«قارب إلى لسبوس» مرثيّة التغريبة السورية الكبرى
إن الشِّعر، كما يعلن عن نفسه من خلال تجارب كبار الشعراء، هو نداء الحرية، فالكتابة فعل تحرر لما يظل مصادرًا مغيبًا في ذواتنا ونصوصنا. لكن فعل التحرر هذا، لا يتجلى فيما تقوله النصوص فقط، بل فيما تتستر عليه أيضًا. لا يخبر عنه الشعر تصريحًا، كما لا يمكن لأي قراءة أن تطوله، لأنه يرد مندسًا في بنية النص عالقًا بطرائق تشكل الكتابة وكيفيات تعالق كل الملفوظات وتشابك الصور وتوالد الرموز.
لعل هذه الرؤية، هي ما يؤطر تجربة نوري الجراح الشعرية عامة، وديوان «قارب إلى لسبوس» بشكل خاص تجربة ظلت تتشكل مأخوذة بفكرة الحرية ومسكونة بها إلى حد الهوس. هكذا، لتصبح الكتابة عند الجراح، فعل خلخلة لذاكرتنا ورصيدنا الثقافيين، وما ترسب فيهما من ثوابت وأحكام، صارت بحكم التداول والشيوع تمتلك سلطان البداهة، وتشكل تلك المسلمة التي في ضوئها نتعامل مع اللغة والنص. هكذا، يمكن أن ننظر إلى نص «رحلة إلى لسبوس»، حتى تتبين لنا علاقة النص المبدع (نص الجراح)، بالنص المرجعي (نص محيي الدين بن عربي). لكن لا يمكن أن تقرأ هذه العلاقة على أنها عبارة عن نوع من التناص، لأن الكتابة في نص نوري الجراح، تفتتح لها مجرى في مناخات وأقاليم أخرى. إنها لا تتكئ على النص المرجعي/ ابن عربي وتشرع في التنامي، مغتديةً بمنجزه الفني، بل تكشف فيه عن نداء المتوحش فيه، الذي يتجلى في نداء الحرية والحياة.
الشّعر نداء الحرية
يستوجب تناول ديوان الشاعر نوري الجراح «قارب إلى لسبوس، مرثية بنات نعش» استدعاء الرؤية الشعرية لنوري الجراح في كليتها وشموليتها. وكذا مرجعيّتها الفكرية والقرائية، حيث تكشف هذه المرجعية أن الشاعر قد قرأ بعمق قصائد إليوت، ورامبو، وبودلير، وغيرهم.
لكن هذا لا يعني أنه لم يقرأ كذلك بعمق، شأنه شأن جيله من الشعراء، مجموعة من الآثار العربية الخالدة، أبرزها: ترجمان الأشواق لابن عربي، ومخاطبات النفري، وعذابات الحلاج، وشطحات أبي يزيد البسطامي ولطائف السهروردي، وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي، وغيرهم، مما يحقق له بعدًا كونيًا، كما أضفى على نصوصه الشعرية بُعدًا ملحميًّا من جهة أخرى.
البُعد الكوني
إن مسألة العالمية في الأدب والإبداع عامة والعلاقة مع الآخر ليست مسألة جديدة، لكنها تحيلنا في أحد جوانبها إلى مفهوم البنوة والتبني كما حددها إدوارد سعيد. يشير هذا الأخير إلى أن «التبني ميزة لدنيوية النص، بينما تحيلنا النبوة إلى هيمنة اليوتوبية للنصوص المترابطة تسلسلاً وتماثلاً ودونما علامات فارقة مع النصوص الأخرى، مثلما هي الحال مع النصوص التي نسميها بالأدب الإنجليزي. لعل هذا ما يؤكد أن ديوان «قارب إلى لسبوس» للجراح، يعد من بيت أهم الآثار العربية التي أقامت رؤيتها الفنية على قوارب الموت الخلاصية العمياء التي تبحر بالسوريين الهاربين من تسلط الطاغوت إلى جزيرة لسبوس اليونانية (جزيرة الشاعرة سافو) سعيًا وراء الخلاص الممكن.
تحيلنا القراءة الأولى لشعر الجراح (من خلال الديوان)، إلى نصوص بارزة لمحيي الدين بن عربي في ترجمان الأشواق. يقول ابن عربي:
رأى البرق شرقيًا، فحن إلى الشرق
ولو لاح غربيًا لحن إلى الغرب
فإن غرامي بالبريــــق ولمحــــــه
وليس غرامي بالأماكن والترب
ويقول الجراح:
رأيت البرق شرقيًّا
ولاح في لمحه
وكان غربيًّا
رأيت الشمس في دمها
مبلولة والبحر مضطربا
تكمن المفارقة بين النص الأصل (نص ابن عربي) والنص الفرع (نص الجراح)، في كون نص محيي الدين بن عربي يرهص بالعالمية التي تقوم على وحدة الوجود الكونية المنفتحة على الآخر، لكن لا يمكن اعتبارها نقيضًا للخصوصية الثقافية. أما نص الجراح، فيفيض في رؤيته الشعرية على مفهوم الكونية بكل دلالاته الفكرية والجمالية. فإذا كانت رحلة ابن عربي رحلة حرة واختيارية، فإن رحلة الجراح المتماهية مع رحلات قوارب الموت الخلاصية، رحلة إجبارية.
وإذا كانت الأولى تمثل غياب كل قيد على الفعل الاختياري، فإن رحلة «قارب إلى لسبوس»، تتميز بغياب الفعل الاختياري نفسه. ذلك أن مفهوم ابن عربي في التشريق والتغريب (رأى البرق شرقيًا، فحنّ إلى الشرق، ولو لاح غربيًّا لحن إلى الغرب)، الذي يعزز فيه علاقة الذات مع الآخر نازعًا سلطة المكان على حركة الإنسان، ومقوضًا ارتباط الفكر بالفضاء الجغرافي، يستعيده الجراح.
لكن لا يستعيده بشكل مرآوي/ آلي. ذلك أن نص الجراح الشعري، لا يشكل إعادة إنتاج النص السابق لابن عربي، لأن خيار الإنسان السوري الهارب من تسلط الطاغوت خيار لا يحركه حب المعرفة (كما عند ابن عربي)، بل تدفعه تلك الضرورة العمياء، مما يجعل من النص الشعري «قارب إلى لسبوس»، بمنزلة مرثيّة للتغريبة السورية الكبرى. كما يجعله ينبع من شعرية وجود وكينونة (شعرية صدام مع الذات). وليست شعرية صدام مع الآخر، لأن الصدام مع الآخر كما يشير الشاعر الأيرلندي ييتس يصنع البلاغة، في حين يصنع الصدام مع الذات، الشعر. بهذا، صنعت النصوص الشعرية للجراح، صدامًا مع الذات لا مع الآخر، مما يمنحها شعرية الكينونة.
التغريبة السورية
يقدّم الشاعر نوري الجراح، نصوص «قارب إلى لسبوس» على شكل ألواح، حيث يخط على ألواحه قصيدة ملحمية يرثي من خلالها الإنسان السوري في تغريبته الكبرى. يقوم اللوح في هذا النص على ازدواجية المعنى، ذلك أن الألواح هي نفسها حطام قوارب الموت الخلاصية، حيث يستهل اللوح الأول من هذه المرثية، بلوح إغريقي. يتضمن نداء الشاعرة سافو (شاعرة جزيرة لسبوس)، تقول:
أيها السوريون الأليمون
أيها السوريون الوسيمون
الهاربون من الموت
أنتم لا تصدون بالقوارب
ولكنكم تولدون على الشواطئ مع الزبد
تبر هالك أنتم
تبر مصهور وطوع مصوع
من لجة إلى لجّة
في خاصرة بحر الروم
مع نجمة البحر وشقيقها الحبار التائه
ترسلكم الأمواج في ضوء بنات نعش
وتنتهي الملحمة بلوح إغريقي آخر، يتضمن نداءً آخر للشاعرة سافو التي تقول فيه:
أيها السوريون الهلاكيون
السوريون المرتجفون على السواحل
السوريون الهائمون في كل أرض
لا تملأوا جيوبكم بتراب الميت
اهجروا الأرض تلك
ولا تموتوا
موتوا في المجاز
ولا تموتوا في الحقيقة
اتركوا اللغة تدفنكم في أوصافها
صوت الشاعرة سافو
ولدت الشاعرة الإغريقية الغنائية سافو في جزيرة لسبوس عام 615 قبل الميلاد. وفي لسبوس كانت تجمع من حولها عددًا من الفتيات المتيمات بالشعر واللواتي نظمن أنفسهن في فرقة دينية مكرسة للإلهة أفروديت (فينوس).
هؤلاء الشاعرات المتيمات بالشعر، هنّ بنات نعش (لذا جاء العنوان الفرعي للديوان تحت مسمى: مرثية بنات نعش)، يتحركن تحت منظومتين من النجوم. واحدة ساطعة الضوء وأخرى أقل سطوعًا، تشير المرثية هنا، إلى الفتيان المتحلقات حول الشاعرة سافو، وإلى بنات نعش الدائرات في الأفلاك. وقد شاءت ظروف السوريين في تغريبتهم أن تكون جزيرة لسبوس المكان الذي يتجهون إليه، لأن خيارهم صار خيارًا خلاصيًّا، لا يحركه حب المعرفة، كما أشرنا سلفًا، بل تدفعه الضرورة العمياء، حيث لم يعد هناك من خيار.
لهذا، فإن استعارة الشاعر الجراح لصوت سافو شاعرة لسبوس، لمخاطبة السوريين، تكتسب تعليلاً فنيًّا ذكيًّا من الشاعر. كما أن استعارته لهذا الصوت الغنائي، لاختتام هذه القصيدة الملحمية اللاهثة، يحقق ما تقتضيه الذروة في العمل الفني. ذلك أن استعارة صوت الآخر، تحيلنا بدورها إلى علاقة شعر نوري الجراح بالثقافات الأخرى، خاصة الثقافات المتوسطية المنفتحة على فكر الآخر.
وعلى الفكر السوري الشامي خاصة، إلا أن ثقافة الآخر في هذا السياق، هي فضلاً عن أنها ثقافة الذات/ ثقافة المنطقة، فإنها تكتسي في هذا السياق بُعدها الكوني، مما يخول لها إعادة صياغة مفهومي الأصالة والهجنة في مستوى واحد، كما يجعل قصيدة «قارب إلى لسبوس» تقوم على فكرة وحدة الوجود كما تجلت عند ابن عربي.
هكذا عمل الشاعر نوري الجراح من خلال «قارب إلى لسبوس» على بناء بُعد معرفي وجمالي شعريين، كما خلق فسحة ضوء تغذي الوجدان الجمعي، وتبعث خامل الجذور، كما يقول إليوت .