شمس.. الوطن والمعرفة والعشق

«شمس أميرة عربيَّة عاشقة»، رواية لمحمَّد حسين بزّي صدرت أخيراً عن دار الأمير في بيروت. جاء، في أعلى غلاف الرّواية، أنَّ أحداث هذه الرّواية جرت «قبل 3000 سنة... وأكثر»، ما يثير سؤالا هو: لِمَ يعود بزّي، وهو باحث وشاعر وروائي وصاحب دار نشر، إلى تلك الأيّام الغابرة ليروي قصًّة عشق أميرة عربيًّة؟ ثم هل كانت توجد إمارة، أو مملكة، عربيًّة قبل هذه الآلاف من السنين، لتكون فيها أميرة عاشقة؟
في الإجابة عن هذين السُّؤالين، نعود إلى الرّواية، فنعرف أنّ «شمس» هو اسم الشخصيَّة الرَّئيسيَّة فيها؛ وهذا الاسم، كما هو معروف، علامة دالَّة على الجمال والنُّور والدّفء وجعل الحياة ممكنة على هذه الأرض.
وإذ تأخذ هذه الرّواية اســم هذه الأمــــيرة اسمًا لها، يرغب القارئ في معرفة هويَّة هذه الأميرة، وخصوصًا أنَّها وُصفت بـ «عربيَّة عاشقة»، وتجارب العشق العربيَّة تُحكى حكاياتها المشوّقة، وتُنظم فيها أشعار الغزل العفيف والمتحرّر.
ولكن، قبل ذلك، يبدو أنَّ هذا الاسم: شمس، يؤدّي دلالةً أخرى، يمكن التعرّف إليها إن عرفنا التجربة الحياتيَّة الأدبيّة التي أملت كتابة الرواية، فلنتخيَّل هذا المشهد الحواري لنعرف هذه التجربة:
- لم أفهم ما يقول هذا المتحدّث، من دون ترجمة. - من أنت؟ - عربي. - هكذا أنتم العرب لا تفهمون...، رعاة إبل وبدوٌ رحَّل.
- ما تقوله يدلُّ على أنَّك عنصري، ولا تفهم في أصول التعامل الاجتماعي...، وجاهل.
- جاهل! كيف!؟
- الرَّعي مرحلة من مراحل التّاريخ البشري، مرَّت بها جميع الشعوب، ومنها الشعب العربي، وكذلك البداوة، ثم انتقل هذا الشعب إلى مراحل أخرى، وأقام منارات حضاريَّة مزدهرة.
- أين!؟ وكيف!؟
انقطع الحوار، وجرى حوار آخر مع التَّاريخ، وتمَّت العودة إلى ما قبل 3000 سنة، أفضى هذا الحوار مع التَّاريخ، كما يقول المؤلّف، إلى أن تكتبه الرواية لا أن يكتبها، لتجيب عن ذينك السُّؤالين اللذين انتهى إليهما الحوار، كأّنها «شمس» تشرق بالمعرفة لتبدّد ظلام جهلٍ يتخبَّط فيه الكثيرون، ممَّن ينظرون إلى العرب، وخصوصًا قبل الإسلام، بوصفهم رعاة إبل وبدوًا يتنقَّلون في الصَّحراء. وهي - أي الرّواية - بهذه الدَّلالة، دالٌّ يتّخذ موقعًا في البنية المجتمعيَّة يؤدّي منه دورًا معرفيًّا في سياق قصّة عشق أميرة تشرق في مجتمعها كما تشرق الشمس في وسط السَّماء، إضافةً إلى قصّة عشقٍ وطنية تتمُّ فيها هزيمة الغزاة وتحرير الوطن.
وإذ ينتهي القارئ من قراءة الرّواية، يتبيَّن له أنَّها تحكي قصّة مقاومة عدوّين: أوّلهما خارجي غازٍ يريد احتلال الوطن ونهب ثرواته، وثانيهما داخلي يتمثّل في عمٍّ عُيّن وصيًّا على عرش ابن أخيه، وأراد أن يسلبه الملك. وينتهي الصّراع مع هذين العدوّين بالانتصار عليهما، وهو انتصار يُتوَّج، في نهاية الرّواية، بلقاء العاشقين وزواجهما.
معرفة تاريخية
الرّواية، إذًا، رواية تاريخيّة تقدّم معرفةً تاريخيًة بمملكةٍ عربيَّة هي مملكة «أوسان» في سياق قصَّة عشق وصراع وطني وسياسي وأخلاقي. وهي تأخذ مادّتها الأوّلية - التّاريخية من وقائع جرت في مملكة «أوسان القحطانية»، الواقعة في شبه الجزيرة العربيّة، وتذكر كتب التَّاريخ أنها وُجدت، قبل الإسلام بثلاثة آلاف سنة (ص10).
يتوفّى ملك هذه المملكة قبل أن يكمل ابنه، وليُّ عهده، السنّ (21 عامًا) التي تؤهّله لاعتلاء العرش، فيتولَّى أخوه «يشجب» الوصاية على المُلك. يعمل الوصيُّ، وهو كما تقدّمه الرّواية «طاغية جبًّار» وطمَّاع؛ على أن يؤول الملك إليه، فيواجهه الأمير الشَّاب: «مالك» الذي كانت تربطه علاقة حبٍّ بابنة عمّه «شمس»، بالصَّبر والحكمة، والاستعداد للمواجهة، في قلعة «تاريم» البعيدة عن العاصمة، والتي كان يقيم فيها يساعده في ذلك وزير والده «الصّاحب بن عبد مناة»، حكيم عصره.
يغزو الجيش الإثيوبيُّ المملكة ويجتاحها، ويحاصر عاصمتها «ذات البهاء». يتوفى الوصيُّ في هذه الأثناء. يقاوم الجيش والشعب الغزاة بما تيسَّر لهما. تؤدّي الأميرة «شمس» دورًا بطوليًا في مقاومة الغزاة. وإذ تُجرح، تغادر القصر، بصحبة معاونها القائد ماهر، وتقيم في الوادي الأخضر الجميل السّاحر، يساعدها قرد لطيف ذكي اسمه «نولان»، ثم يأتي الأمير مالك على رأس جيش جرَّار، ويحسم المعركة، ويتولّى الملك، وبعد أن تستقرَّ الأوضاع يبحث عن حبيبته الأميرة «شمس»، ويجدها، ويتزوَّجان.
هذه الرّواية، كما قلنا، رواية تاريخيَّة، وليست تأريخًا. والفرق، بين هذين النَّوعين من الكتابة يتمثّل في أنَّ مؤلّف الرّواية التاريخية يأخذ مادّتها الأوّلية، أو حكايتها، أو وقائعها، من التّاريخ. وهذه المادّة الأولية الحكاية يسمّيها النّقد السَّردي «المتن الرّوائي». يكتب المؤلّف «المتن الرّوائي» ليس كما يأخذه، وإنّما كما يشكّله من منظوره، أي أنَّه لا يكتبه كما هو وإنما كما يراه، فيقيم مبنىً روائيًا يصدر عن المتن الرّوائي ويغايره في آن، ليكون مبنىً متخيَّلًا مرجعه تاريخي، ولهذا ينبغي ألاَّ يتقيَّد «المبنى المتخيَّل» بحرفيّة التاريخ وألاَّ يزوّره في آن.
هذه مهمَّة شائكة من دون شكٍّ. تبدأ بخطوةٍ أولى هي اتخاذ موقع/ زاوية رؤية واختيار «بؤرة»، وهذا يسمَّى «التبئير»، أي اختيار الحيّز الذي سيتم اختيار المادَّة منه، ثم اختيار المادَّة، فما تكتبه الرّواية التاريخيّة ليس وقائع التاريخ جميعها، وإنَّما اختيار وقائع دالّة، بوصفها علامات دوالّ، من منظوره.
وقد كان واضحًا أن مؤلّف هذه الرّواية اختار من وقائع تاريخ «مملكة أوسان» الأيّام المهمَّة التي مرَّت بها. يقول الرَّاوي، لدى البدء بالقصّ: «الأيّام التي لا تمر مفعمةً بالكثير، لا تعدُّ من العمر» (ص13). إنه يكتب، إذًا، الأيّام التي تعدُّ من عمر «أوسان» وأبنائها، وهي أيّام صراعٍ مرير على المُلك، ومع الغازي المتوحّش، وهي أيَّام صراع بين الواجب الأبوي، من نحو أوَّل والحب والالتزام بالقيم الأخلاقيَّة من نحو ثانٍ، وهو صراع أوقع «شمس بين نارين».
جهد مميز
أتاح هذا الاختيار، للرَّاوي العليم الذي أُوكل إليه أداء القصّ، أن يقدّم، أولًا، معرفةً بالمملكة وحضارتها، على مختلف المستويات: موقع، طبيعة، عمارة، سياسة، زراعة، تجارة، صناعة، قيم،...، فنعرف، على سبيل المثال، أنَّ هذه المملكة تعتمد في معيشتها على تجارة البخور ومناجم الذَهب والفضَّة والنّحاس، وصناعة الغزل والأقمشة والأسلحة، وتجارة القوافل البرّية والبحريَّة، وصيد الأسماك والمرجان واللؤلؤ، والمحاصيل الزراعيّة والأعمال الحرفيَّة... (ص 29).
والواضح أنَّ المؤلّف بذل جهدًا كبيرًا في تحصيل المعرفة التاريخيّة المفصَّلة بالمعالم الحضاريّة لهذه المملكة العربيَّة وعلاقاتها، وثانيًا رسم الشخصيَّات التي وُضعت في مواقف كشفت هوياتها وصفاتها وأهدافها ومسار سعيها إلى تحقيق هذه الأهداف. وكان لافتًا الدَّور الذي أُعطي للقرد «نولان» الذي أدَّى دور العامل المساعد لـ «شمس» بكفاءة نادرة. وثالثًا التعريف بهويَّة الشخصيَّة العربيَّة، متمثلةً في الشَّعب العربي في مملكة «أوسان». فمن مكوّنات هذه الهويّة: التَّحضُّر، الالتزام بالقيم الإنسانيَّة العليا، البأس، الشجاعة، الوطنية، التضحية في سبيل تحرير الوطن وتنميته.
ثم تلي خطوة «التّبئير - الاختيار من منظور» خطوة أخرى هي نظم الوقائع المختارة في بناء روائي متخيَّل ينطق، بعد اكتمال تشكّله، بالرُّؤية التي تم انطلاق الكتابة منها.
والرّواية هذه تتخذ البناء الرّوائي المتخيَّل الذي أُنيط به تقديم المعرفة التاريخيّة المشرقة كما الشمس. وهذا البناء هو بناء خطّي خيطي يتألّف من فصول ينتهي كلٌّ منها بموقف مشوّق، كما في الفصل الأوَّل الذي ينتهي بأسئلة، منها: متى يأتي يوم الخلاص؟
يُقطع هذا السّياق بالوصف الموظَّف، كما في قول الرَّاوي، على سبيل المثال، لدى مغادرة الأميرة «شمس» قصرها المحاصر: «أقفلت الشمس هاربةً نحو خدرها، فاحمرَّ وجه السَّماء، واصفرّت أطرافها، وهي تشيّعها كمن يودّع عزيزًا عليه متمنّيًا ألا يغادره...» (ص 149)، فالطَّبيعة الموصوفة تمثّل فضاء لوعة خروج الأميرة وفراقها، وفي هذا الفضاء الرّوائي تجري الأحداث.
يرتدُّ هذا البناء الخيطي المتشكّل في الحاضر، في بعض الحالات، إلى الماضي، فيتكسّر بالاسترجاع، كما في قول الرَّاوي، على سبيل المثال: «ثم هوت عليه صور الذَّاكرة، في أيّام الطفولة، عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، وكان ينافس شمس في ركوب الخيل، ويسابقها على صهواتها بين المروج الخضراء في أرياف ذات البهاء» (ص 40). وهذا الاسترجاع موظَّف في بيان عمق علاقة الحبّ، وفي كشف شخصيَّة العم الذي يريد فصم هذه العلاقة، بعد أن قرَّر اغتصاب الملك.
أسماء دالة
بقي أن نلاحظ أنَّ أسماء الشَّخصيات دالَّة، فإضافة إلى دلالة «شمس»، كما ذكرنا آنفًا، نذكر دلالة مالك على الملك، و«يشجب» على الشَّجب، و«الصَّاحب» على الصُّحبة، و«ترهاقا» على الإرهاق، و«ماهر» على المهارة، و«ذات البهاء» على الجمال المتميّز.
كما نلاحظ أن لغة هذه الرّاوية سليمة، معجمها اللغوي مأخوذ من لغة الحياة اليوميَّة المألوفة، وجملها سهلة التركيب، لا تخلو من انزياحات كما في العبارة الآتية الدَّالة على صعوبة الوصول إلى الهدف: «... كلُّ هذا لأني حسبتها، لوقتٍ قريب، محاولات تسلُّق لجدران ملساء» (ص6).
وفي الختام، يمكن القول: شمس رواية تاريخيَّة تتّخذ بناءً روائيًا خيطيًّا يتقطَّع بالوصف، ويتكسَّر، أحيانًا، بالاسترجاع، متخيّلًا، ينطق بدلالة كاشفة، فيشرق بنور معرفةٍ كما الشّمس، يقول الراوي: «هكذا، سطعت شمس «أوسان»، وصارت ذات البهاء مشرقة دافئة»، (ص296). ما يثير سؤالًا هو: لمَ لا يتمُّ البحث والتنقيب عن هذا التَّاريخ في بطون الكتب وفي باطن الأرض؟!