الهندسة المعمارية الإسلامية الإبداع والعِلم
تقدَّمت العمارة كعلمٍ ومهنةٍ في الحضارة الإسلامية، والنَّاظرُ إلى تراث العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس، يدهشه بناؤها وهندستُها، وهو دليل على أن وراء هذه العمارة علمًا وخبرة ومعرفة تراكمية، تستوجب علينا التأمل والإدراك.
من هنا لا بد أن ننطلق من تعريف العلماء المسلمين لعلم الهندسة، فهي عندهم: «علم تُعرف به أحوال المقادير ولواحقها وأوضاع بعضها عند بعض، ونسبها وخواص أشكالها، والطرق إلى ما عمل ما سبيله أن يعمل بها، واستخراجه بالبراهين اليقينية. وموضوعه المقادير المطلقة، أعني الجسم التعليمي والسطح والخط ولواحقها من الزاوية والنقطة والشكل».
كانت مخيلة العربي مخيلةً تعبيرية قوية، فاللغة عنده سلاح يعبّر به بدقة عن الأشياء، لذا فإن كلمة خطّة التي استخدمها المقريزي بصيغة الجمع في عنوان كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»، إنما تعبّر عن عدد من الأبعاد، فلننظر إليها لغويًّا: «اخْتَطَّ يَخْتَطّ اخْتِطَاطًا، اخْتَطَّ خِطَّةً لنفسه، اتخذ أرضًا لم تكن لغيره، وجعل حولها خطوطًا لتكون مُعلمة ومفروزة للبناء فيها. واختط البلدة رسم بناءها من أول الأمر، وبيَّن موقع أقسامها بالخطوط».
هذا يعني إدراكهم لفكرة التخطيط، سواء على صعيد تقسيم الأرض إلى خططٍ للبناء، أو المخطط العام للبناء، وهو ما يدفعنا إلى أن نستحضر قدرة هؤلاء على التخطيط الحضري للمدن والأبعاد ووضع قواعد لهذا التخطيط؛ يكون فيها المجتمع فاعلًا بقوة مع السلطة للحفاظ على المخطط الحضري، لتتجاوز الحضارة الإسلامية في هذا المضمار كل الحضارات الأخرى.
يصف عبداللطيف البغدادي مباني الفسطاط في مصر ودقتها، كاشفًا عن تقدم الهندسة المعمارية على النحو التالي: «وأما أبنيتهم، ففيها هندسة بارعة وترتيب في الغاية، ويجعلون منازلهم تلقاء الشمال والرياح الطيبة، وأسواقهم وشوارعهم واسعة، وأبنيتهم شاهقة، ويبنون بالحجر النحيت والطوب الأحمر، وهو الآجر، في شكل طوبهم على نصف طوب العراق، ويحكمون قفوات المراحيض، حتى إنه تخرب الدار والقناة قائمة».
دورٌ مميز
كان للمهندس دورٌ مميز في العمارة الإسلامية، وقد ظل هذا الدور مجهولًا لعدم إدراك الباحثين لطبيعته والافتراض المبدئي لتشابهه مع دور المهندس في العصر الحالي.
ويعرّف القلقشندي المهندسَ بأنه: «هو الذي يتولى ترتيب العمائر وتقديرها، ويحكم على أرباب صناعتها»، ويعرفه ابنُ خلدون بأنه: «المشتغل بالهندسة»، أما الهندسة المعمارية فهي علم المباني وبنائها واختلافها والأراضي ومساحتها وشق الأنهار وتنقية القنى وإقامة الجسور وغير ذلك، ويطلق على المهندس المعمار أو البناء.
تعد الهندسة المعمارية في الحضارة الإسلامية مدخلًا جيدًا لفهم مركّب للعمارة في الحضارة الإسلامية. وقد قسَّم علماء العرب المسلمين الهندسة إلى قسمين؛ ظلا يتداولان على هذا النحو طوال الحضارة الإسلامية، وهما:
- الهندسة العقلية: وهي التي تُعرف وتُفهم، أو هي التي تسمى الهندسة النظرية، وتدخل في نطاق العلم الرياضي، وتعرف كما يلي: «علم يُعرف منه أحوال المقادير».
- الهندسة الحسية أو المادية أو العملية: وهي التي تُرى بالعين وتُدرك باللمس، ويفاد منها عمليًّا، أي الهندسة التطبيقية، وتضم صناعة البناء، وعمارة المساكن والمساجد والمرافق وشق القنوات، وما إلى ذلك من أعمال التعمير.
يقول إخوان الصفا (ق4هـ/ 10م) في الرسالة الثانية من القسم الرياضي «في الهندسة وبيان ماهيتها»: «فاعلم يا أخي، أيَّدك الله وإيَّانا بروح منه، أن النظر في الهندسة الحسية يؤدي إلى الحذق في الصنائع العملية كلِها، والنظر في الهندسة العقلية يؤدي إلى الحذق في الصنائع العملية».
الفارابي وعلم الهندسة
وقد فرَّق الفارابي (ت 339هـ/ 950م) بين علم الهندسة وممارستها التطبيقية، فقال: «وأما علم الهندسة، فالذي يعرف بهذا العلم علمان؛ هندسة عملية وهندسة نظرية. فالعملية منهما تنظر في خطوط وسطوح، وفي جسم خشب، إن كان الذي يستعملها نجارًا، أو في جسم حديد إن كان حدادًا، أو في جسم حائط إن كان بنَّاءً، أو في سطوح أرضين ومزارع إن كان ماسحًا، وكذلك كل صاحب هندسة عملية، فإنه تصور في نفسه خطوطًا وسطوحًا وتربيعًا وتثليثًا وتدويرًا في جسم المادة، التي هي موضوعة لتلك الصناعة العملية.
والنظرية إنما تنظر في خطوط وسطوح وفي أجسام على الإطلاق والعموم، وعلى وجه يعمّ جميع الأجسام، ويتصور في نفسه الخطوط بالوجه الأعم، والذي لا يبالي في أي جسم كان، ويتصور المجسمات بالوجه الأعم، ولا يبالي في أي مادة كانت وفي أي محسوس كان».
غير أن ابن خلدون كان دقيقًا وحاسمًا في تعريفه للمهندس المعماري، الذي كان يعمل في الوقت ذاته مهندسًا إنشائيًّا، إذ إنه في ذلك العصر لم يكن التخصصان قد انفصلا، فيقول: «الهندسة، هي علم المباني وبنائها واختلافها والأراضي ومساحتها، وشق الأنهار وتنقية القنوات وإقامة الجسور وغير ذلك، ويطلق على المهندس المعمار أو البنَّاء».
وللهندسة الحسية فروع علمية عدَّةُ، منها:
- علم عقود الأبنية، وهو علم تُعرف منه أحوال الأبنية وأوضاعها، وكيفية شق الأنهار وتنقية القنوات، وسد البثوق وتنضيد المساكن، ومنفعته عظيمة في عمارة المدن والقلاع والمنازل، وفي الفلاحة.
- علم المساحة: وهو علم تُعرف منه مقادير الخطوط والسطوح والأجسام، وما يقدرها من الخط والمربع والمكعب، ومنفعته جليلة في أمر الخراج، وقسمة الأرضين، وتقدير المساكن وغيرها.
فقه العمران
كما أنه ارتبط بفقه العمران في الحضارة الإسلامية، وهو علم يحتاج إليه في مسح أو قياس الأراضي، وشق القنوات، وتعيين ارتفاعات الجبال، وأعماق الوديان، وحساب مساحات الأسطح على اختلاف أشكالها، كذا إيجاد حجوم المجسمات، وعن علم المساحة يقول إخوان الصفا في الرسالة الثانية من القسم الرياضي: «واعلم يا أخي، أيّدك الله وإيانا بروح منه، أن علم الهندسة يدخل في الصنائع كلها، وخاصة في المساحة، وهي صناعة يحتاج إليها العمال والكتّاب والدهاقون، وأصحاب الضياع والعقارات في معاملاتهم من جباية الخراج، وحفر الأنهار وعمل البريدات وما شاكلها».
وقد تعددت مخطوطات علم المساحة في التراث الإسلامي، ومن أبرزها مخطوط لأبي العباس أحمد بن البناء المراكشي وعنوانه: «الأشكال المساحية»، وهو مفيد للبنائين المعماريين، أو الموظفين القائمين على عمليات مسح الأراضي لفائدة الخراج، أو غيرهم ممن اهتم بالنواحي التطبيقية للقواعد الهندسية، ونستطيع أن نأخذ فقرةً من هذا المخطوط ليتبين لنا منها أنه وضع كمخطوط تعليمي، وهي قول ابن البناء: «الأشكال المساحية على قسمين؛ بسيطة ومجسمة، البسيطة تنقسم إلى أربعة أقسام باعتبارين؛ أحدهما باعتبار حدودها، لتنقسم إلى ما يحيط به خط واحد، وهو الدائرة، وما يحيط به خطان وهو المقوس، وما يحيط به ثلاثة خطوط وهو المثلث، وما يحيط به أربعة خطوط وهو المربع، وما عدا هذه الأربعة يرجع إليها بالتقطيع، والثاني باعتبار سطوحها... إلخ».
القسمة والقسام
القسمة لغةً، اسمٌ للاقتسام كالأسوة للاستواء، وشرعًا هي جمع النصيب الشائع في مكان معيّن، وركنها فعل يحصل به التمييز.
وسببها طلب الشركاء أو أحدهم الانتفاع بحصته، وشرطها عدم فوت المنفعة، لذا نجد في سجلات المحاكم الشرعية دورًا كبيرًا للقسام، خاصةً في حالات التنازع أو المواريث أو بيع نصيب في عقار.
هذه الحالات تفيدنا كثيرًا في دراسة المجتمعات وتطور مفاهيمها واقتصادها، وتعكس طبيعة فقه العمران بها.
لذا كان القضاة يتخذون قسامًا من أهل الفقه والأمانة، حتى لا يميل بأخذ الرشوة إلى البعض، واشترط في القاسم أن يكون عدلًا أمينًا عالمًا، ويحصل القاسم على أجره من بيت المال، لأن القسمة من جنس عمل القضاء، حيث إنه يتم به قطع المنازعة فأشبه رزق القاضي، ولأن منفعة نصب القاسم تعم العامة، فيكون لكفايته في مالهم غرمًا بالغنم.
ولا ينبغي للقاضي أن يجبر الناس على أن يستأجروا قاسمًا، لأنه لو فعل ذلك لحكم القاسم على الناس، فإن اصطلحوا - يعني الشركاء - على قسمة غيره ولم يرجعوا إلى القاضي، فذلك جائز عليهم، لأن في القسمة معنى المعاوضة وتميّز الملك، فيثبت بالتراضي كسائر المعاوضات. فإن كان فيهم صغير
وغائب، لم تجُز القسمة على الاصطلاح بينهما، إلا أن يأمرهما القاضي بقسمتها، لأن سبب ثبوت ولاية القسمة هنا أمر القاضي، وللقاضي ولاية الحفظ من مال الصغير والغائب.
ويصور القاسم ما يقسم، أي ينبغي أن يصور ما يقسمه على القرطاس، ليمكنه حفظه أو تعديله، أي تسويته على سهام القسمة، ليعرف قدره ويقوّم بناءه، إذ ربما يحتاج إليه بالآخر، ويفرز كل قسم، أي يميزه عن البقية بطريقة، لئلا يكون لنصيب بعضهم تعلّقٌ بنصيب الآخر، فيتحقق معنى التمييز والإفراز على الكمال.
وقد شدد القاضي كامي على ضرورة قيام القاسم بتقويم البناء، وعلّل ذلك بأن قيمته أكثر من قيمة الساحة أي الأرض، وتقوم الأرض بالذراع والبناء بالقيمة، ويفرز كل نصيب عن الآخر، حتى تنقطع المنازعة على التمام، فيقول القاسم: هذا لك وهذا له وهذا للآخر.
- علم استنباط المياه: وهو علم تتعرف منه كيفية استخراج المياه الكامنة في الأرض وإظهارها، ومنفعته إحياء الأرضين الميتة وإفلاحها.
- علم جر الأثقال: هو علم تتبين منه كيفية جر الآلات الثقيلة، ومنفعته نقل الثقل العظيم بالقوة اليسيرة.
- علم البنكامات: هو علم تتبين منه كيفية إيجاد الآلات المقدرة للزمان، ومنفعته معرفة أوقات العبادات، واستخراج الطوالع من الكواكب وأجزاء فلك البروج.
لذا فقد أطلق على المهندس الذي يعمل في المجال التطبيقي «معمار»، وقد ذكر هذا اللقب على نقوش الآثار الإسلامية بدلالتين؛ إحداهما تطلق على المهندس أو البنّاء، والأخرى على من يتولى الإشراف على العمارة.
لذا، فإنه يجب التفريق بين المهندس المعماري، الذي يصمم المباني ويخططها، و«شاد العمائر»، الذي يتولى الإشراف على تنفيذ المشروعات المعمارية. وهي التفرقة الوظيفية التي ظهرت بوضوح خلال العصر المملوكي في مصر.
مهندس بالخدمة الشريفة
وقد يقوم بعض المهندسين - إضافةً إلى عملهم - بعمل شاد العمائر، أي يصبح هو المهندس المعماري مصمم المبنى، ويقوم - في الوقت نفسه - بالإشراف العام على العاملين في بنائه، يؤكد ذلك ما ذكره ابن إياس عن تجديد عمارة قبة الإمام الشافعي بأمر السلطان قايتباي في رمضان 885هـ، وكان شاد عمارتها الخواجا شمس الدين بن الزمن.
كان المهندس إذا التحق بالعمل في العمائر السلطانية لقب بـ «مهندس بالخدمة الشريفة». هذا اللقب يشير إلى مكانة المهندس في العصر المملوكي، والتي يؤكدها تعريف القلقشندي به بأنه «هو الذي يتولى ترتيب العمائر وتقديرها، ويحكم على أرباب صناعتها»، ومن الألقاب التي لُقب بها المهندس المعماري في العصر المملوكي، لقب «المعلم» وكان رئيس المهندسين يلقب بـ «معلّم المهندسين».
المعماريون
أطلقت الوثائق المملوكية على طائفة المعماريين «أرباب الخبرة المعمارية»، وخصّت المهندسين بالذكر من بين أفرادها، ويعد العصر المملوكي أبرز عصور الحضارة الإسلامية التي ازدهرت فيها العمارة كعلم وفن. أما وثائق العصر العثماني، فقد أطلقت عليهم «طائفة البنائين والمهندسين» أو «طائفة المعمارجية» أو طائفة المهندسين أو المعماريين، أو طائفة المعماريين.
ويأتي على قمة هرم الطائفة شيخُها، في حين يشكل النقباء وبقية الأعضاء جسم الهرم وقاعدته. كان شيخ الطائفة في العصر المملوكي يلقب بـ «كبير المعمارية» و«معلم المعمارية» ولقّب - أيضًا - بـ «معلم المعلمين» و«كبير المهندسين أو البنائين» أو «رئيس المهندسين»، أما وثائق العصر العثماني فأطلقت على كبير طائفة المعماريين لقب «شيخ المهندسين» أو «شيخ طائفة المهندسين بمصر»، ولقبته بعض الوثائق -أيضاً- بلقب «شيخ طائفة المهندسين والبنائين»، في حين لقبته وثائق أخرى بلقب «معمارجي باشا» أو معمار باشا» ومكانة المعمار باشا تشبه أو تعادل مكانة «كبير المعلمين» أو «رئيس المهندسين».
المعمار باشا المسؤول عن طائفة المعمارية وهو رئيسها، وهو وإن تشابه مع كبير المعلمين في العصر المملوكي من حيث وضعه على قمة هرم الطائفة وتوليه رئاستها، إلا أنه يختلف عنه من حيث المكانة الاجتماعية، فكبير المعلمين في العصر المملوكي كان ذا مكانة عالية لدى السلطان، لأنه هو الذي يشرف على بناء عمائره، بل إن السلطان برقوق لم يجد غضاضة في مصاهرة كبير مهندسيه أحمد بن الطولوني، فتزوج ابنته، وعلى الجانب الآخر، فإن المعمار باشا في الفترة العثمانية كان موظفًا حكوميًّا بسيطًا. ويبدو أنه في كثير من الحالات لم تكن لديه مهارات خاصة بشأن أعمال البناء أو العمارة، كان المعمار باشا في العصر المسؤول تشتمل طائفته على اثني عشر حرفة من حرف البناء، وتذكر الوثائق أن أعضاء طائفة المعمارية كانوا يختارون المعمار باشا لصفاته الحسنة، ولذلك كانوا يذهبون للقاضي يسألونه تنصيبه شيخًا عليهم، شريطة أن يحترم القواعد والقوانين والسنّة القديمة للطائفة، وكان القاضي يجيبهم إلى طلبهم، وبما أن أعضاء الطائفة لهم الحق في اختيار المعمار باشا، فإن لهم الحق - أيضًا - في عزله وتنصيب غيره في حالة مخالفته لما هو منوط به، يؤكد ذلك ما حدث في 13 من المحرم 1052هـ/ 1642م، حين تضرر المعلم أبوالنصر عمر بن محمد، الشهير بالدويك شيخ طائفة الدهانين، من خضوعهم لإشراف «معمار باشي» المتفرقة الأمير يوسف، وقدموا تظلمًا بهذا الشأن للقاضي، وحينما مَثَلَ المعمار باشي أمام القاضي، أخبره بأمر التظلم وما يحويه من شكاية الدهانين من خضوعهم له، فما كان منه إلا أن قدَّم للقاضي وثيقةً صادرةً من الباب العالي مؤرخة في 17 من المحرم 1037هـ/ 1637م، تثبت خضوع كل أرباب الصنائع العاملة في مجال البناء له، مثل المبيضين والجيّارين والنجارين والجباسين والحجارين والنحاتين والدهانين، ومن ثَمَّ حكم القاضي باستمرار خضوع أرباب تلك الحرف لإشراف المعمار باشي، فامتثل المعلم أبوالنصر عمر شيخ طائفة الدهانين ومن حضر معه من الدهانين، على ما جاء في الوثيقة، وقرروا عدم الخروج عن طاعة المعمار باشي.
الوثيقة السابقة بها إشارات مهمة عدة، أولها اصطفاف كل طوائف الحرف التي تعمل في حرف البناء تحت لواء المعمار باشي، ويعني هذا أن هذه الحرف كانت تعمل وفق أنظمة صارمة.
إنَّ هذا التنظيم يذكرنا بما كان متبعًا في الأندلس في المشروعات المعمارية، من هيمنة شيخ العرفاء على طوائف البنائين وتنظيمه لعملهم، على نحو ما يذكر ابن صاحب الصلاة حول بناء جامع وصومعة إشبيلية «وفي هذه السنة - أي سنة 567هـ - في شهر رمضان، ابتدأ أمير المؤمنين، ابن أمير المؤمنين، باختطاط موضع هذا الجامع، وأحضر على ذلك شيخ العرفاء أحمد بن باسة ومعهم عرفاء البنائين من أهل حضرة مراكش ومدينة فاس وأهل العدوة، فاجتمع بإشبيلية منهم من أصناف النجارين والنشارين والفعَلة لأصناف البناء أعداد من كل صنف، صناع مهرة من كل الأصناف».
البنَّاؤون
هو اسم لمن يحترف مهنة البناء؛ سواء بالحجر أو الطوب أو بغيرهما، وقد يمتد عمل البناء إلى نحت الأحجار وحفرها، وزخرفة الجدران والسقوف وكسوتها بالقاشاني، وربما إلى الهندسة المعمارية أيضًا.
وقد شاع في الوثائق إطلاق لقب معلّم على البنائين، وفي بعض الأحيان كان البنّاء يقوم بعمل المهندس، يصمم المبنى ثم يقوم ببنائه والإشراف عليه، ولعل النقش الذي عثر عليه بضريح الشيخ بايزيد المؤرخ بعام 702هـ/ 1303م يوضح ذلك، حيث ورد به «عمل محمد بن الحسين بن أبي طالب المهندس البناء الدمغاني وأخوه حاجي». يفهم من النص أن بعض المهندسين كان يزاول حرفة البناء، وربما كانوا في الأصل بنائين، ثم درسوا الهندسة، ووصلوا إلى مرتبة المهندسين.
وقد حفلت المخطوطات الإسلامية بالعديد من التصاوير المختلفة، التي صورت فيها عملية البناء بدقة وواقعية، فقد أظهرت هذه التصاوير أدق التفصيلات التي يمكن مشاهداتها أثناء تشييد أحد القصور أو القلاع أو البيوت أو حتى المساجد، التي لوحظ اهتمام الفنانين والمصورين بتصوير لحظة بنائها.
مراقبة الجودة
خضعت أعمال أفراد طوائف المعمار خلال العصر العثماني لإشراف دقيق من قبل المعمار باشي وشيوخ وعمد الطوائف، الذين كانوا مسؤولين جميعًا عن خروج العمل في أحسن صورة، وعندما تصل شكوى من صاحب البناء ضد أحد أفراد الطوائف المعمارية بسبب غشه في مواد البناء، أو عدم مراعاة أصول الصناعة، كان يذهب إلى محل العمل كبار رجال الطائفة ويعاينون العمل، وفي حالة ثبوت غش الصانع وعدم مراعاته لأصول وقواعد الصنعة كانت توقع عقوبة على الصانع، وفي هذا حادثة طريفة وردت في سجلات محكمة مصر القديمة تذكر قيام شيخ طائفة الدهانين المعلم سليمان بن شرف الدين ونقيب الطائفة المعلم عبدالجواد بن أحمد وعدد من عمد ومعلمي الطائفة بالكشف على أعمال الدهانات والكتابات والنقوش التي نفذت بدير الدهان بالمسجد الذي أنشاه الخواجا إبراهيم المنصوري بمصر القديمة، بعد أن تضرر الأخير من قيام الدهان المذكور بدهان سقف المسجد بألوان لم تكن لائقةً بقوام الصنعة، وهي عادمة النفع لا يمكث وليس به أساس مونة، وصاروا يقلعون الدهان الذي بالسقف، وهو ما يشير إلى أن من أصول الصنعة عمل طبقة أو بطانة أسفل الدهان، وبوضع الغراء على الكتابات والنقوش لتصبح أكثر تماسكًا .
شق الأنهار وتنقية القنوات وسد البثوق وتنضيد المساكن من علم عقود الأبنية
الهندسة الحسية هي التي ترى بالعين وتدرك باللمس كأعمال شق القنوات وعمارة المساكن والمساجد وغيرها