فنجانُ قهوة!
«التصالحُ مع الذات هو السعادة»، هذا ما فكرتْ به وهي تعدُّ القهوةَ لتبدأَ طقوسها الصباحية، بقراءة الصحيفة ورقيًا كما تحب وليس من الشاشات الباردة؛ للورقِ رائحةُ الحياة، ترتشف فنجانها بامتنانٍ للهدوءِ والإحساس بالراحة، تتذكر صباحاتِ عمرِها الذي قضت منه ثمانيةً وعشرين عامًا في الوظيفة، كم ازدحمت بالمسؤوليات السريعة، وكم طاردها الوقتُ خاصة حينما كانت تصطحبُ أطفالها للحضانة؛ فإرضاع الصغير، وتغيير الحفاظة وغلي الرضاعات وتجهيز حقيبته، والإعداد لوجبة الغداء للطبخ بعد انتهاء الدوام؛ نقع الأرز بالماء الفاتر والملح، وإخراج اللحمة من الفريزر لتذوب... دوامة عاشتها كأيِّ امرأةٍ عاملةٍ تشبه من يتسلّقُ جبلاً وعلى كتفيه جبل.
وبعد أن كبرَ أبناؤها وتقلص وقت تلبية طلباتهم وقضاء حوائجهم بات فكرُها منشغلًا بهم أكثر؛ فالأبناء في سن المراهقة يتحولون لشخصيةٍ مختلفةٍ، يتمردون على السلطة ويبتعدون عن الحضن الدافئ الذي طالما كان ملاذهم... كانت الوظيفةُ مع ما تعطيه من مردودٍ معنوي ومادي تستهلكُ الكثير من طاقتها وتستنزف جهدَها ووقتها، والآن هي تعيشُ مرحلةَ التقاعد الذي طلبته بإرادتِها بعد أن اكتملتْ لديها القناعة بأنّ أوانه قد آن.
فنجانُ القهوةِ أمامها ما زالَ ساخنًا ترتشف منه على مهلٍ، تستطيبُه بعد الصباحات المتوالية، المسلوقة على عجل، للقهوةِ مذاقُ السكينة ونكهة الصباح، تتذكر كم فنجانِ قهوةٍ لسعَ لسانَها وهي تشربُه على عجلٍ وكم آخر تركته وهي تهرولُ للوظيفة وتشتهي أن تكملَ شربه، لتجده بعد رجوعها ينتظرها باردًا، تفكر بأنّ لها الحق في أن تستمتعَ بصباحات هادئة وتغير الروتين الذي استهلك سنواتِ شبابها، والذي لا شكّ في أنه أسهم في التأثير على علاقتها بأبنائها وتربيتهم؛ كم كانت متوترةً ومضغوطةً ومتعجلةً، وكم مرة عصبت عليهم وغابت عنها تفاصيلُهم العذبة وهي منشغلة بدوامة البيت والوظيفة، لكن هل عليها أن تندم أو تتحسر على ما مضى وكان؟ والوظيفة أعطتها الكثير وصقلت حياتها ووسعت مداركها، ثم هل العلاقة بين الأم غير العاملة التي غالبًا ما تكون ملولة بأفقٍ مغلقٍ بأفضل من الموظفة؟ ليس بالضرورة!
التربيةُ مسألةٌ معقدة تشبه الحياة، تخضع لمتغيراتٍ لا يمكن التكهن بها، وهي تحتملُ العثرات والأخطاء التي لا يمكن الوثوق بتجنّبها، ومدى الصحة فيها من الخطأ غيرُ مطلق... ياهٍ...! فنجانُ القهوة ما أطيبَه مع الأفكار التي تنثالُ في البال بهدوء نبع يروي النفسَ المتعطشةَ للسكينة!
ثمة أصواتٌ تتشابك داخلها تنهش سكينتَها «صدقيني؛ رايحة تملي... إنتِ مش متعودة عالقعدة... مبسوطة؟ هاي أولها بس بعدين...!». صوتٌ آخر: «لماذا لا تُعدّين المزيد من الأطعمة ما دمتِ بلا شغلة وبلا عملة! وتطلبين من يساعدك في تنظيف النوافذ؟ ما إنتِ قاعدة»! حتى عائلتها سريعة النسيان لتعبها، وتريد إعادةَ توظيفها في خدمةٍ غير مشروطة لطلباتها ومتطلباتها التي لا تنتهي!
تنفضُ رأسها كأنّها تبعدُ ما علقَ بذاكرتِها من كلمات الآخرين المُنغصة وأحكامهم المجحفة، الرشفةُ الأخيرةُ من فنجان القهوة لذيذةٌ وهي تصاحبُ ما تفكر به، هي متصالحة مع فكرةِ التقاعد، ولا تؤثرُ بها الكلماتُ، وتتهيأ لمواصلة السير في طريق الحياة تكتشف بدهشة طفلة تفاصيله الجديدة كلّ يوم جديد!.