاعرية.
نرى الأب يُعَلِّم ابنته التَّخفي وكأنه يمارس فِعلًا خاطئًا، أو أنه هارب من شيء ما، أو أن هناك مَن يطارده، عنكبوت ما تريد اصطياده، وحين يتم اكتشافهما يكون عن طريق الأب، وتنجح الفتاة في التَّخفي، فيطلب منها الأب الظهور حتى لا يتركها وحيدة في المنتزه وكي لا يفترقان.
تفلت نصف ابتسامة من الأب حين تقول الفتاة له إن لونها المفضل هو الأصفر، وإن أمها ربما تكون السبب في أنها تحب هذا اللون، وهنا نعلم أن الأم ماتت، ربما تكون وحدة الأب وطلبه للوحدة بسبب فقد الأم، وأن الأب ربما يكون هو العنكبوت التي تحاول اصطياد الوحدة.
الأرنب الهارب
عندما يتم القبض عليهما ويحصلان على بيت في الغابة، وتختلط الفتاة بالمجتمع البسيط، تقابل شابًّا عن طريق أرنب هارب، تلمس الأرنب، وتحتضنه، وتبدأ ملامحها ترتاح أمام الكاميرا ويغزوها الرضا، نرى توم بعد ذلك وهي داخل البيت تشعر بالراحة والأمن، بدأت تشعر بأن حياتها السابقة لا تناسبها، أعطتنا توماسين ماكنزي بتعبيرات وجهها هذا الارتياح من المكان الذي تعيش فيه.
أما الأب فقد كان يريد أن يعــــود كما كان، أن يعيش بالطريقة نفسها التي كانـــت، كان يرى أن المسكن حَبَسَــــــه، حتى أنه أخفى التلفـــــزيون في اللحظــــة الـــتـــي دخل فيهــــا البيـــت، يريد ألا يتصل بالعالم، ثم نام جوار ابنته خــــارج المنزل على حشــائش الأرض؛ كي يشـــعر بالعــــراء والكون المفتوح الذي يحبه.
أَعَدَ حقيبته وأخذ ابنته ورحل إلى الغابة في مغامرة أخرى للتخفي، تصاب توم بجرح في يدها، وهذا يكشف أن شيئًا ما داخل الفتاة قد جُرح، لقد جَرَحَتْها الوحدة التي كانت تعيشها مع والدها، هي الآن تريد الشفاء من الوحدة.
ويحصلان على بيت معزول تحبه الفتاة، ويصاب الأب فيأخذه أناس يعطونه منزلًا مريحًا، لكنه بعد أن أفاق من الإصابة أصرَّ على الرحيل، وتَرْك هذا البيت الذي دَفَعَتْ توم جزءًا من ثمن إيجاره حتى تعيش فيه مع والدها بصفة دائمة، لكنّه رفض، وأخذ حقيبته وتوم معه، وسار للغابة.
وعندما كانا في الغابة مَرَّة أخرى، قالت له توم بصراحة: أعجبتني الإقامة هناك، كانت توم حزينة لأنها تركت جدران الأمان والراحة، سألت والدها عن عدم محاولته للتأقلم مع الحياة مع أناس طيبين: هل حاولتَ حتى؟ ثم جاء السؤال الذي يطرح هدف الفيلم بقوة: لماذا نفعل ذلك؟
مِفْصَل الفيلم
لم تكــن لـــدى توم أي رغبة في الحيـــاة بهــــذه الطريقة، وقالتها صريحة: أنا أحب العيش هنا. لكنّه يأخذها ويرحل، فتتوقف في منتصف الطريق وتتردَّد قائلة: أنتَ بحاجة إلى ذلك، لستُ أنا، الخَطْب الذي تُعَانيه لا أعانيه أنا.
وهنا يكون مِفْصَل الفيلم، فنحن الآن نتعاطف مع الفتاة، ونريدها أن تعيش وسط الناس ووسط الطبيعة، وندرك أن الأب لديه أزمة نفسية خطيرة، لديه رغبة قاسية في الوحدة وترك العالم، يريد أن يكون وحيدًا، إنها وحدة مرضيَّة، وتعود الفتاة للعيش في الكوخ، بعد أن تحتضن والدها بعمق الفراق.
لكن يبقى هناك رابــط بينها وبينه، فهي تذهب على فترات تضع له الطعام على الشجرة، له أو لآخر يعيش حياته في الغابة بنفس الطريقة، فهو لا يستطيع أن يندمج مع الناس، يريد أن يكون وحيدًا، في العـــراء، تحت خيمة من أوراق الشجــــر، يلتقط المــــاء من السماء مباشرة، لا يتحدَّث لأحد، فقط هو وذاته.
إنه يترجم معنى الفيلم، يريد ألا يكون له أي أثر في الحياة، يريد أن يعيش ويرحل كما جاء، لا يترك أي أثر لوجوده، يريد أن يكون كطائر حُر، كحيوان بَرِّي، يعيش على الطبيعة وفي الطبيعة، لا علاقة له بما يحدث حوله، فقط وُجِدَ وسار وعاش ولم يترك أثرًا .
الممثل بن فوستر وتوماسين ماكنزي ولقطة من الفيلم
استخدم الممثل بن فوستر مفردات الطبيعة بشكل جيد وكأنه ابن هذه الأشجار