قواعد الملاحة العربية
كتاب جديد صدر بعد طول انتظار باللغة الإنجليزية عن مركز البحوث والدراسات الكويتية في الكويت، بالتعاون مع دار نشر Arabian Publishing البريطانية في لندن، وعنوانه قواعد الملاحة العربية (The Principles of Arabian Navigation)، وشارك في تأليفه 6 من الباحثين المختصين بالتراث البحري والملاحة عند العرب.
وهو كتاب قيّم سيُغْني مكتباتنا لما يحتويه من معلومات غزيرة عن التاريخ والتراث البحري العربي الذي انتهى بنهاية عصر الشراع، ومن واجب أجيالنا معرفته بتفاصيله وإحياؤه من جديد، لأنه مكوّن أساسي من مكونات حضارتنا، التي من واجبنا أن نبعث بها روحًا جديدة لكي ننهض في جميع المجالات العلمية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، ولذا تصبح ترجمة هذا الكتاب إلى "العربية" أمرًا ضروريًّا.
يتكون هذا الكتاب من تسعة فصول ممتعة وغنية بالمعلومات تناول فيها المؤلفون الستة هذا التراث والتاريخ البحري من جوانب عدة، إضافة إلى الملحقات والحواشي المفيدة والخرائط والرسوم والصور، وجميعها على مستوى راقٍ جدًا طباعة وإعدادًا.
وهؤلاء المؤلفون هم د. أنتوني كونستابل (بريطانيا)، ود. حسن صالح شهاب (اليمن)،
ود. يعقوب يوسف الحجي (الكويت)، ود. إريك ستايلز (الولايات المتحدة الأمريكية)، وبول لوند (بريطانيا)، والناشر وليام فاسي (بريطانيا).
وقد شارك هؤلاء جميعًا بإخراج هذا الكتاب بأجمل صورة في الشكل والمضمون.
وبعد مقدمة موجزة من الناشر وليام فاسي، يبدأ كونستابل الفصل الأول وعنوانه «تاريخ الملاحة في المحيط الهندي»، الذي يشرح فيه أساليب الملاحة التقليدية عند العرب والهنود، وتطورها عبر العصور القديمة في منطقة شاسعة تمتد من سواحل الجزيرة العربية إلى الصين في الشرق الأقصى، مرورًا بسواحل إفريقيا الشرقية والهند وسيلان وماليزيا وإندونيسيا، والدور الذي لعبه علماء الفلك والجغرافيون والرحّالة والقباطنة الكبار ورسامو الخرائط على مدى قرون طويلة في تطوّر علم الملاحة، وأهمية هذا النشاط التجاري لازدهار الحضارات وتواصل الشعوب فيما بينها.
ومنذ البدايات الأولى كان للملاحة علاقة وثيقة بعلم الفلك ومراقبة النجوم والحسابات الرياضية، ومن الملاحة والأسفار البحرية والبرية والاستكشافات نشأ علم الجغرافيا، ثم القدرة على رسم الخرائط لهذا العالم الذي نعيش فيه.
ويذكر المؤلف كيف انتقلت علوم القدماء من البابليين والكلدان وكذلك فينيقيا ومصر إلى اليونان الذين كان لهم دور كبير في تطوير علوم الفلك والرياضيات والهندسة والملاحة، وتمكنوا من التوسع شرقًا، فطوّروا علم الجغرافيا، خصوصًا في عصر بطليموس الذي عاش في الإسكندرية (ق2 ميلادي)، وألّف أهم كتب عصره وهو «المجسطي» عن الفلك وكتاب آخر في الجغرافيا، واستطاع بحساباته وقياساته الفلكية تحديد مواقع ثمانية آلاف مدينة من العالم المعروف في عصره.
وكان عالم الفلك اليوناني Hipparchus من قبله، وتوصل إلى ابتكار طريقة هندسية لتحديد خطوط العرض التي تساعد الملاحين على معرفة مواقعهم في البحر وتحديد وجهة سفنهم. وقد استعمل العرب وكذلك الهنود على مدى قرون طويلة أداة بدائية تسمى «الكمال» لتحديد المواقع والاتجاهات عن طريق مراقبة النجوم، وخصوصًا النجم القطبي بواسطة هذه الأداة التي هي عبارة عن قطعة خشبية مستطيلة صغيرة الحجم يربط بها خيط سميك به عُقد تقاس بها الزاوية الناتجة عن موقع النجم بالنسبة للأفق، كما استخدم البحارة جداول وحسابات فلكية لمعرفة وجهتهم الصحيحة عبر البحار والمحيطات، ثم استعمل العرب البوصلة التي عرفها الصينيون قبلهم بقرون، ومن المشرق العربي انتقلت إلى أوربا.
وفي العصور الوسطى استُعمل الأسطرلاب في الأسفار البحرية، وابتكر الأوربيون بعد ذلك أدوات مهمة للقياسات الفلكية البحرية، منها أداة الربع وأداة السدس لإجراء القياسات والحسابات الفلكية البحرية.
واستمر تطور علم الملاحة عبر التاريخ إلى أن انتهى عصر السفن الشراعية، ودخلنا عصر أجهزة التكنولوجيا الحديثة التي تعمل بالحواسيب والرادارات والأقمار الاصطناعية.
وكانت الملاحة التقليدية عبر التاريخ عند العرب في بحارهم وفي المحيط الهندي مرتبطة بشكل مباشر بالرياح الموسمية التي تهب باتجاهين متعاكسين في فصلي الصيف والشتاء، فكانوا مثلاً في بداية الصيف يبحرون إلى الهند مع هبوب الرياح الجنوبية الغربية، ويعودون إلى ديارهم في فصل الشتاء مع هبوب الرياح الشمالية الشرقية، محمّلين بمختلف البضائع والمنتجات في كلا الاتجاهين، وهذا هو أساس شهرة رحلتَي الشتاء والصيف عند العرب على مر العصور.
الملاحة عند العرب والنجوم
في الفصل الثاني وعنوانه «الملاحة عند العرب والنجوم» يقدم د. حسن شهاب عرضًا لأهم سمات الملاحة التقليدية عند العرب. وهذا الفصل هو ترجمة لبحث له باللغة العربية عنوانه «في الملاحة عند العرب». يذكر أن للدكتور شهاب مؤلفًا آخر مهمًّا بعنوان «المراكب العربية... تاريخها وأنواعها».
ويشير د. شهاب إلى أن الاعتماد على مراقبة وقراءة السماء وحركة النجوم ورصدها مازالت تمارُس عند الأعراب في الصحراء ومجموعات من البحّارة حول سواحل الجزيرة العربية وإفريقيا الشرقية، فعلى الرغم من انتهاء عصر السفن الشراعية، مازال هؤلاء يمارسون الأساليب والمعارف التقليدية والمتوارثة عبر العصور، وأهمها معرفة مواقع مطلَع ومغيب مجموعة من النجوم الأكثر وضوحًا، وأهمها النجم القطبي الشمالي.
وكان القدماء يستعملون أداة الكمال لتحديد مواقعهم واتجاه سفنهم بالنظر إلى هذه النجوم وقياس مواقعها بما يعرف عندهم كوحدة قياس للزوايا، وهي مصطلح «الأصبع» الذي استعمله العرب والهنود في حساباتهم ومقداره 136 تقريبًا، بحيث يكون 224 أصبعًا تساوي 366 درجة، فيقيسون مطلع النجوم أمامهم ومغيبها خلفهم بواسطة «الكمال» ودرجات زوايا كل مطلع وكل مغيب فوق الأفق بـ «الأصبع»، وهكذا يمكنهم معرفة مواقعهم واتجاههم الصحيح عند مراجعة جداول خاصة بالملاحة لقياس وحساب حركة النجوم هذه، وهي أمور لا يستغني عنها ربابنة السفن الشراعية، وتربط مهنتهم مباشرة بعلم الفلك وحسابات حركة النجوم، وهو علم غزير له قواعده ومصطلحاته التي على البحارة معرفتها وفهمها لكي يصلوا إلى وجهاتهم بأمان، خصوصًا في رحلاتهم عبر البحار والمحيطات الشاسعة.
وجميع ما تقدم يشكّل علمًا قائمًا بذاته يجمع بين علوم الفلك والرياضيات والهندسة والحساب والجغرافيا، ولذلك فإن دور الملاحة والتجارة مهم جدًّا في تطور البشرية وازدهار الحضارات على مدى آلاف السنين.
أساليب الملاحة بعد عام 1850
في الفصل الثالث وعنوانه «أساليب الملاحة العربية بعد عام 1850»، يذكر د. يعقوب الحجي أهم التطورات التي طرأت على أساليب الملاحة التقليدية عند العرب، خصوصًا بعد استعمال أجهزة جديدة، منها آلة السدس لرصد حركة الشمس والكرونوميتر (أداة لقياس الزمن بدقة)، فبدأ البعض باستعمال حسابات جديدة تتعلق بحركة الشمس من أجل تحديد المواقع والوجهات، وهذا كان يتطلب مهارات جديدة لم تكن معروفة من قبل، والأرجح أن هذه الأساليب الجديدة دخلت على المنطقة بعد وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي وسواحل إفريقيا الشرقية منذ عام 1497.
وقد تعلّم عدد من القباطنة المحليين استعمال آلة السدس مع استعمال ما يسمى بـ «البوصلة العربية» وجداول خاصة لتحديد مواقعهم ووجهاتهم بإجراء حسابات هندسية.
ويذكر د. الحجي في هذا الفصل عددًا من ربابنة السفن الكويتيين الذين تركوا لنا العديد من «رزناماتهم»، وهي سجلات رحلاتهم عبر المحيط الهندي وبحر العرب، لنستدل على أساليب الملاحة في ذلك العصر، وهو آخر عصور السفر بالسفن الشراعية. ومن «نواخذة» الكويت المذكورين في هذا الفصل أحمد الخشتي ومعيوف البدر وعيسى العثمان وعيسى بشارة، وهؤلاء وعشرات مثلهم هم آخر جيل من ربابنة السفن الشراعية في الكويت.
وفي الفصل الرابع يوثّق د. ستايلز رحلة السفينة الشراعية العمانية «جوهرة مسقط» من عمان إلى سنغافورة 3.800 ميل بحري، التي شارك فيها عام 2010، واستغرقت 139 يومًا، لكن مجموع الأيام التي أبحروا فيها عبر مراحل الرحلة بالشراع فقط، من دون استعمال المحركات، هو 68 يومًا، بمعدل يومي 65 ميلاً تقريبًا.
و«الجوهرة» صنعها العمانيون أنفسهم بالأساليب التقليدية التي مارسها أجدادهم في الماضي عندما حكموا امبراطورية تجارية شاسعة، وكانوا يبنون سفنهم الخشبية الشهيرة ويخيطون ألواحها بالحبال دون استعمال المسامير الحديدية. وقد تقرر صنعها وقيامها بالرحلة إلى سنغافورة، بعد العثور على سفينة عمانية قديمة في إندونيسيا عام 1998.
وتكمن أهمية هذه الرحلة في أنه على الرغم من تجهيز «الجوهرة» بأحدث الأجهزة الملاحية الإلكترونية، فقد مارس بحّارتها بقيادة القبطان العماني صالح الجبري أساليب الأجداد نفسها في أسفارهم عبر البحار والمحيطات، كما في الماضي.
ولذلك فإن هذه الرحلة هي في الواقع دراسة لأساليب الملاحة القديمة، ومنها استعمال «الكمال» والجداول القديمة لرصد النجوم.
فقد عبروا بـ «الجوهرة» بحر العرب وغرب المحيط الهندي من عُمان إلى كوشين في الهند ( 28 يومًا)، ومن هناك إلى جزيرة سيلان، ومنها إلى ماليزيا ثم سنغافورة في الجنوب. ويشير د. ستايلز في هذا الفصل إلى ضرورة اهتمام العرب بالتراث البحري، وإجراء العديد من الدراسات العملية والرحلات البحرية لتوثيق هذا التراث الثري بطريقة علمية قبل ضياعه نهائيًا.
حاوية الاختصار
يعود الباحث بول لوند في الفصلين الخامس والسادس إلى مؤلفات كل من القبطان العماني الشهير أحمد بن ماجد النجدي، والقبطان الحضرمي سليمان المهري، الذي كان من أشهر قباطنة عصره. وللاثنين مؤلفات مهمة في عالم الملاحة، وقد تأثر الثاني بالأول؛ الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي. وأهم مؤلفات أحمد بن ماجد هي «حاوية الاختصار في أصول علم البحار»، وهي قصيدة تتكون من أكثر من 1000 بيت، و«كتاب الفوائد في أصول البحر والقواعد»، الذي ألّفه عام 1489، بعد خبرة طويلة في الأسفار البحرية.
أما أهم مؤلفات سليمان المهري فهي كتاب «عمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية»، الذي ألّفه عام 1511م، والكتاب الآخر المهم هو «المنهج الفاخر في علم البحر الزاخر».
وجميع هذه الكتب تحتوي على معلومات مهمة عن الطرق البحرية إلى أقطار بعيدة في إفريقيا والشرق الأقصى وموانئ هذه الأقطار، ومواسم الرياح وقياسات فلكية، وجداول وإرشادات مهمة جدًا للعاملين في الأسفار البحرية.
وفي الفصل السابع يروي د. يعقوب الحجي قصة لقاء الرحّالة والصحفي الأسترالي ألن فيليرز مع القبطان الكويتي علي النجدي في عدن عام 1939، وقبول النجدي طلب فيليرز بأن يرافقه في رحلته من عدن إلى موانئ إفريقيا الشرقية، ومنها إلى الكويت على سفينته الشهيرة «فتح الخير»، وهي من نوع «بوم» كويتي الصنع.
وقد خلّد فيليرز هذه الرحلة الشائقة، فيما بعد، في كتابه الشهير «أبناء السندباد»، الذي يعتبر وثيقة تاريخية مهمة لتراث عريق دام آلاف السنين، قبل أن يندثر وينتهي إلى الأبد. وكان الكويتيون في الماضي يبحرون إلى البصرة ويحملون تمورها إلى موانئ الهند وسيلان في سبتمبر، ثم يعودون إلى الخليج وبحر العرب بمنتجات الهند والشرق الأقصى، كما كانوا يبحرون إلى موانئ إفريقيا الشرقية ويحمّلون سفنهم بخشب «الجندل» من دلتا الروفجي، ويعودون بها إلى الكويت وموانئ الخليج.
الملاحة في «المتوسط»
وفي الفصل الثامن يصف د. يعقوب الحجي الملاحة في البحر الأبيض المتوسط، هذا البحر العتيق والمميز الذي يعتبر عبر العصور بحر الحضارات منذ أيّام الفينيقيين والمصريين والإغريق والقرطاجيين والرومان، هذا البحر الذي نصفه عربي شرقًا وجنوبًا)، ونصفه الثاني أوربي شمالاً وغربًا.
ويشير الحجي إلى أن هذا البحر الذي يمتد من الشرق إلى الغرب لمسافة 2200 ميل، ومن الشمال إلى الجنوب 600 ميل ينقسم طبيعيًّا إلى ثلاثة أجزاء: شرق ووسط وغرب، وتختلف أساليب الملاحة فيه عن الأساليب المتّبعة في بحر العرب والمحيط الهندي، وهي لا تتطلب القياسات الفلكية والحسابات المعقدة التي لا يستغني عنها بحّارة الشرق، فما يجب على الملاحين معرفته خلال أسفارهم في هذا البحر هو طبيعة الرياح واتجاهها ومواقيتها والمعالم الطبيعية والتضاريس المميزة، التي يتّبعونها لمعرفة مسارهم في الاتجاه الصحيح حتى وصولهم إلى وجهتهم، وجميع هذه المعلومات مدوّنة في سجلات يسترشدون بها في رحلاتهم دون الحاجة إلى استعمال أي من آلات القياس والجداول المستعملة في الرحلات عبر المحيطات.
أساليب الملاحة في البحر الأحمر
وفي الفصل التاسع والأخير يصف وليام فاسي أساليب الملاحة في البحر الأحمر، فيشير إلى أن هذا البحر يصل ثلاث قارات ببعضها البعض، إذ يصل أوربا بالمحيط الهندي وموانئ إفريقيا الشرقية والجزيرة العربية والهند والشرق الأقصى منذ عصر الفراعنة والإغريق والرومان، وتنقسم الملاحة فيه عند الملاحين إلى قسمين متساويين تقريبًا شمالاً وجنوبًا، بينما تعتبر جدة هي الميناء الأهم في الوسط.
ففي الجنوب يمارس البحارة مهنتهم بنفس أساليب قيادة السفن في بحر العرب والمحيط الهندي، ويستعملون الأدوات والقياسات والجداول الفلكية نفسها، ويتبعون المواسم المتعلقة بالرياح نفسها.
أما الجزء الشمالي من جدة إلى مصر والسويس فهم يتبعون أساليب الملاحة في البحر الأبيض المتوسط، فلا حاجة إلى استعمال الأدوات والجداول الفلكية كما في القسم الجنوبي؛ إذ تكفي معرفتهم بالمعالم والتضاريس الطبيعية المتميزة عبر رحلاتهم، إضافة إلى اتجاه الرياح. وتكثر في البحر الأحمر الجزر والشُّعب المرجانية والنواحي الضحلة التي تشكّل خطرًا على حركة السفن فيه، وتتطلب مهارات خاصة .