الجداريات متعة بصرية ضخمة

مع بزوغ شمس الحضارة البشرية، ظهرت رسوم الجداريات والنقوش الأثرية، المحفورة منها والملونة، تغطي جدران الكهوف والألواح الحجرية، ذات مواضيع عن الموت والطبيعة والصيد والرقص بالرماح والأقواس، وصور للحيوانات مثل الغزلان والثيران وغيرهما. ويعود أقدمها إلى 63000 سنة قد تم اكتشافها في جنوب إسبانيا، وترجع إلى الإنسان الأول النياندرتال (Neanderthal).
وفي يومنا هذا تلونت العواصم والمدن والأبنية حول العالم بنوع مميز من الفنون، وهو فن «الجرافيتي» أي فن الجداريات، وقد انتشر في الآونة الأخيرة في دول العالم العربي، ومنها دولة الكويت، ونجدها على جدران بعض الأبنية والجسور والمؤسسات والمجمعات السكنية أو التجارية، لإبراز جماليات للمنظر العام وتكون بديلاً عن الواجهات والمساحات الإسمنتية الفارغة والباهتة فتضفي بُعدًا جماليًا للمكان.
دلالات الكلمة
الجداريات كلمة متعددة التعاريف، والمعنى واحد، فهي تعبير حر بالرسم أو بالكتابة والزخرفة على الجدران الخاصة والعامة باستخدام أدوات خاصة بطريقة فنية معبرة، أي أنه كل ما يُرسم أو يشكل على جدار ثابت أو يعلق فوقه كجزء دائم من ديكور المبنى ككل. كما أنها تعد فرعًا من فروع التصوير الذي يتعامل مع زخرفة الجدران والأسقف بالمنشأة المعمارية، وتختلف في صلبه عن جميع أشكال فنون التصوير، لارتباطه واتصاله بفن العمارة.
الفن التعبيري الكتابي والزخرفي
ظهر في ستينيات القرن الماضي في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية مستلهموها من موسيقى الهيب هوب، لتُرسم على القطارات والأزقة والشوارع بشكل عشوائي وبحروف إنجليزية كبيرة وملونة، باستخدام البخاخات للدهان والرش والتلوين، إلا أنه مع مرور الوقت وازدياد العبارات الخادشة والمسيئة وظهور التواقيع التي تخص بعض الجماعات والعصابات والرسائل الشخصية، كان لابد من محاربة وردع لهذه الظاهرة لما تسببه من أضرار غير حضارية ومالية لإزالتها. فالأشخاص المجهولون يقومون غالبًا بالكتابات السياسية أو الاجتماعية أو العبث بكل شكل من أشكال الدعاية للفت الأنظار لقضية معينة من دون إذن مالك المنشأة، فإن عملهم يعتبر نوعًا من أنواع التخريب ومخالفًا للقوانين، ويعد اعتداءً على ممتلكات الآخرين، مما تترتب عليه المساءلة القانونية في معظم دول العالم.
وقد تم سَن العديد من القوانين والتشريعات التي نظمت إلى حد كبير عمليات التعبير الحر في الأماكن العامة، لترتقي إلى جماليات فنية يصحبها تطور تكنولوجي وتقني في دمج اللوحة الرقمية بالفن الجداري متعدد الأبعاد.
البناء التشكيلي للجدارية
يعد هذا الفن نوعًا من الفنون الحديثة بإدخال إضافات جديدة، فتم استخدام تقنيات ووسائط للتشكيل الجداري عند النحت على الجص أو الحجر، والتصوير بالتمبرا أو بالفريسكو واستخدام الموزاييك والفسيفساء أو الزجاج المعشق أو الميناء الزجاجية في البناء الجداري. وتختلف الاستخدامات حسب البيئات، فهي إما أن تكون نقوشاً داخلية في مكان مغلق كالمنزل أو قاعات وهيئات حكومية ومؤسسية متنوعة، أو خارجية، فتتأثر بالضوء والمناخ.
وأصبحت تستخدم فيه التقنية الرقمية للتصوير الجداري وهي لتنفيذ الرسومات على الحاسب الآلي عبر برامج معينة للرسم، ويتم إخراج صورتها النهائية بواسطة الطابعات الرقمية الضخمة، ومن أهم مميزاتها أنها ثنائية الأبعاد وثلاثية الأبعاد. ويمكن أن تصمم على شكل الهولوجراف أو بالليزر وكذلك بتشكيل الواقع الافتراضي.
الأنامل التطوعية الشبابية
في العالم المتطور المدني الحديث جدران إسمنتية ومعدنية وكتل صلبة كثيرة متروكة بكآبة منظرها وشكلها الباهت الباعث على الضيق، فحفز مجموعات شبابية تطوعية بالتعاون مع مؤسسات رسمية بدولة الكويت لوضع حد لهذا التلوث البصري، وإضفاء صورة جمالية على جدران مدنهم ومبانيها المعمارية العملاقة بالشكل القانوني الحضاري، لتكوَن بصمة لجيل واعد يمتلك من الفن والحرفية والإمكانيات، لإعادة إحياء تلك الملامح الرمادية لتكون قطعا فنية مبتكرة، تعكس معاني للثقافة والوطنية والروابط الاجتماعية في المجتمع، مستخدمين التراث الشعبي في دمج الأصالة مع التطور التكنولوجي.
وفي لقاء مع رئيس فريق جداريات التطوعي سليمان وليد الروضان، أوضح بدايات الفكرة، قائلاً: «من خلال كثرة أسفاري وجدت أن الأماكن التي فيها الجرافيتي دائمًا تستقطب السياح وتغير معلمًا من شيء مهمل، وأحيانًا بشع، إلى شيء جمالي يعجب الجمهور ويسعدهم ويجعلهم يتوافدون عليه ويقومون بتصويره لتوثيقه في ذكرياتهم. فخطر ببالي أنه لماذا لا يكون لدينا بالكويت شيء مشابه، فعملت على هذا الموضوع، وكان الهدف هو تغيير شكل المباني المساء استغلالها كالمهدمة منها والمهملة، وكذلك تلك التي تغطى جدرانها بعبارات سلبية، إلى فن جميل يسعد الناس». لزيادة الوعي العام حول التلوث البصري وتوصيل رسالة إيجابية للشباب بلوحات فنية معبرة ومحفزة وجميلة، تم العمل بأيدي طاقات فنية شبابية معنية بهذا النوع من الفن الجداري لتكتمل صورة المشهد الجمالي العام. فبالكويت هناك العديد من الشباب الذين يمارسون هذا الفن باحتراف ستريت آرت وجرافيتي. فكان من الضروري أن تتماشى رؤيتهم الجمالية للمباني والجدران مع النهضة الحضارية التي تشهدها البلاد وترسيخ معنى فنون الحائط لمكان يسيء استخدامها.
الانطلاقة الفعلية لفريق الجداريات
في شهر يناير من عام 2016 كانت انطلاقة فريق جداريات بهدف تزيين الجدران المساء استغلالها وتقليص التلوث البصري في البيئة العمرانية الكويتية، وإضافة لمسات جمالية للأماكن العامة، وتشجيع الفن والإبداع وخلق حلقة وصل بين الفنانين والمتطوعين الشباب من خلال إشراك المجتمع في التنمية الحضارية التي تشهدها البلاد. ويضيف الروضان: «عملنا مع 17 فنانًا منهم، وأغلبهم معروفون، وهناك منهم من وصل للعالمية في هذا المجال، مثل الأستاذ فريد العلي وهو خطاط، وكذلك جاسم النصرالله، والتوأمين أشكمان من لبنان، وآخرين».
كما حدثنا الروضان بأن للتخطيط لرسم جدارية كان يلزمهم البحث عن الموقع المراد العمل عليه، ومن ثم يباشرون بأخذ الموافقات من الملاك، سواء كانت جهة حكومية أو أصحاب البناية ذاتها، وتعقد بعدها جلسة تضم الفنانين في أجواء العصف الذهني لطرح ومناقشة ومقارنة ومقاربة الأفكار والرؤى بين الجميع لإيجاد التصور الأفضل الذي يتماشى مع المكان والمواد المراد تطبيق العمل الجداري عليها، ثم يبدأ الفنان بعمله.
وأضاف الروضان: «لدينا موافقة من وزارة الشؤون لنكون فريقًا تطوعيًا مسجلًا، وبالمستقبل قد نشهر جمعية خاصة. وتفاعل الجمهور معنا كان كبيرًا جدًا، فبمجرد أن نعلن عن مشروع جديد نجد الكثير يتجاوب معنا، ويتعاون القطاع الخاص معنا في الرؤية والمبالغ المالية». ردود أفعال المجتمع أتت إيجابية ومشجعة، حيث يشارك أفراد المجتمع في تنفيذ بعض المشاريع فور الإعلان عنها في الحساب الرسمي للفريق في وسائل التواصل الاجتماعي، وستكون الخطوة القادمة بالتوسع في المشاريع وبوتيرة أسرع، حتى ولو كانت مشاريع صغيرة الحجم، والأكيد أنها لن تتوقف.
رسالة سامية حملها الشباب بممارسة هواياتهم الفنية بنطاق واسع وبدعم مجتمعي عالي المستوى وبثقة كبيرة من المسؤولين، وبإقبال وتشجيع جماهيري كبير لاستغلال الجدران برسومات ذات بهجة وأخرى برسائل محفزة، تقدم معنى وقيمة للمجمتع .
الرسام أحمد العميري يقول إن تأثير الرسم في إيصال رسالة أيا كانت أقوى من تأثير الكلمات