شمس.. الوطن والمعرفة والعشق

شمس.. الوطن والمعرفة والعشق

‮«‬شمس‭ ‬أميرة‭ ‬عربيَّة‭ ‬عاشقة‮»‬،‭ ‬رواية‭ ‬لمحمَّد‭ ‬حسين‭ ‬بزّي‭ ‬صدرت‭ ‬أخيراً‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الأمير‭ ‬في‭ ‬بيروت‭. ‬جاء،‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬غلاف‭ ‬الرّواية،‭ ‬أنَّ‭ ‬أحداث‭ ‬هذه‭ ‬الرّواية‭ ‬جرت‭ ‬‮«‬قبل‭ ‬3000‭ ‬سنة‭... ‬وأكثر‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬سؤالا‭ ‬هو‭: ‬لِمَ‭ ‬يعود‭ ‬بزّي،‭ ‬وهو‭ ‬باحث‭ ‬وشاعر‭  ‬وروائي‭ ‬وصاحب‭ ‬دار‭ ‬نشر،‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأيّام‭ ‬الغابرة‭ ‬ليروي‭ ‬قصًّة‭ ‬عشق‭ ‬أميرة‭ ‬عربيًّة؟‭ ‬ثم‭ ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬توجد‭ ‬إمارة،‭ ‬أو‭ ‬مملكة،‭ ‬عربيًّة‭ ‬قبل‭ ‬هذه‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬السنين،‭ ‬لتكون‭ ‬فيها‭ ‬أميرة‭ ‬عاشقة؟

في‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذين‭ ‬السُّؤالين،‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬الرّواية،‭ ‬فنعرف‭ ‬أنّ‭ ‬‮«‬شمس‮»‬‭ ‬هو‭ ‬اسم‭ ‬الشخصيَّة‭ ‬الرَّئيسيَّة‭ ‬فيها؛‭ ‬وهذا‭ ‬الاسم،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬علامة‭ ‬دالَّة‭ ‬على‭ ‬الجمال‭ ‬والنُّور‭ ‬والدّفء‭ ‬وجعل‭ ‬الحياة‭ ‬ممكنة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭.‬

وإذ‭ ‬تأخذ‭ ‬هذه‭ ‬الرّواية‭ ‬اســم‭ ‬هذه‭ ‬الأمــــيرة‭ ‬اسمًا‭ ‬لها،‭ ‬يرغب‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬هويَّة‭ ‬هذه‭ ‬الأميرة،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬أنَّها‭ ‬وُصفت‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬عربيَّة‭ ‬عاشقة‮»‬،‭ ‬وتجارب‭ ‬العشق‭ ‬العربيَّة‭ ‬تُحكى‭ ‬حكاياتها‭ ‬المشوّقة،‭ ‬وتُنظم‭ ‬فيها‭ ‬أشعار‭ ‬الغزل‭ ‬العفيف‭ ‬والمتحرّر‭.‬

ولكن،‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬يبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭: ‬شمس،‭ ‬يؤدّي‭ ‬دلالةً‭ ‬أخرى،‭ ‬يمكن‭ ‬التعرّف‭ ‬إليها‭ ‬إن‭ ‬عرفنا‭ ‬التجربة‭ ‬الحياتيَّة‭ ‬الأدبيّة‭ ‬التي‭ ‬أملت‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية،‭ ‬فلنتخيَّل‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬الحواري‭ ‬لنعرف‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭:‬

‭- ‬لم‭ ‬أفهم‭ ‬ما‭ ‬يقول‭ ‬هذا‭ ‬المتحدّث،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ترجمة‭. - ‬من‭ ‬أنت؟‭ - ‬عربي‭. - ‬هكذا‭ ‬أنتم‭ ‬العرب‭ ‬لا‭ ‬تفهمون‭...‬،‭ ‬رعاة‭ ‬إبل‭ ‬وبدوٌ‭ ‬رحَّل‭.‬

‭ - ‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬يدلُّ‭ ‬على‭ ‬أنَّك‭ ‬عنصري،‭ ‬ولا‭ ‬تفهم‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬التعامل‭ ‬الاجتماعي‭...‬،‭ ‬وجاهل‭.‬

‭ - ‬جاهل‭! ‬كيف‭!‬؟‭ ‬

‭- ‬الرَّعي‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬التّاريخ‭ ‬البشري،‭ ‬مرَّت‭ ‬بها‭ ‬جميع‭ ‬الشعوب،‭ ‬ومنها‭ ‬الشعب‭ ‬العربي،‭ ‬وكذلك‭ ‬البداوة،‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬إلى‭ ‬مراحل‭ ‬أخرى،‭ ‬وأقام‭ ‬منارات‭ ‬حضاريَّة‭ ‬مزدهرة‭.‬

‭ - ‬أين‭!‬؟‭ ‬وكيف‭!‬؟

انقطع‭ ‬الحوار،‭ ‬وجرى‭ ‬حوار‭ ‬آخر‭ ‬مع‭ ‬التَّاريخ،‭ ‬وتمَّت‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬3000‭ ‬سنة،‭ ‬أفضى‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬التَّاريخ،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المؤلّف،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكتبه‭ ‬الرواية‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يكتبها،‭ ‬لتجيب‭ ‬عن‭ ‬ذينك‭ ‬السُّؤالين‭ ‬اللذين‭ ‬انتهى‭ ‬إليهما‭ ‬الحوار،‭ ‬كأّنها‭ ‬‮«‬شمس‮»‬‭ ‬تشرق‭ ‬بالمعرفة‭ ‬لتبدّد‭ ‬ظلام‭ ‬جهلٍ‭ ‬يتخبَّط‭ ‬فيه‭ ‬الكثيرون،‭ ‬ممَّن‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬العرب،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬بوصفهم‭ ‬رعاة‭ ‬إبل‭ ‬وبدوًا‭ ‬يتنقَّلون‭ ‬في‭ ‬الصَّحراء‭. ‬وهي‭ - ‬أي‭ ‬الرّواية‭ - ‬بهذه‭ ‬الدَّلالة،‭ ‬دالٌّ‭ ‬يتّخذ‭ ‬موقعًا‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬المجتمعيَّة‭ ‬يؤدّي‭ ‬منه‭ ‬دورًا‭ ‬معرفيًّا‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬قصّة‭ ‬عشق‭ ‬أميرة‭ ‬تشرق‭ ‬في‭ ‬مجتمعها‭ ‬كما‭ ‬تشرق‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬السَّماء،‭ ‬إضافةً‭ ‬إلى‭ ‬قصّة‭ ‬عشقٍ‭ ‬وطنية‭ ‬تتمُّ‭ ‬فيها‭ ‬هزيمة‭ ‬الغزاة‭ ‬وتحرير‭ ‬الوطن‭.‬

وإذ‭ ‬ينتهي‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الرّواية،‭ ‬يتبيَّن‭ ‬له‭ ‬أنَّها‭ ‬تحكي‭ ‬قصّة‭ ‬مقاومة‭ ‬عدوّين‭: ‬أوّلهما‭ ‬خارجي‭ ‬غازٍ‭ ‬يريد‭ ‬احتلال‭ ‬الوطن‭ ‬ونهب‭ ‬ثرواته،‭ ‬وثانيهما‭ ‬داخلي‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬عمٍّ‭ ‬عُيّن‭ ‬وصيًّا‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬ابن‭ ‬أخيه،‭ ‬وأراد‭ ‬أن‭ ‬يسلبه‭ ‬الملك‭. ‬وينتهي‭ ‬الصّراع‭ ‬مع‭ ‬هذين‭ ‬العدوّين‭ ‬بالانتصار‭ ‬عليهما،‭ ‬وهو‭ ‬انتصار‭ ‬يُتوَّج،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الرّواية،‭ ‬بلقاء‭ ‬العاشقين‭ ‬وزواجهما‭.‬

 

معرفة‭ ‬تاريخية

الرّواية،‭ ‬إذًا،‭ ‬رواية‭ ‬تاريخيّة‭ ‬تقدّم‭ ‬معرفةً‭ ‬تاريخيًة‭ ‬بمملكةٍ‭ ‬عربيَّة‭ ‬هي‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬أوسان‮»‬‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬قصَّة‭ ‬عشق‭ ‬وصراع‭ ‬وطني‭ ‬وسياسي‭ ‬وأخلاقي‭. ‬وهي‭ ‬تأخذ‭ ‬مادّتها‭ ‬الأوّلية‭ - ‬التّاريخية‭ ‬من‭ ‬وقائع‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬أوسان‭ ‬القحطانية‮»‬،‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربيّة،‭ ‬وتذكر‭ ‬كتب‭ ‬التَّاريخ‭ ‬أنها‭ ‬وُجدت،‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬بثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬سنة‭ (‬ص10‭).‬

يتوفّى‭ ‬ملك‭ ‬هذه‭ ‬المملكة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكمل‭ ‬ابنه،‭ ‬وليُّ‭ ‬عهده،‭ ‬السنّ‭ (‬21‭ ‬عامًا‭) ‬التي‭ ‬تؤهّله‭ ‬لاعتلاء‭ ‬العرش،‭ ‬فيتولَّى‭ ‬أخوه‭ ‬‮«‬يشجب‮»‬‭ ‬الوصاية‭ ‬على‭ ‬المُلك‭. ‬يعمل‭ ‬الوصيُّ،‭ ‬وهو‭ ‬كما‭ ‬تقدّمه‭ ‬الرّواية‭ ‬‮«‬طاغية‭ ‬جبًّار‮»‬‭ ‬وطمَّاع؛‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يؤول‭ ‬الملك‭ ‬إليه،‭ ‬فيواجهه‭ ‬الأمير‭ ‬الشَّاب‭: ‬‮«‬مالك‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تربطه‭ ‬علاقة‭ ‬حبٍّ‭ ‬بابنة‭ ‬عمّه‭ ‬‮«‬شمس‮»‬،‭ ‬بالصَّبر‭ ‬والحكمة،‭ ‬والاستعداد‭ ‬للمواجهة،‭ ‬في‭ ‬قلعة‭ ‬‮«‬تاريم‮»‬‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬العاصمة،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬فيها‭ ‬يساعده‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬وزير‭ ‬والده‭ ‬‮«‬الصّاحب‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬مناة‮»‬،‭ ‬حكيم‭ ‬عصره‭.‬

يغزو‭ ‬الجيش‭ ‬الإثيوبيُّ‭ ‬المملكة‭ ‬ويجتاحها،‭ ‬ويحاصر‭ ‬عاصمتها‭ ‬‮«‬ذات‭ ‬البهاء‮»‬‭. ‬يتوفى‭ ‬الوصيُّ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء‭. ‬يقاوم‭ ‬الجيش‭ ‬والشعب‭ ‬الغزاة‭ ‬بما‭ ‬تيسَّر‭ ‬لهما‭. ‬تؤدّي‭ ‬الأميرة‭ ‬‮«‬شمس‮»‬‭ ‬دورًا‭ ‬بطوليًا‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬الغزاة‭. ‬وإذ‭ ‬تُجرح،‭ ‬تغادر‭ ‬القصر،‭ ‬بصحبة‭ ‬معاونها‭ ‬القائد‭ ‬ماهر،‭ ‬وتقيم‭ ‬في‭ ‬الوادي‭ ‬الأخضر‭ ‬الجميل‭ ‬السّاحر،‭ ‬يساعدها‭ ‬قرد‭ ‬لطيف‭ ‬ذكي‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬نولان‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬الأمير‭ ‬مالك‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬جيش‭ ‬جرَّار،‭ ‬ويحسم‭ ‬المعركة،‭ ‬ويتولّى‭ ‬الملك،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تستقرَّ‭ ‬الأوضاع‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬حبيبته‭ ‬الأميرة‭ ‬‮«‬شمس‮»‬،‭ ‬ويجدها،‭ ‬ويتزوَّجان‭.‬

هذه‭ ‬الرّواية،‭ ‬كما‭ ‬قلنا،‭ ‬رواية‭ ‬تاريخيَّة،‭ ‬وليست‭ ‬تأريخًا‭. ‬والفرق،‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬النَّوعين‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬أنَّ‭ ‬مؤلّف‭ ‬الرّواية‭ ‬التاريخية‭ ‬يأخذ‭ ‬مادّتها‭ ‬الأوّلية،‭ ‬أو‭ ‬حكايتها،‭ ‬أو‭ ‬وقائعها،‭ ‬من‭ ‬التّاريخ‭. ‬وهذه‭ ‬المادّة‭ ‬الأولية‭ ‬الحكاية‭ ‬يسمّيها‭ ‬النّقد‭ ‬السَّردي‭ ‬‮«‬المتن‭ ‬الرّوائي‮»‬‭. ‬يكتب‭ ‬المؤلّف‭ ‬‮«‬المتن‭ ‬الرّوائي‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬كما‭ ‬يأخذه،‭ ‬وإنّما‭ ‬كما‭ ‬يشكّله‭ ‬من‭ ‬منظوره،‭ ‬أي‭ ‬أنَّه‭ ‬لا‭ ‬يكتبه‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬وإنما‭ ‬كما‭ ‬يراه،‭ ‬فيقيم‭ ‬مبنىً‭ ‬روائيًا‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬المتن‭ ‬الرّوائي‭ ‬ويغايره‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬ليكون‭ ‬مبنىً‭ ‬متخيَّلًا‭ ‬مرجعه‭ ‬تاريخي،‭ ‬ولهذا‭ ‬ينبغي‭ ‬ألاَّ‭ ‬يتقيَّد‭ ‬‮«‬المبنى‭ ‬المتخيَّل‮»‬‭ ‬بحرفيّة‭ ‬التاريخ‭ ‬وألاَّ‭ ‬يزوّره‭ ‬في‭ ‬آن‭.‬

هذه‭ ‬مهمَّة‭ ‬شائكة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شكٍّ‭. ‬تبدأ‭ ‬بخطوةٍ‭ ‬أولى‭ ‬هي‭ ‬اتخاذ‭ ‬موقع‭/ ‬زاوية‭ ‬رؤية‭ ‬واختيار‭ ‬‮«‬بؤرة‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬يسمَّى‭ ‬‮«‬التبئير‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬اختيار‭ ‬الحيّز‭ ‬الذي‭ ‬سيتم‭ ‬اختيار‭ ‬المادَّة‭ ‬منه،‭ ‬ثم‭ ‬اختيار‭ ‬المادَّة،‭ ‬فما‭ ‬تكتبه‭ ‬الرّواية‭ ‬التاريخيّة‭ ‬ليس‭ ‬وقائع‭ ‬التاريخ‭ ‬جميعها،‭ ‬وإنَّما‭ ‬اختيار‭ ‬وقائع‭ ‬دالّة،‭ ‬بوصفها‭ ‬علامات‭ ‬دوالّ،‭ ‬من‭ ‬منظوره‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬مؤلّف‭ ‬هذه‭ ‬الرّواية‭ ‬اختار‭ ‬من‭ ‬وقائع‭ ‬تاريخ‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬أوسان‮»‬‭ ‬الأيّام‭ ‬المهمَّة‭ ‬التي‭ ‬مرَّت‭ ‬بها‭. ‬يقول‭ ‬الرَّاوي،‭ ‬لدى‭ ‬البدء‭ ‬بالقصّ‭: ‬‮«‬الأيّام‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تمر‭ ‬مفعمةً‭ ‬بالكثير،‭ ‬لا‭ ‬تعدُّ‭ ‬من‭ ‬العمر‮»‬‭ (‬ص13‭). ‬إنه‭ ‬يكتب،‭ ‬إذًا،‭ ‬الأيّام‭ ‬التي‭ ‬تعدُّ‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬‮«‬أوسان‮»‬‭ ‬وأبنائها،‭ ‬وهي‭ ‬أيّام‭ ‬صراعٍ‭ ‬مرير‭ ‬على‭ ‬المُلك،‭ ‬ومع‭ ‬الغازي‭ ‬المتوحّش،‭ ‬وهي‭ ‬أيَّام‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬الواجب‭ ‬الأبوي،‭ ‬من‭ ‬نحو‭ ‬أوَّل‭ ‬والحب‭ ‬والالتزام‭ ‬بالقيم‭ ‬الأخلاقيَّة‭ ‬من‭ ‬نحو‭ ‬ثانٍ،‭ ‬وهو‭ ‬صراع‭ ‬أوقع‭ ‬‮«‬شمس‭ ‬بين‭ ‬نارين‮»‬‭.‬

 

جهد‭ ‬مميز

أتاح‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار،‭ ‬للرَّاوي‭ ‬العليم‭ ‬الذي‭ ‬أُوكل‭ ‬إليه‭ ‬أداء‭ ‬القصّ،‭ ‬أن‭ ‬يقدّم،‭ ‬أولًا،‭ ‬معرفةً‭ ‬بالمملكة‭ ‬وحضارتها،‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المستويات‭: ‬موقع،‭ ‬طبيعة،‭ ‬عمارة،‭ ‬سياسة،‭ ‬زراعة،‭ ‬تجارة،‭ ‬صناعة،‭ ‬قيم،‭...‬،‭ ‬فنعرف،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬المملكة‭ ‬تعتمد‭ ‬في‭ ‬معيشتها‭ ‬على‭ ‬تجارة‭ ‬البخور‭ ‬ومناجم‭ ‬الذَهب‭ ‬والفضَّة‭ ‬والنّحاس،‭ ‬وصناعة‭ ‬الغزل‭ ‬والأقمشة‭ ‬والأسلحة،‭ ‬وتجارة‭ ‬القوافل‭ ‬البرّية‭ ‬والبحريَّة،‭ ‬وصيد‭ ‬الأسماك‭ ‬والمرجان‭ ‬واللؤلؤ،‭ ‬والمحاصيل‭ ‬الزراعيّة‭ ‬والأعمال‭ ‬الحرفيَّة‭... (‬ص‭ ‬29‭).‬

والواضح‭ ‬أنَّ‭ ‬المؤلّف‭ ‬بذل‭ ‬جهدًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬تحصيل‭ ‬المعرفة‭ ‬التاريخيّة‭ ‬المفصَّلة‭ ‬بالمعالم‭ ‬الحضاريّة‭ ‬لهذه‭ ‬المملكة‭ ‬العربيَّة‭ ‬وعلاقاتها،‭ ‬وثانيًا‭ ‬رسم‭ ‬الشخصيَّات‭ ‬التي‭ ‬وُضعت‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬كشفت‭ ‬هوياتها‭ ‬وصفاتها‭ ‬وأهدافها‭ ‬ومسار‭ ‬سعيها‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭. ‬وكان‭ ‬لافتًا‭ ‬الدَّور‭ ‬الذي‭ ‬أُعطي‭ ‬للقرد‭ ‬‮«‬نولان‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أدَّى‭ ‬دور‭ ‬العامل‭ ‬المساعد‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬شمس‮»‬‭ ‬بكفاءة‭ ‬نادرة‭. ‬وثالثًا‭ ‬التعريف‭ ‬بهويَّة‭ ‬الشخصيَّة‭ ‬العربيَّة،‭ ‬متمثلةً‭ ‬في‭ ‬الشَّعب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬أوسان‮»‬‭. ‬فمن‭ ‬مكوّنات‭ ‬هذه‭ ‬الهويّة‭: ‬التَّحضُّر،‭ ‬الالتزام‭ ‬بالقيم‭ ‬الإنسانيَّة‭ ‬العليا،‭ ‬البأس،‭ ‬الشجاعة،‭ ‬الوطنية،‭ ‬التضحية‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تحرير‭ ‬الوطن‭ ‬وتنميته‭.‬

ثم‭ ‬تلي‭ ‬خطوة‭ ‬‮«‬التّبئير‭ - ‬الاختيار‭ ‬من‭ ‬منظور‮»‬‭ ‬خطوة‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ ‬نظم‭ ‬الوقائع‭ ‬المختارة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬روائي‭ ‬متخيَّل‭ ‬ينطق،‭ ‬بعد‭ ‬اكتمال‭ ‬تشكّله،‭ ‬بالرُّؤية‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬انطلاق‭ ‬الكتابة‭ ‬منها‭.‬

والرّواية‭ ‬هذه‭ ‬تتخذ‭ ‬البناء‭ ‬الرّوائي‭ ‬المتخيَّل‭ ‬الذي‭ ‬أُنيط‭ ‬به‭ ‬تقديم‭ ‬المعرفة‭ ‬التاريخيّة‭ ‬المشرقة‭ ‬كما‭ ‬الشمس‭. ‬وهذا‭ ‬البناء‭ ‬هو‭ ‬بناء‭ ‬خطّي‭ ‬خيطي‭ ‬يتألّف‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬ينتهي‭ ‬كلٌّ‭ ‬منها‭ ‬بموقف‭ ‬مشوّق،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأوَّل‭ ‬الذي‭ ‬ينتهي‭ ‬بأسئلة،‭ ‬منها‭: ‬متى‭ ‬يأتي‭ ‬يوم‭ ‬الخلاص؟

يُقطع‭ ‬هذا‭ ‬السّياق‭ ‬بالوصف‭ ‬الموظَّف،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬الرَّاوي،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬لدى‭ ‬مغادرة‭ ‬الأميرة‭ ‬‮«‬شمس‮»‬‭ ‬قصرها‭ ‬المحاصر‭: ‬‮«‬أقفلت‭ ‬الشمس‭ ‬هاربةً‭ ‬نحو‭ ‬خدرها،‭ ‬فاحمرَّ‭ ‬وجه‭ ‬السَّماء،‭ ‬واصفرّت‭ ‬أطرافها،‭ ‬وهي‭ ‬تشيّعها‭ ‬كمن‭ ‬يودّع‭ ‬عزيزًا‭ ‬عليه‭ ‬متمنّيًا‭ ‬ألا‭ ‬يغادره‭...‬‮»‬‭ (‬ص‭ ‬149‭)‬،‭ ‬فالطَّبيعة‭ ‬الموصوفة‭ ‬تمثّل‭ ‬فضاء‭ ‬لوعة‭ ‬خروج‭ ‬الأميرة‭ ‬وفراقها،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬الرّوائي‭ ‬تجري‭ ‬الأحداث‭.‬

يرتدُّ‭ ‬هذا‭ ‬البناء‭ ‬الخيطي‭ ‬المتشكّل‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحالات،‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬فيتكسّر‭ ‬بالاسترجاع،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬الرَّاوي،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬‮«‬ثم‭ ‬هوت‭ ‬عليه‭ ‬صور‭ ‬الذَّاكرة،‭ ‬في‭ ‬أيّام‭ ‬الطفولة،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬وكان‭ ‬ينافس‭  ‬شمس‭ ‬في‭ ‬ركوب‭ ‬الخيل،‭ ‬ويسابقها‭ ‬على‭ ‬صهواتها‭ ‬بين‭ ‬المروج‭ ‬الخضراء‭ ‬في‭ ‬أرياف‭ ‬ذات‭ ‬البهاء‮»‬‭ (‬ص‭ ‬40‭). ‬وهذا‭ ‬الاسترجاع‭ ‬موظَّف‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬عمق‭ ‬علاقة‭ ‬الحبّ،‭ ‬وفي‭ ‬كشف‭ ‬شخصيَّة‭ ‬العم‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬فصم‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرَّر‭ ‬اغتصاب‭ ‬الملك‭.‬

 

أسماء‭ ‬دالة

بقي‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬أنَّ‭ ‬أسماء‭ ‬الشَّخصيات‭ ‬دالَّة،‭ ‬فإضافة‭ ‬إلى‭ ‬دلالة‭ ‬‮«‬شمس‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬آنفًا،‭ ‬نذكر‭ ‬دلالة‭ ‬مالك‭ ‬على‭ ‬الملك،‭ ‬و‮«‬يشجب‮»‬‭ ‬على‭ ‬الشَّجب،‭ ‬و«الصَّاحب‮»‬‭ ‬على‭ ‬الصُّحبة،‭ ‬و«ترهاقا‮»‬‭ ‬على‭ ‬الإرهاق،‭ ‬و«ماهر‮»‬‭ ‬على‭ ‬المهارة،‭ ‬و«ذات‭ ‬البهاء‮»‬‭ ‬على‭ ‬الجمال‭ ‬المتميّز‭.‬

كما‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬لغة‭ ‬هذه‭ ‬الرّاوية‭ ‬سليمة،‭ ‬معجمها‭ ‬اللغوي‭ ‬مأخوذ‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬الحياة‭ ‬اليوميَّة‭ ‬المألوفة،‭ ‬وجملها‭ ‬سهلة‭ ‬التركيب،‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬انزياحات‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬العبارة‭ ‬الآتية‭ ‬الدَّالة‭ ‬على‭ ‬صعوبة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الهدف‭: ‬‮«‬‭... ‬كلُّ‭ ‬هذا‭ ‬لأني‭ ‬حسبتها،‭ ‬لوقتٍ‭ ‬قريب،‭ ‬محاولات‭ ‬تسلُّق‭ ‬لجدران‭ ‬ملساء‮»‬‭ (‬ص6‭).‬

وفي‭ ‬الختام،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭: ‬شمس‭ ‬رواية‭ ‬تاريخيَّة‭ ‬تتّخذ‭ ‬بناءً‭ ‬روائيًا‭ ‬خيطيًّا‭ ‬يتقطَّع‭ ‬بالوصف،‭ ‬ويتكسَّر،‭ ‬أحيانًا،‭ ‬بالاسترجاع،‭ ‬متخيّلًا،‭ ‬ينطق‭ ‬بدلالة‭ ‬كاشفة،‭ ‬فيشرق‭ ‬بنور‭ ‬معرفةٍ‭ ‬كما‭ ‬الشّمس،‭ ‬يقول‭ ‬الراوي‭: ‬‮«‬هكذا،‭ ‬سطعت‭ ‬شمس‭ ‬‮«‬أوسان‮»‬،‭ ‬وصارت‭ ‬ذات‭ ‬البهاء‭ ‬مشرقة‭ ‬دافئة‮»‬،‭ (‬ص296‭). ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬سؤالًا‭ ‬هو‭: ‬لمَ‭ ‬لا‭ ‬يتمُّ‭ ‬البحث‭ ‬والتنقيب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التَّاريخ‭ ‬في‭ ‬بطون‭ ‬الكتب‭ ‬وفي‭ ‬باطن‭ ‬الأرض؟‭!‬