«قارب إلى لسبوس» مرثيّة التغريبة السورية الكبرى

إن‭ ‬الشِّعر،‭ ‬كما‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجارب‭ ‬كبار‭ ‬الشعراء،‭ ‬هو‭ ‬نداء‭ ‬الحرية،‭ ‬فالكتابة‭ ‬فعل‭ ‬تحرر‭ ‬لما‭ ‬يظل‭ ‬مصادرًا‭ ‬مغيبًا‭ ‬في‭ ‬ذواتنا‭ ‬ونصوصنا‭. ‬لكن‭ ‬فعل‭ ‬التحرر‭ ‬هذا،‭ ‬لا‭ ‬يتجلى‭ ‬فيما‭ ‬تقوله‭ ‬النصوص‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬فيما‭ ‬تتستر‭ ‬عليه‭ ‬أيضًا‭. ‬لا‭ ‬يخبر‭ ‬عنه‭ ‬الشعر‭ ‬تصريحًا،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأي‭ ‬قراءة‭ ‬أن‭ ‬تطوله،‭ ‬لأنه‭ ‬يرد‭ ‬مندسًا‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬النص‭ ‬عالقًا‭ ‬بطرائق‭ ‬تشكل‭ ‬الكتابة‭ ‬وكيفيات‭ ‬تعالق‭ ‬كل‭ ‬الملفوظات‭ ‬وتشابك‭ ‬الصور‭ ‬وتوالد‭ ‬الرموز‭.‬

لعل‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يؤطر‭ ‬تجربة‭ ‬نوري‭ ‬الجراح‭ ‬الشعرية‭ ‬عامة،‭ ‬وديوان‭ ‬‮«‬قارب‭ ‬إلى‭ ‬لسبوس‮»‬‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬تجربة‭ ‬ظلت‭ ‬تتشكل‭ ‬مأخوذة‭ ‬بفكرة‭ ‬الحرية‭ ‬ومسكونة‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الهوس‭. ‬هكذا،‭ ‬لتصبح‭ ‬الكتابة‭ ‬عند‭ ‬الجراح،‭ ‬فعل‭ ‬خلخلة‭ ‬لذاكرتنا‭ ‬ورصيدنا‭ ‬الثقافيين،‭ ‬وما‭ ‬ترسب‭ ‬فيهما‭ ‬من‭ ‬ثوابت‭ ‬وأحكام،‭ ‬صارت‭ ‬بحكم‭ ‬التداول‭ ‬والشيوع‭ ‬تمتلك‭ ‬سلطان‭ ‬البداهة،‭ ‬وتشكل‭ ‬تلك‭ ‬المسلمة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬ضوئها‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬والنص‭. ‬هكذا،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬نص‭ ‬‮«‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬لسبوس‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬تتبين‭ ‬لنا‭ ‬علاقة‭ ‬النص‭ ‬المبدع‭ (‬نص‭ ‬الجراح‭)‬،‭ ‬بالنص‭ ‬المرجعي‭ (‬نص‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي‭). ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التناص،‭ ‬لأن‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬نوري‭ ‬الجراح،‭ ‬تفتتح‭ ‬لها‭ ‬مجرى‭ ‬في‭ ‬مناخات‭ ‬وأقاليم‭ ‬أخرى‭. ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تتكئ‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬المرجعي‭/ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬وتشرع‭ ‬في‭ ‬التنامي،‭ ‬مغتديةً‭ ‬بمنجزه‭ ‬الفني،‭ ‬بل‭ ‬تكشف‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬نداء‭ ‬المتوحش‭ ‬فيه،‭ ‬الذي‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬نداء‭ ‬الحرية‭ ‬والحياة‭.‬

                               

‭ ‬الشّعر‭ ‬نداء‭ ‬الحرية‭ ‬

يستوجب‭ ‬تناول‭ ‬ديوان‭ ‬الشاعر‭ ‬نوري‭ ‬الجراح‭ ‬‮«‬قارب‭ ‬إلى‭ ‬لسبوس،‭ ‬مرثية‭ ‬بنات‭ ‬نعش‮»‬‭ ‬استدعاء‭ ‬الرؤية‭ ‬الشعرية‭ ‬لنوري‭ ‬الجراح‭ ‬في‭ ‬كليتها‭ ‬وشموليتها‭. ‬وكذا‭ ‬مرجعيّتها‭ ‬الفكرية‭ ‬والقرائية،‭ ‬حيث‭ ‬تكشف‭ ‬هذه‭ ‬المرجعية‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬قرأ‭ ‬بعمق‭ ‬قصائد‭ ‬إليوت،‭ ‬ورامبو،‭ ‬وبودلير،‭ ‬وغيرهم‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يقرأ‭ ‬كذلك‭ ‬بعمق،‭ ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬جيله‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬العربية‭ ‬الخالدة،‭ ‬أبرزها‭: ‬ترجمان‭ ‬الأشواق‭ ‬لابن‭ ‬عربي،‭ ‬ومخاطبات‭ ‬النفري،‭ ‬وعذابات‭ ‬الحلاج،‭ ‬وشطحات‭ ‬أبي‭ ‬يزيد‭ ‬البسطامي‭ ‬ولطائف‭ ‬السهروردي،‭ ‬وفريد‭ ‬الدين‭ ‬العطار‭ ‬وجلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي،‭ ‬وغيرهم،‭ ‬مما‭ ‬يحقق‭ ‬له‭ ‬بعدًا‭ ‬كونيًا،‭ ‬كما‭ ‬أضفى‭ ‬على‭ ‬نصوصه‭ ‬الشعرية‭ ‬بُعدًا‭ ‬ملحميًّا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

 

البُعد‭ ‬الكوني‭                

إن‭ ‬مسألة‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والإبداع‭ ‬عامة‭ ‬والعلاقة‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬ليست‭ ‬مسألة‭ ‬جديدة،‭ ‬لكنها‭ ‬تحيلنا‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬جوانبها‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬البنوة‭ ‬والتبني‭ ‬كما‭ ‬حددها‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭. ‬يشير‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬التبني‭ ‬ميزة‭ ‬لدنيوية‭ ‬النص،‭ ‬بينما‭ ‬تحيلنا‭ ‬النبوة‭ ‬إلى‭ ‬هيمنة‭ ‬اليوتوبية‭ ‬للنصوص‭ ‬المترابطة‭ ‬تسلسلاً‭ ‬وتماثلاً‭ ‬ودونما‭ ‬علامات‭ ‬فارقة‭ ‬مع‭ ‬النصوص‭ ‬الأخرى،‭ ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬نسميها‭ ‬بالأدب‭ ‬الإنجليزي‭. ‬لعل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬قارب‭ ‬إلى‭ ‬لسبوس‮»‬‭ ‬للجراح،‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬أهم‭ ‬الآثار‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬أقامت‭ ‬رؤيتها‭ ‬الفنية‭ ‬على‭ ‬قوارب‭ ‬الموت‭ ‬الخلاصية‭ ‬العمياء‭ ‬التي‭ ‬تبحر‭ ‬بالسوريين‭ ‬الهاربين‭ ‬من‭ ‬تسلط‭ ‬الطاغوت‭ ‬إلى‭ ‬جزيرة‭ ‬لسبوس‭ ‬اليونانية‭ (‬جزيرة‭ ‬الشاعرة‭ ‬سافو‭) ‬سعيًا‭ ‬وراء‭ ‬الخلاص‭ ‬الممكن‭.‬

تحيلنا‭ ‬القراءة‭ ‬الأولى‭ ‬لشعر‭ ‬الجراح‭ (‬من‭ ‬خلال‭ ‬الديوان‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬نصوص‭ ‬بارزة‭ ‬لمحيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي‭ ‬في‭ ‬ترجمان‭ ‬الأشواق‭. ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭: ‬

 

رأى‭ ‬البرق‭ ‬شرقيًا،‭ ‬فحن‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭  

ولو‭ ‬لاح‭ ‬غربيًا‭ ‬لحن‭ ‬إلى‭ ‬الغرب

فإن‭ ‬غرامي‭ ‬بالبريــــق‭ ‬ولمحــــــه

وليس‭ ‬غرامي‭ ‬بالأماكن‭ ‬والترب

 

‭ ‬ويقول‭ ‬الجراح‭: ‬

رأيت‭ ‬البرق‭ ‬شرقيًّا

ولاح‭ ‬في‭ ‬لمحه

وكان‭ ‬غربيًّا

رأيت‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬دمها

مبلولة‭ ‬والبحر‭ ‬مضطربا

‭ ‬تكمن‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬الأصل‭ (‬نص‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭) ‬والنص‭ ‬الفرع‭ (‬نص‭ ‬الجراح‭)‬،‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬نص‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي‭ ‬يرهص‭ ‬بالعالمية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬الوجود‭ ‬الكونية‭ ‬المنفتحة‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬نقيضًا‭ ‬للخصوصية‭ ‬الثقافية‭. ‬أما‭ ‬نص‭ ‬الجراح،‭ ‬فيفيض‭ ‬في‭ ‬رؤيته‭ ‬الشعرية‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الكونية‭ ‬بكل‭ ‬دلالاته‭ ‬الفكرية‭ ‬والجمالية‭. ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬رحلة‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬رحلة‭ ‬حرة‭ ‬واختيارية،‭ ‬فإن‭ ‬رحلة‭ ‬الجراح‭ ‬المتماهية‭ ‬مع‭ ‬رحلات‭ ‬قوارب‭ ‬الموت‭ ‬الخلاصية،‭ ‬رحلة‭ ‬إجبارية‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الأولى‭ ‬تمثل‭ ‬غياب‭ ‬كل‭ ‬قيد‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬الاختياري،‭ ‬فإن‭ ‬رحلة‭ ‬‮«‬قارب‭ ‬إلى‭ ‬لسبوس‮»‬،‭ ‬تتميز‭ ‬بغياب‭ ‬الفعل‭ ‬الاختياري‭ ‬نفسه‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬في‭ ‬التشريق‭ ‬والتغريب‭ (‬رأى‭ ‬البرق‭ ‬شرقيًا،‭ ‬فحنّ‭ ‬إلى‭ ‬الشرق،‭ ‬ولو‭ ‬لاح‭ ‬غربيًّا‭ ‬لحن‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬يعزز‭ ‬فيه‭ ‬علاقة‭ ‬الذات‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬نازعًا‭ ‬سلطة‭ ‬المكان‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬الإنسان،‭ ‬ومقوضًا‭ ‬ارتباط‭ ‬الفكر‭ ‬بالفضاء‭ ‬الجغرافي،‭ ‬يستعيده‭ ‬الجراح‭.‬

لكن‭ ‬لا‭ ‬يستعيده‭ ‬بشكل‭ ‬مرآوي‭/ ‬آلي‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬نص‭ ‬الجراح‭ ‬الشعري،‭ ‬لا‭ ‬يشكل‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬النص‭ ‬السابق‭ ‬لابن‭ ‬عربي،‭ ‬لأن‭ ‬خيار‭ ‬الإنسان‭ ‬السوري‭ ‬الهارب‭ ‬من‭ ‬تسلط‭ ‬الطاغوت‭ ‬خيار‭ ‬لا‭ ‬يحركه‭ ‬حب‭ ‬المعرفة‭ (‬كما‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬تدفعه‭ ‬تلك‭ ‬الضرورة‭ ‬العمياء،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬‮«‬قارب‭ ‬إلى‭ ‬لسبوس‮»‬،‭ ‬بمنزلة‭ ‬مرثيّة‭ ‬للتغريبة‭ ‬السورية‭ ‬الكبرى‭. ‬كما‭ ‬يجعله‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬شعرية‭ ‬وجود‭ ‬وكينونة‭ (‬شعرية‭ ‬صدام‭ ‬مع‭ ‬الذات‭). ‬وليست‭ ‬شعرية‭ ‬صدام‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬لأن‭ ‬الصدام‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬الشاعر‭ ‬الأيرلندي‭ ‬ييتس‭ ‬يصنع‭ ‬البلاغة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يصنع‭ ‬الصدام‭ ‬مع‭ ‬الذات،‭ ‬الشعر‭. ‬بهذا،‭ ‬صنعت‭ ‬النصوص‭ ‬الشعرية‭ ‬للجراح،‭ ‬صدامًا‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬لا‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬مما‭ ‬يمنحها‭ ‬شعرية‭ ‬الكينونة‭.‬

 

التغريبة‭ ‬السورية

يقدّم‭ ‬الشاعر‭ ‬نوري‭ ‬الجراح،‭ ‬نصوص‭ ‬‮«‬قارب‭ ‬إلى‭ ‬لسبوس‮»‬‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬ألواح،‭ ‬حيث‭ ‬يخط‭ ‬على‭ ‬ألواحه‭ ‬قصيدة‭ ‬ملحمية‭ ‬يرثي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الإنسان‭ ‬السوري‭ ‬في‭ ‬تغريبته‭ ‬الكبرى‭. ‬يقوم‭ ‬اللوح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬على‭ ‬ازدواجية‭ ‬المعنى،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الألواح‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬حطام‭ ‬قوارب‭ ‬الموت‭ ‬الخلاصية،‭ ‬حيث‭ ‬يستهل‭ ‬اللوح‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المرثية،‭ ‬بلوح‭ ‬إغريقي‭. ‬يتضمن‭ ‬نداء‭ ‬الشاعرة‭ ‬سافو‭ (‬شاعرة‭ ‬جزيرة‭ ‬لسبوس‭)‬،‭ ‬تقول‭:‬

 

أيها‭ ‬السوريون‭ ‬الأليمون

أيها‭ ‬السوريون‭ ‬الوسيمون‭                                              

الهاربون‭ ‬من‭ ‬الموت

أنتم‭ ‬لا‭ ‬تصدون‭ ‬بالقوارب‭ ‬

ولكنكم‭ ‬تولدون‭ ‬على‭ ‬الشواطئ‭ ‬مع‭ ‬الزبد

تبر‭ ‬هالك‭ ‬أنتم

تبر‭ ‬مصهور‭ ‬وطوع‭ ‬مصوع‭                                                   

من‭ ‬لجة‭ ‬إلى‭ ‬لجّة

في‭ ‬خاصرة‭ ‬بحر‭ ‬الروم

مع‭ ‬نجمة‭ ‬البحر‭ ‬وشقيقها‭ ‬الحبار‭ ‬التائه‭                                          

‭ ‬ترسلكم‭ ‬الأمواج‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬بنات‭ ‬نعش‭ 

                                                     

‭ ‬وتنتهي‭ ‬الملحمة‭ ‬بلوح‭ ‬إغريقي‭ ‬آخر،‭ ‬يتضمن‭ ‬نداءً‭ ‬آخر‭ ‬للشاعرة‭ ‬سافو‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬فيه‭:‬

أيها‭ ‬السوريون‭ ‬الهلاكيون‭                                               

السوريون‭ ‬المرتجفون‭ ‬على‭ ‬السواحل

السوريون‭ ‬الهائمون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرض

لا‭ ‬تملأوا‭ ‬جيوبكم‭ ‬بتراب‭ ‬الميت

اهجروا‭ ‬الأرض‭ ‬تلك

ولا‭ ‬تموتوا

موتوا‭ ‬في‭ ‬المجاز

ولا‭ ‬تموتوا‭ ‬في‭ ‬الحقيقة

اتركوا‭ ‬اللغة‭ ‬تدفنكم‭ ‬في‭ ‬أوصافها

 

صوت‭ ‬الشاعرة‭ ‬سافو

‭ ‬ولدت‭ ‬الشاعرة‭ ‬الإغريقية‭ ‬الغنائية‭ ‬سافو‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬لسبوس‭ ‬عام‭ ‬615‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭. ‬وفي‭ ‬لسبوس‭ ‬كانت‭ ‬تجمع‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الفتيات‭ ‬المتيمات‭ ‬بالشعر‭ ‬واللواتي‭ ‬نظمن‭ ‬أنفسهن‭ ‬في‭ ‬فرقة‭ ‬دينية‭ ‬مكرسة‭ ‬للإلهة‭ ‬أفروديت‭ (‬فينوس‭).‬

هؤلاء‭ ‬الشاعرات‭ ‬المتيمات‭ ‬بالشعر،‭ ‬هنّ‭ ‬بنات‭ ‬نعش‭ (‬لذا‭ ‬جاء‭ ‬العنوان‭ ‬الفرعي‭ ‬للديوان‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭: ‬مرثية‭ ‬بنات‭ ‬نعش‭)‬،‭ ‬يتحركن‭ ‬تحت‭ ‬منظومتين‭ ‬من‭ ‬النجوم‭. ‬واحدة‭ ‬ساطعة‭ ‬الضوء‭ ‬وأخرى‭ ‬أقل‭ ‬سطوعًا،‭ ‬تشير‭ ‬المرثية‭ ‬هنا،‭ ‬إلى‭ ‬الفتيان‭ ‬المتحلقات‭ ‬حول‭ ‬الشاعرة‭ ‬سافو،‭ ‬وإلى‭ ‬بنات‭ ‬نعش‭ ‬الدائرات‭ ‬في‭ ‬الأفلاك‭. ‬وقد‭ ‬شاءت‭ ‬ظروف‭ ‬السوريين‭ ‬في‭ ‬تغريبتهم‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬جزيرة‭ ‬لسبوس‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يتجهون‭ ‬إليه،‭ ‬لأن‭ ‬خيارهم‭ ‬صار‭ ‬خيارًا‭ ‬خلاصيًّا،‭ ‬لا‭ ‬يحركه‭ ‬حب‭ ‬المعرفة،‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬سلفًا،‭ ‬بل‭ ‬تدفعه‭ ‬الضرورة‭ ‬العمياء،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬خيار‭.‬

لهذا،‭ ‬فإن‭ ‬استعارة‭ ‬الشاعر‭ ‬الجراح‭ ‬لصوت‭ ‬سافو‭ ‬شاعرة‭ ‬لسبوس،‭ ‬لمخاطبة‭ ‬السوريين،‭ ‬تكتسب‭ ‬تعليلاً‭ ‬فنيًّا‭ ‬ذكيًّا‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬استعارته‭ ‬لهذا‭ ‬الصوت‭ ‬الغنائي،‭ ‬لاختتام‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬الملحمية‭ ‬اللاهثة،‭ ‬يحقق‭ ‬ما‭ ‬تقتضيه‭ ‬الذروة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬استعارة‭ ‬صوت‭ ‬الآخر،‭ ‬تحيلنا‭ ‬بدورها‭ ‬إلى‭ ‬علاقة‭ ‬شعر‭ ‬نوري‭ ‬الجراح‭ ‬بالثقافات‭ ‬الأخرى،‭ ‬خاصة‭ ‬الثقافات‭ ‬المتوسطية‭ ‬المنفتحة‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬الآخر‭.‬

وعلى‭ ‬الفكر‭ ‬السوري‭ ‬الشامي‭ ‬خاصة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ثقافة‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬هي‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنها‭ ‬ثقافة‭ ‬الذات‭/ ‬ثقافة‭ ‬المنطقة،‭ ‬فإنها‭ ‬تكتسي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬بُعدها‭ ‬الكوني،‭ ‬مما‭ ‬يخول‭ ‬لها‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬مفهومي‭ ‬الأصالة‭ ‬والهجنة‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬واحد،‭ ‬كما‭ ‬يجعل‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬قارب‭ ‬إلى‭ ‬لسبوس‮»‬‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬وحدة‭ ‬الوجود‭ ‬كما‭ ‬تجلت‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭. ‬

هكذا‭ ‬عمل‭ ‬الشاعر‭ ‬نوري‭ ‬الجراح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬‮«‬قارب‭ ‬إلى‭ ‬لسبوس‮»‬‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬بُعد‭ ‬معرفي‭ ‬وجمالي‭ ‬شعريين،‭ ‬كما‭ ‬خلق‭ ‬فسحة‭ ‬ضوء‭ ‬تغذي‭ ‬الوجدان‭ ‬الجمعي،‭ ‬وتبعث‭ ‬خامل‭ ‬الجذور،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬إليوت‭ .‬