المسافة الجمالية: حدود المفهوم والتطبيق في النص الشعري

المسافة الجمالية: حدود المفهوم والتطبيق في النص الشعري

 

 يشير مفهوم «المسافة» أو «التباعد» بالصياغة البريختية، سواء بالنسبة للسارد أو المتلقي، حسب باتريس بافيس إلى أنها «موقف المتلقي من العمل الفني أو الأدبي حين يبدو له العرض خارجيًا بشكل تام. وحيث لا يشعر بأنه منغمس فيه عاطفيًا. وحيث لا ينسى أبدًا أنه موجود أمام قصة خيالية. وبشكل أكثر تعميمًا، فالمسافة هي ملَكة استعمال الحُكم النقدي وعدم الاستسلام إلى الوهم». 

 

‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬احتياطي‭ ‬العاج‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬محمد‭ ‬السرغيني،‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬بوسعي‭ ‬أن‭ ‬أتقمص،‭ ‬هنا‭ ‬ضمن‭ ‬سياق‭ ‬التلقي‭ ‬واختبار‭ ‬المسافة‭ ‬الجمالية،‭ ‬دور‭ ‬القارئ‭ ‬المؤوّل‭ ‬للتجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬لمحمد‭ ‬السرغيني،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اقتراح‭ ‬قراءة‭ ‬مركزة‭ ‬وعاشقة‭ ‬لهذه‭ ‬التجربة،‭ ‬باعتبارها‭ ‬تجسد‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬يمكن،‭ ‬ربما،‭ ‬أن‭ ‬نطبق‭ ‬عليه،‭ ‬ضمن‭ ‬التجارب‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى،‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬القائمة‭ ‬والمتواترة‭ ‬بين‭ ‬أفق‭ ‬الشاعر‭ ‬وأفق‭ ‬المتلقي‭ ‬أو‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ثم‭ ‬لكي‭ ‬يتأتى‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬التأثيرات‭ ‬الفعالة‭ ‬التي‭ ‬مارستها‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬لمحمد‭ ‬السرغيني‭ ‬على‭ ‬‮«‬تعديل‮»‬‭ ‬أفق‭ ‬توقعي‭ ‬الخاص‭ ‬وأفق‭ ‬القراءة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬سواء‭ ‬كممارس‭ ‬للكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬أو‭ ‬كقارئ‭ ‬ومتلقٍ‭ ‬لنصوص‭ ‬الآخرين،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬لهذا‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬الناقد‭ ‬الدكتور‭ ‬رشيد‭ ‬بنحدو،‭ ‬أفقًا‭ ‬فنيًا‭ ‬وأيديولوجيًا‭ ‬يحدد‭ ‬البنية‭ ‬الشكلية‭ ‬والدلالية‭ ‬لقصائده‭ ‬تَكَوّن‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬تَمَرّسِه‭ ‬الجمالي‭ ‬المديد‭ ‬بالصوفية،‭ ‬ومن‭ ‬خبرته‭ ‬الطويلة‭ ‬بمنجزاتها‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬الفلسفة‭ ‬والأدب‭ ‬والفن‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬يصدر‭ ‬في‭ ‬تلقيه‭ ‬لشعر‭ ‬السرغيني‭ ‬عن‭ ‬أفق‭ ‬توقع‭ ‬خاص‭ ‬يكيف‭ ‬خطابه،‭ ‬أفق‭ ‬متحصل‭ ‬من‭ ‬ثقافته‭ ‬الأدبية‭ ‬وذائقته‭ ‬الفنية‭. ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬يحصل‭ ‬حين‭ ‬يقارب‭ ‬هذا‭ ‬الناقد‭ ‬ديوانا‭ ‬جديدًا‭ ‬لهذا‭ ‬الشاعر؟

 

لكل‭ ‬قراءة‭ ‬للشعر‭ ‬سؤالها‭ ‬الخاص

‮«‬أخجل‭ ‬أن‭ ‬يوزعني‭ ‬الجنوب‭ ‬على‭ ‬الشمال،‭ ‬

وأن‭ ‬أوزع‭ ‬ثروتي‭ - ‬فَقْري‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬الكلام‮»‬

‭(‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬تفصيل‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬الحادث‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬السرغيني‭)‬

تختار‭ ‬كل‭ ‬قراءة‭ ‬للشعر‭ ‬سؤالها‭ ‬الخاص،‭ ‬سواء‭ ‬بدافع‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬بدافع‭ ‬القراءة‭ ‬الإبداعية‭ ‬العاشقة،‭ ‬ولو‭ ‬أنه‭ ‬يفترض‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قراءة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬جسد‭ ‬النص‭ ‬المقروء‭ ‬وملتصقة‭ ‬بنبضه‭ ‬ولحمته،‭ ‬غير‭ ‬متعالية‭ ‬عليه،‭ ‬مستوعبة‭ ‬حتى‭ ‬لهشاشته‭ ‬الداخلية‭ ‬كذلك،‭ ‬باعتبار‭ ‬كل‭ ‬كتابة‭ ‬شعرية‭ ‬قد‭ ‬تستمد‭ ‬قوتها‭ ‬الخالصة‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الهشاشة‭ ‬الناصعة‭ ‬التي‭ ‬تحيا‭ ‬بداخل‭ ‬الكائن‭ ‬الشعري،‭ ‬أيّا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الكائن،‭ ‬مُنتِجًا‭ ‬للنص‭ ‬أو‭ ‬قاطنًا‭ ‬فيه‭. ‬والقراءة‭ ‬أو‭ ‬الاقتراب،‭ ‬هنا،‭ ‬ينصت‭ ‬بالأساس‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التصريف‭ ‬الغامض‭ ‬والمخادع‭ ‬لهشاشة‭ ‬الكائن‭ ‬الشعري،‭ ‬مانحًا‭ ‬إيّاها‭ ‬معنى‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬الذي‭ ‬تتداوله‭ ‬اللغة‭ ‬المألوفة‭ ‬وترسخه،‭ ‬كي‭ ‬تصل‭ ‬تجربة‭ ‬الإنصات‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬فهم‭ ‬النص‭ ‬وإعادة‭ ‬تكثيف‭ ‬رمزيته‭ ‬أو‭ ‬تعميقها‭ ‬على‭ ‬الأصح‭. ‬إذ‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬أضاءت‭ ‬القراءات‭ ‬عتمات‭ ‬النصوص‭ ‬الشعرية‭ ‬وأشارت‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬ارتعاشها‭ ‬الحقيقي،‭ ‬مستسلمة،‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬مع‭ ‬النصوص‭ ‬المقروءة،‭ ‬إلى‭ ‬لعبة‭ ‬تبادل‭ ‬الضوء‭ ‬والإقامات،‭ ‬هي‭ ‬اللعبة‭ ‬التي‭ ‬تمارسها‭ ‬الأرواح‭ ‬المتاخمة‭ ‬لصوت‭ ‬الشعر،‭ ‬المقيمة‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الانخطاف‭. ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬أضاءت‭ ‬النصوص‭ ‬العميقة‭ ‬تاريخها‭ ‬وطريقها‭ ‬وقارئها‭ ‬أيضًا،‭ ‬وعمِلتْ‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬آفاق‭ ‬توقعاته‭ ‬الخاصة‭ ‬أو‭ ‬غيرتها‭ ‬على‭ ‬الأصح‭. ‬نفس‭ ‬الأفق‭ ‬أو‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬تحفره‭ ‬التجارب‭ ‬الكتابية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬لسان‭ ‬القارئ‭ ‬وذاكرته،‭ ‬ولا‭ ‬تكف‭ ‬هذه‭ ‬التجارب‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬عن‭ ‬تعميق‭ ‬مسالكها‭ ‬بالمزيد‭ ‬من‭ ‬الضوء‭ ‬والأسئلة‭ ‬والظلال‭ ‬اليانعة‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭.‬

         

‮«‬أحلى‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬الهاربُ،‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬رِجْلَيْه‮»‬

يبدأ‭ ‬تِطْوَاف‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬احتياطي‭ ‬العاج‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬السرغيني‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬دكار‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬فاس‮»‬‭ ‬الإقامة‭ ‬والرحيل،‭ ‬وبين‭ ‬المدينتين،‭ ‬‮«‬البرزخين‮»‬،‭ ‬تنبت‭ ‬اللغة‭ ‬الظليلة‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬المسافات،‭ ‬وينهض‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬الشعر‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬الغرابة‭ ‬والمجازات‭ ‬وأنصاف‭ ‬الكائنات،‭ ‬يبني‭ ‬الشاعر‭ ‬عالمًا‭ ‬متكاملًا‭ ‬من‭ ‬الحيوات‭ ‬والمصائر‭ ‬التي‭ ‬تتغير‭ ‬أو‭ ‬تَسِير‭ ‬إلى‭ ‬الأفول،‭ ‬تمامًا‭ ‬مثلما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬التراجيديات‭ ‬الكبرى‭ ‬والمحكيات‭ ‬ونصوص‭ ‬الملاحم‭ ‬والكتب‭ ‬الشاهقة،‭ ‬حين‭ ‬تعج‭ ‬سماؤها‭ ‬بشخوص‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬ليل‭ ‬الأزمنة‭ ‬ومن‭ ‬وراء‭ ‬الأساطير،‭ ‬ومثلما‭ ‬يعبث‭ ‬‮«‬هوميروس‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬أخيل‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬سوفوكليس‮»‬‭ ‬في‭ ‬أعمالهم‭ ‬ونصوصهم‭ ‬بمصائر‭ ‬الناس‭ ‬والآلهة‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬ويقذفون‭ ‬بالمحاربين‭ ‬إلى‭ ‬اللهب‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬الأعماق‭ ‬السحيقة‭ ‬للبحر،‭ ‬يحشد‭ ‬السرغيني‭ ‬على‭ ‬تخوم‭ ‬القصيدة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المصائر‭ ‬والمدن‭ ‬والشخوص‭ ‬ويقودها‭ ‬صوب‭ ‬غابات‭ ‬الثلج‭ ‬و«عصور‭ ‬الجليد‮»‬‭ ‬السحيقة‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬فندق‭ ‬‮«‬الميريديان‮»‬‭: ‬

‮«‬يقول‭ ‬البند‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬قـانون‭ ‬الـفندق‭: ‬إن‭ ‬العمال‭ ‬المطرودين‭ ‬إذا‭ ‬وُلِدوا‭ ‬في‭ ‬برج‭ ‬الحوت،‭ ‬تقاضوا‭ ‬تعويضات‭ ‬زائدة‭ ‬مـن‭ ‬‮«‬يونس‮»‬‭ ‬بـاسم‭ ‬السوق‭ ‬الأهلي‭ ‬وتُجّار‭ ‬الخُردة " من‭ ‬قصيدة‭ ‬خدام‭ ‬الإمبراطورية.

 

مسح‭ ‬مجهري

‭ ‬هكذا‭ ‬تشتغل‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬بُعدها‭ ‬الملحمي‭ ‬والساخر‭ ‬عند‭ ‬السرغيني،‭ ‬وتَضُجُّ‭ ‬بالأمكنة‭ ‬والمعادن‭ ‬والأوصاف‭ ‬والكائنات،‭ ‬حتى‭ ‬تفيض‭ ‬القصيدة‭ ‬بمخزونها،‭ ‬مثلما‭ ‬يسيل‭ ‬الزمن‭ ‬والأشياء‭ ‬من‭ ‬لوحات‭ ‬‮«‬سلفادور‭ ‬دالي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬القُماشة‭ ‬والبِرواز‭. ‬وبين‭ ‬المدينتين‭ (‬فاس‭ ‬ودكار‭) ‬تنهض‭ ‬أيضا‭ ‬مدن‭ ‬أخرى‭ ‬مُتعَبة‭ ‬ومصابة‭ ‬بالأرق‭ ‬المعدني،‭ ‬تطفو‭ ‬وتغوص‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬المتلاشي‭ ‬الذي‭ ‬يبتلعه‭ ‬السراب‭ ‬والغبار‭ ‬النووي،‭ ‬ليبدو‭ ‬المشهد‭ ‬مقتطعًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬القيامة‭ ‬الآن‮»‬،‭  ‬وتَكُون‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية‭ ‬وحدها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تأطير‭ ‬الصورة‭ ‬بالعين‭ ‬التي‭ ‬تُطْبق‭ ‬أو‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬العالم،‭ ‬تدقق‭ ‬في‭ ‬تفاصيله‭ ‬حد‭ ‬المسح‭ ‬المجهري‭ ‬أو‭ ‬تعمم‭ ‬عناصره‭ ‬حد‭ ‬التداخل‭ ‬والذّوبَان‭. ‬إنها‭ ‬العين‭ ‬الضخمة،‭ ‬عين‭ ‬‮«‬السيكلوب‭ ‬Cyclope‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يحولها‭ ‬السرغيني‭ ‬إلى‭ ‬يده،‭ ‬وبها‭ ‬يكتب‭ ‬أو،‭ ‬بالأحرى،‭ ‬يمسح‭ ‬الوجه‭ ‬الخفي‭ ‬للعالَم،‭ ‬وبها‭ ‬يتفحص‭ ‬مصير‭ ‬الأشياء‭ ‬والكائنات‭ ‬بين‭ ‬يديه،‭ ‬وبنفس‭ ‬العين‭ ‬القاطعة‭ ‬كذلك،‭ ‬تُطْبِق‭ ‬القصيدة‭ ‬جفنيها‭ ‬أو‭ ‬تفتحهما‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬ينهكه‭ ‬‮«‬السعال‭ ‬الإلكتروني‮»‬‭ ‬ولعبة‭ ‬التقابلات،‭ ‬هي‭ ‬اللعبة‭ ‬المحببة‭ ‬لعين‭ ‬السرغيني‭ ‬ويدِه،‭ ‬يفكك‭ ‬عبرها‭ ‬شكل‭ ‬الأشياء‭ ‬ويعيد‭ ‬تركيبها‭ ‬حسب‭ ‬قانونه‭ ‬الخاص،‭ ‬يبعثر‭ ‬الأسماء‭ ‬والطبائع‭ ‬والمصائر‭ ‬والصفات‭ ‬ويعيد‭ ‬توزيعها‭ ‬بالمقلوب‭.‬

يُعَلّم‭ ‬السرغيني‭ ‬قارئه‭ ‬نقدَ‭ ‬العالم‭ ‬والسخرية‭ ‬منه،‭  ‬ثم‭ ‬إبقاءه‭ ‬على‭ ‬مسافة‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬اليقينيات‭ ‬والوثوقيات‭ ‬والتعبيرات‭ ‬الحالمة‭ ‬أو‭ ‬المستكينة‭ ‬إلى‭ ‬رضاها‭ ‬الداخلي‭. ‬إن‭ ‬السرغيني‭ - ‬في‭ ‬كامل‭ ‬تجربته‭ ‬الشعرية‭ - ‬يبتعد‭ ‬بقارئه‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬التخدير‭ ‬البلاغي،‭ ‬ويدفعه‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬جديد‭ ‬للأشياء‭ ‬وتغيير‭ ‬علاقاته‭ ‬بها،‭ ‬ويجعله‭ ‬يمارس‭ ‬لعبة‭ ‬التسلي‭ ‬بالعالم‭ ‬والعبث‭ ‬بكل‭ ‬شيء،‭ ‬وليس‭ ‬مُهِمّا‭ ‬أن‭ ‬يستقيم‭ ‬المعنى‭ ‬بين‭ ‬يديه‭. ‬فهو‭ ‬الخميائي‭ ‬والشاعر‭ ‬والطبيب‭ ‬والعشّاب‭ ‬والساحر‭ ‬الذي‭ ‬يُخْرِج‭ ‬من‭ ‬زوّادته‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬قصيدة‭ ‬أو‭ ‬امرأة‭ ‬أو‭ ‬رجلا‭ ‬برأس‭ ‬كلب‭... ‬خليلة‭ ‬بجسد‭ ‬معدني‭ ‬ومدينة‭ ‬بأقراط‭ ‬عاجية‭ ‬في‭ ‬الشفتين‭... ‬فهو‭ ‬يقابل‭ ‬بين‭ ‬الأشياء‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬التضاد‭ ‬والمتعة‭ ‬والمفاجأة‭ ‬والتبصر،‭ ‬وبما‭ ‬يوجد‭ ‬أيضًا‭ ‬خلف‭ ‬الأشياء‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬المحجوب‭ ‬عن‭ ‬العين،‭ ‬يغوص‭ ‬بعيدًا‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬واللغة‭ ‬والمعنى‭ ‬وصفات‭ ‬الأشياء‭ ‬وماهياتها‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬اليد‭ ‬الخميائية‭ ‬بتطويعها‭ ‬وجعلها‭ ‬قابلة‭ ‬لتشكيل‭ ‬شعرية‭ ‬القصيدة،‭ ‬فهو‭ ‬مُنَقّب‭ ‬جيد‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الشعر‭ ‬وخبير‭ ‬بالجمال‭ ‬والمعادن‭ ‬والمعاني‭ ‬التي‭ ‬يعجنها‭ ‬أو‭ ‬يقوم‭ ‬بمعالجتها،‭ ‬لتبدو‭ ‬طيّعة‭ ‬صافية‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬وقابلة‭ ‬لسبك‭ ‬القصيدة‭ ‬أو‭ ‬تقطيرها‭ ‬على‭ ‬الأصح‭. 

‭ ‬تراهن‭ ‬القصيدة‭ ‬عند‭ ‬السرغيني‭ ‬على‭ ‬كثافة‭ ‬المعنى‭  ‬وشعريته،‭ ‬ومن‭ ‬ثَم،‭ ‬تتجاوز‭ ‬كتابته‭ ‬الشعرية‭ ‬مسألة‭ ‬الانزياح‭ ‬كما‭ ‬يتداولها‭ ‬أو‭ ‬يقوم‭ ‬عليها‭ ‬بعض‭ ‬الشعر،‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الانزياح‭ ‬المضاعَف‭ ‬والمزدوج،‭ ‬يقوم‭ ‬بترحيل‭ ‬الصورة‭ ‬والمعنى‭ ‬وأعشاش‭ ‬اللغة‭ ‬بشكل‭ ‬مستمر،‭ ‬يُحرك‭ ‬برَكَ‭ ‬اللغة‭ ‬الآسنة‭ ‬ويصفي‭ ‬معنى‭ ‬الشعر‭ ‬بماء‭ ‬الشعر،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تترسب‭ ‬في‭ ‬أعماقه‭ ‬اللغة‭ ‬الآسنة‭ ‬من‭ ‬جديد‭:‬

‮«‬بباب‭ ‬المحطة‭ ‬نجمان‭ ‬يقتربان،‭ ‬وحولَهما‭ ‬قمر‭ ‬يختفي‭ ‬ثم‭ ‬يظهر‭. ‬قافلة‭ ‬تتقدم‭ ‬قافلة‭. ‬شاعر‭ ‬بالنيابة‭ ‬عن‭ ‬شاعر‭ ‬يتبناه‭ ‬قارون‭. ‬إذ‭ ‬يشتري‭ ‬لغة‭ ‬يتوسّدها‭. ‬الزاحفون‭ ‬على‭ ‬مرمر‭ ‬الباب‭ ‬مزدحمون‭ ‬بشباكها‭. ‬للتذاكر‭ ‬رائحة‭ ‬الزنجبيل‭. ‬الذكاء‭ ‬ترنح‭  ‬فوق‭ ‬الجبين‭ ‬فمزق‭ ‬أوصاله‭ ‬وأعاد‭ ‬الحروف‭ ‬إلى‭ ‬محنة‭ ‬السبك،‭ ‬كل‭ ‬الحروف‭. ‬هلم‭ ‬إذن‭ ‬نكتب‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬ذيل‭ ‬لوحة‭ "‬شاغال‭" ‬تزجية‭ ‬للفراغ،‭ ‬وتهيئة‭ ‬لوصول‭ ‬القطار،‭ ‬وتبرئة‭ ‬للمسافة‭. ‬ظَهْرُ‭ ‬التذاكر‭ ‬أصلَح‭ ‬من‭ ‬وجهها‭ ‬للكتابة‮»‬‭. ‬

 

 

كيف‭ ‬نقرأ‭ ‬السرغيني؟

    ‬كيف‭ ‬نقرأ‭ ‬محمد‭ ‬السرغيني‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الارتفاع‭ ‬الذي‭ ‬تلوذ‭ ‬به‭ ‬القصيدة،‭ ‬وشعرية‭ ‬اللغة‭ ‬والمعنى؟‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬بأدوات‭ ‬النقد‭ ‬الصارمة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تجرد‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬خصوصيته‭ ‬وحقه‭ ‬في‭ ‬الارتفاع‭ ‬والمغايرة،‭ ‬بل‭ ‬بالضرورة‭ ‬الإبداعية‭ ‬الخالصة،‭ ‬الباحثة‭ ‬عن‭ ‬شكل‭ ‬خصوصيتها‭ ‬وشروط‭ ‬اكتمالها‭ ‬وفعلها‭ ‬الذاتي‭ ‬الخلاق،‭ ‬وخارج‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬التماهي‭ ‬والتطابق‭ ‬والرضى‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬القارئ‭ ‬بنصوص‭ ‬السرغيني‭. ‬فكيف‭ ‬تراهن‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬عنده‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الصدمة‭ ‬لدى‭ ‬القارئ‭ ‬ودفعه‭ ‬إلى‭ ‬تعديل‭ ‬أفق‭ ‬توقعه؟‭ ‬مثل‭ ‬رهانها‭ ‬على‭ ‬الخصوصية‭ ‬والمغايرة‭  ‬وشعرية‭ ‬كل‭ ‬العناصر‭ ‬المكونة‭ ‬للقصيدة،‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬المعنى،‭ ‬ومن‭ ‬كتابة‭ ‬تروم‭ ‬إلى‭ ‬جعل‭ ‬نفسها‭ ‬كتابة‭ ‬بالعناصر‭ ‬والمعنى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬رهانها‭ ‬على‭ ‬جعل‭ ‬اللغة‭ ‬وحدها‭ ‬أفقا‭ ‬ومادة‭ ‬للشعر،‭ ‬كتابة‭ ‬تدخل‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬المختبر‭ ‬وتعجنها‭ ‬بالعناصر‭ ‬والمواد،‭ ‬كتابة‭ ‬كيميائية‭ ‬بالأساس،‭ ‬تمنح‭ ‬للغة‭ ‬بعدها‭ ‬المختبري‭ ‬وترقى‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬الحالة‭ ‬الذهنية‭ ‬إلى‭ ‬الحالة‭ ‬المجسدة،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬استبطاناتها‭ ‬القصوى‭ ‬للمحسوس‭ ‬واستحضارها‭ ‬للروحي‭ ‬والمرتبط‭ ‬عمومًا‭ ‬بالانخطاف‭ ‬وحالات‭ ‬الإشراق‭ ‬الصوفي‭.‬

 

معبر‭ ‬للدهشة

تنبني‭ ‬استراتيجية‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ (‬احتياطي‭ ‬العاج‭) ‬برمتها‭ ‬على‭ ‬السّفَر‭ ‬كإمكانية‭ ‬هائلة‭ ‬لمعرفة‭ ‬العالم‭ ‬واختبار‭ ‬المسافات،‭ ‬والسّفَر‭ ‬هنا،‭ ‬عند‭ ‬السرغيني،‭ ‬غواية‭ ‬ومتعة‭ ‬وفريضة،‭ ‬معبر‭ ‬أساسي‭ ‬للدهشة‭ ‬ومدخل‭ ‬لاجتراح‭ ‬القصيدة‭ ‬وترويضها‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬واللغة‭ ‬ومعنى‭ ‬الارتحال،‭ ‬والسفر‭ ‬كذلك‭ ‬عنده‭ ‬تجربة‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬الأقاصي‭ ‬ووجه‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬إقامتها‭ ‬التي‭ ‬يتشوق‭ ‬الجسد‭ ‬المتعب‭ ‬إلى‭ ‬إدراكها،‭ ‬كي‭ ‬يتجدد‭ ‬فقط‭ ‬هذا‭ ‬التعب‭ ‬أو‭ ‬يتعمق‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬القصيدة‭ ‬ومعنى‭ ‬التعب‭ ‬ومعنى‭ ‬الجسد،‭ ‬إنه‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التعبد‭ ‬والذهاب‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬صوت‭ ‬الريح،‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬تضع‭ ‬القوة‭ ‬الهائلة‭ ‬إمكانية‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬بوابات‭ ‬العالم‭ ‬السرية‭ ‬التي‭ ‬وعد‭ ‬الضوء‭ ‬بها‭ ‬زمرة‭ ‬الشعراء‭. ‬السفر‭ ‬عند‭ ‬السرغيني‭ ‬يقين‭ ‬وتأمل‭ ‬ووصال‭ ‬واقتراب‭ ‬خالص‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬المعنى‭ ‬ومن‭ ‬وجه‭ ‬العشيق‭ ‬المتعذر،‭ ‬وهو‭ ‬الدعامة‭ ‬الكبرى‭ ‬للكتابة‭ ‬والركن‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬عليه‭ ‬شعيرة‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬شرطها‭ ‬الدنيوي،‭ ‬وكتاب‭ ‬العاج،‭ ‬هنا،‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬بفصل‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬هذا‭ ‬العالم‮»‬‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬أليخو‭ ‬كاربتنييه‮»‬‭ ‬أو‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬فصل‭ ‬في‭ ‬الجحيم‮»‬‭ ‬لرامبو‭. ‬إنه‭ ‬الكتاب‭ ‬الضّاج‭ ‬بالغواية‭ ‬والشهوات‭ ‬والعمالقة‭ ‬والموتى‭ ‬و‮«‬يأجوج‭ ‬ومأجوج‮»‬،‭ ‬وأشباه‭ ‬الكائنات‭ ‬وأنصافها،‭ ‬وبِقَدْر‭ ‬ما‭ ‬تعج‭ ‬نصوصه‭ ‬بالأمكنة‭ ‬المأهولة‭ ‬بالمشّائين‭ ‬والأرواح‭ ‬والغجر‭ ‬والأزمنة‭ ‬والنزوات‭ ‬والتواريخ‭ ‬الشخصية‭ ‬والعامة‭ ‬والأحلام‭ ‬المجهضة‭ ‬وتعب‭ ‬الشعراء‭ ‬والأسماء،‭ ‬فالكتاب‭ ‬يبدو‭ ‬دغلًا‭ ‬كثيف‭ ‬العناصر‭ ‬والمعنى‭ ‬أحيانًا،‭ ‬وقفرًا‭ ‬موحشًا،‭ ‬أحيانًا‭ ‬أخرى،‭ ‬وكأن‭ ‬شخوصه‭ ‬من‭ ‬سراب‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬أطياف‭ ‬متعبة‭ ‬تتحرك‭ ‬في‭ ‬الخيال‭. ‬إن‭ ‬قصائد‭ ‬السرغيني،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تمارس‭ ‬على‭ ‬قارئها‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬غواية‭ ‬الرمز‭ ‬والمجاز،‭ ‬وتمنحه‭ ‬الإحساس‭ ‬بالإشباع‭ ‬والامتلاء،‭ ‬فإنها‭ ‬تترك‭ ‬بداخله‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الخواء‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الفجوات‭. ‬إنها‭ ‬السّفَر‭ ‬في‭ ‬أقاصي‭ ‬العالَم‭ ‬وفي‭ ‬أقاصي‭ ‬الكتابة‭ ‬نفسِها،‭ ‬تلك‭ ‬الكتابة‭ ‬الآتية‭ ‬من‭ ‬الجسد‭ ‬المتشظي‭ ‬ومن‭ ‬سيرة‭ ‬العمر‭.‬

‭ ‬تذهب‭ ‬نصوص‭ ‬السرغيني‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬‮«‬احتياطي‭ ‬العاج‮»‬‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬تجربته‭ ‬الشعرية‭ ‬إلى‭ ‬احتراف‭ ‬شعرية‭ ‬المحكيات‭ ‬الكبرى،‭ ‬كمعنى‭ ‬العالم‭ ‬وشرائع‭ ‬الحياة،‭ ‬متاخمة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬للنصوص‭ ‬الشعرية‭ ‬والملحمية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬سَبْر‭ ‬مصير‭ ‬الإنسان‭ ‬وتوجيهه‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬إعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬هذا‭ ‬المصير‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬