شجو الرحيل وصمت الملحّنة أسماء حمزة

 شجو الرحيل وصمت الملحّنة أسماء حمزة

عن‭ ‬اثنين‭ ‬وثمانين‭ ‬عامًا،‭ ‬انتقلت‭ ‬قبل‭ ‬أشهر‭ ‬قلائل‭ ‬إلى‭ ‬رحاب‭ ‬الله،‭ ‬عازفة‭ ‬العود‭ ‬والملحنـــة‭ ‬السودانـــيــــة‭ ‬الشهيرة‭ ‬أسماء‭ ‬حمزة،‭ ‬وبرحيل‭ ‬اللا‭ ‬عودة‭ ‬انطوت‭ ‬الصفحة‭ ‬الوحــــيدة‭ ‬في‭ ‬دفتر‭ ‬ألحان‭ ‬المرأة‭ ‬للأغاني‭ ‬الـــــجـادة‭ ‬الملــــتـــــــزمة‭ ‬فـــــي‭ ‬الــــــسودان،‭ ‬لا‭ ‬سيمـــا‭ ‬وهـي‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬النادرات‭ ‬جدًا‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الراهن‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬العربي‭ ‬والإفريقي،‭ ‬اللائي‭ ‬جمعن‭ ‬بين‭ ‬حرفتي‭ ‬التلحين‭ ‬والعزف‭ ‬الموسيقي،‭ ‬وخضن‭ ‬التجربة‭ ‬باحترافية‭ ‬عالية،‭ ‬أنتجت‭ ‬خلالها‭ ‬عشرات‭ ‬الألحان‭ ‬الغنائية‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬الترحيب‭ ‬والاحتفاء‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الشعراء‭ ‬والمطربين‭ ‬والمتلقين،‭ ‬مبرهنةً‭ ‬على‭ ‬إمكانات‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬متى‭ ‬توافرت‭ ‬لها‭ ‬الموهبة‭ ‬والعزيمة‭.‬

في‭ ‬البداية‭ ‬يقودنا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الملحنة‭ ‬أسماء‭ ‬حمزة‭ ‬إلى‭ ‬تلمّس‭ ‬أصداء‭ ‬صوت‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬والإفريقية‭ ‬شمال‭ ‬الصحراء‭ -  ‬الانتماء‭ ‬واللغة‭ - ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التلحين‭ ‬الغنائي،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬لها‭ ‬صوتًا،‭ ‬لكنه‭ ‬خافت‭ ‬كأنها‭ ‬تدسّه‭ ‬في‭ ‬جوفها‭ ‬أو‭ ‬تلحن‭ ‬بهمس،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬مارسته‭ ‬منذ‭ ‬أزمنة‭ ‬غابرة،‭ ‬لكونه‭ ‬فطرة‭ ‬إنسانية‭ ‬وملَكة‭ ‬إبداعية‭ ‬لا‭ ‬تتوافر‭ ‬لكثيرين،‭ ‬ولم‭ ‬تحدثنا‭ ‬المؤلَّفات‭ ‬ولا‭ ‬الأدبيات،‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬الغنائي‭ ‬العربي‭ ‬والإفريقي،‭ ‬عن‭ ‬تلحين‭ ‬وعزف‭ ‬النساء‭ ‬إلا‭ ‬قليلًا،‭ ‬وبالكاد‭ ‬لا‭ ‬أسمع‭ ‬أجهزة‭ ‬البث‭ ‬عند‭ ‬تقديمها‭ ‬للأغنيات‭ ‬التي‭ ‬تلحنها‭ ‬المرأة‭ (‬هذه‭ ‬الأغنية‭ ‬من‭ ‬ألحان‭ ‬فلانة‭ ‬الفلانية‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬نعد‭ ‬نراها‭ ‬بالمكانة‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬يحتلها‭ ‬الملحن‭ ‬والعازف‭ ‬الموسيقي،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تحتلها‭ ‬رصيفاتها‭ ‬اللواتي‭ ‬ولجن‭ ‬مسارب‭ ‬فن‭ ‬الغناء،‭ ‬مما‭ ‬يفتح‭ ‬الأبواب‭ ‬مشرعة‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الأسئلة؛‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالنواحي‭ ‬السيكولوجية،‭ ‬والفسيولوجية،‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬وربما‭ ‬الاقتصادية‭.‬

والمعروف‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬كانت‭ ‬منذ‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬تُشعِر،‭ ‬وتُلحن،‭ ‬وتغني‭ ‬منشدة‭ ‬الأراجيز،‭ ‬وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬ارتجاز‭ ‬هند‭ ‬بنت‭ ‬عتبة‭ ‬قبل‭ ‬إسلامها،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬بمكة‭ ‬كن‭ ‬يضربن‭ ‬الدفوف‭ ‬وينشدن‭ ‬متغنيات‭ ‬بحماس‭ ‬في‭ ‬واقعة‭ ‬أحد‭:‬

نـــحـن‭ ‬بـــنات‭ ‬طــــارق

نمشي‭ ‬على‭ ‬النـــمارق‭ ‬

الـــدر‭ ‬في‭ ‬المـخـــانـق

والـمـسك‭ ‬في‭ ‬المفارق

هذه‭ ‬الأرجوزة‭ ‬من‭ ‬بحر‭ ‬الرجز،‭ ‬وهو‭ ‬بحر‭ ‬شعبي‭ ‬تستخدمه‭ ‬النساء‭ ‬عند‭ ‬الظعن،‭ ‬وفي‭ ‬حداء‭ ‬الإبل،‭ ‬وفي‭ ‬الرقص‭ ‬والأفراح،‭ ‬أو‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬الحروب،‭ ‬لكن‭ -  ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬لي‭ ‬د‭. ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬محمد‭ ‬أحمد‭ (‬أستاذ‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬جامعة‭ ‬الخرطوم‭) ‬عندما‭ ‬تغير‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬ظهرت‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬أروع‭ ‬تجلياتها‭ ‬اللحنية،‭ ‬ذلك‭ ‬حينما‭ ‬هاجر‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬المدينة،‭ ‬وخرج‭ ‬الأطفال‭ ‬والنساء‭ ‬فرحين‭ ‬بمقدمه‭ ‬ينشدون‭ ‬ويتغنون‭ ‬بتلقائية‭ ‬محضة‭:‬

 

طلع‭ ‬البدر‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬ثنيات‭ ‬الوداع‭ ‬

فكانت‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬من‭ ‬بحر‭ ‬الرّمَل‭ ‬ينشدها‭ ‬النساء‭ ‬والأطفال،‭ ‬وهذا‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬ابتداع‭ ‬فني‭ ‬جديد،‭ ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬أو‭ ‬الأناشيد‭ - ‬على‭ ‬حد‭ ‬قوله‭ -  ‬تولد‭ ‬ملحّنة‭ ‬ولا‭ ‬تقبل‭ ‬غير‭ ‬اللحن‭ ‬الذي‭ ‬خرجت‭ ‬به،‭ ‬لأنها‭ ‬نظمت‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬لكي‭ ‬تُغنى‭.‬

 

تطور‭ ‬ظاهرة‭ ‬الغناء‭ ‬النسائي

مما‭ ‬يعزز‭ ‬أن‭ ‬جوهر‭ ‬الإنشاد‭ ‬كنمط‭ ‬من‭ ‬أنماط‭  ‬الفن‭ ‬الغنائي‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬الشعر‭ ‬والإبداع‭ ‬اللحني‭ ‬الارتجالي‭ ‬والتعبير‭ ‬التطريبي،‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬كانت‭ ‬تؤديه‭ ‬مفطورة‭ ‬بإمتاع،‭ ‬كما‭ ‬الرجل،‭ ‬وأحدثت‭ ‬به‭ ‬أثرًا‭ ‬عميقًا‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الناس‭ ‬ومشاعرهم،‭ ‬ثم‭ ‬تقدم‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬من‭ ‬طور‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬إثر‭ ‬الفتوحات‭ ‬والهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الأمصار‭ ‬الجديدة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬العصر‭ ‬العباسي
‭(‬750‭ - ‬1258م‭) ‬وأحدث‭ ‬انقلابًا‭ ‬ملموسًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الضرب‭ ‬من‭ ‬الإبداع،‭ ‬فاتخذ‭ ‬الغناء‭ ‬منحى‭ ‬جديدًا‭ ‬شعرًا‭ ‬ولحنًا‭ ‬وموسيقى‭ ‬وأداءً،‭ ‬نتيجة‭ ‬لاختلاط‭ ‬العرب‭ ‬بالأعاجم‭ ‬كالفرس‭ ‬والروم‭ ‬مثالًا،‭ ‬والتغير‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وظهور‭ ‬واختراع‭ ‬المعازف‭.‬

وقد‭ ‬حدثنا‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬وما‭ ‬زالت‭ ‬صناعة‭ ‬الغناء‭ ‬تتدرج‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كملت‭ ‬أيام‭ ‬بني‭ ‬العباس‮»‬،‭ ‬وكثرت‭ ‬مجالس‭ ‬اللهو‭ ‬والطرب،‭ ‬وتفشت‭ ‬ظاهرة‭ ‬الفردية‭ ‬لدى‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الغناء‭ ‬والألحان‭ ‬في‭ ‬أنصع‭ ‬صورها،‭ ‬بظهور‭ ‬المغنيات‭ ‬والملحنات‭ ‬والعازفات‭ ‬على‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬وسطوع‭ ‬بريقهن،‭ ‬وكانت‭ ‬أعلاهن‭ ‬منزلة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬علية‭ ‬بنت‭ ‬المهدي‭ (‬777‭ ‬ذ‭ ‬825م‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭ ‬الشعر‭ ‬الجيد،‭ ‬والألحان‭ ‬الحسنة،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الأغاني‮»‬‭ ‬للأصفهاني،‭ ‬وتحب‭ ‬لحن‭ ‬الرمل‭ ‬وتقول‭: ‬‮«‬من‭ ‬لم‭ ‬يطربه‭ ‬الرمل‭ ‬لم‭ ‬يطربه‭ ‬شيء‮»‬،‭ ‬وعريب‭ ‬المأمونية‭ (‬797‭ - ‬890م‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬مشاهير‭ ‬الغناء‭ ‬والعزف‭ ‬والتلحين‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الزمان،‭ (‬كانت‭ ‬عريب‭ ‬مغنية‭ ‬محسنة،‭ ‬وشاعرة‭ ‬صالحة‭ ‬للشعر،‭ ‬وكانت‭ ‬مليحة‭ ‬الخط‭ ‬والمذهب‭ ‬في‭ ‬الكلام،‭ ‬ونهاية‭ ‬الحسن‭ ‬والجمال‭ ‬والظرف،‭ ‬وحسن‭ ‬الصورة،‭ ‬وجودة‭ ‬الضرب،‭ ‬وإتقان‭ ‬الصنعة‭ ‬والمعرفة‭ ‬بالنغم‭ ‬والأوتار،‭ ‬والرواية‭ ‬للشعر‭ ‬والأدب،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬نظير‭).‬

وتأتي‭ ‬بعدها‭ ‬شارية‭ (‬815‭ - ‬870م‭) ‬التي‭ ‬‮«‬كان‭ ‬المعتز‭ ‬يأبى‭ ‬أن‭ ‬يُلحن‭ ‬له‭ ‬أشعاره‭ ‬سواها‭ ‬وسوى‭ ‬عريب‮»‬‭ - ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬ذكر‭ ‬د‭. ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ - ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬الثاني‮»‬‭.‬

ولم‭ ‬تنته‭ ‬أو‭ ‬تتوقف‭ ‬مسيرة‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬والتلحين‭ ‬والعزف‭ ‬على‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬عند‭ ‬ذاك‭ ‬العصر،‭ ‬بيد‭ ‬أنها‭ ‬نشطت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الأندلسي‭ (‬711‭ - ‬1492م‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬للنسوة‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬تجديد‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬والموسيقى،‭ ‬مثل‭ ‬قمر‭ ‬البغدادية‭ ‬المُجيدة‭ ‬لصوغ‭ ‬الألحان،‭ ‬وتأثر‭ ‬الشمال‭ ‬الإفريقي‭ ‬بتلك‭ ‬الأجواء‭ ‬الغنائية‭.‬

وبعد‭ ‬سقوط‭ ‬غرناطة‭ ‬انحسر‭ ‬نشاط‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬الألحان‭ ‬الغنائية‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬قلّما‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬البال،‭ ‬حتى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬حيث‭ ‬ظهر‭ ‬بشكل‭ ‬لافت‭ ‬مغنيات‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬أمثال‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬في‭ ‬مصر‭ (‬1908‭ - ‬1975م‭)‬،‭ ‬وصباح‭  (‬1927‭ - ‬2014م‭) ‬وفيروز‭ (‬1935م‭) ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وغيرهن،‭ ‬وعلى‭ ‬قلّتهن‭ ‬مقارنة‭ ‬بالأعداد‭ ‬الكبيرة‭ ‬من‭ ‬المطربين‭ ‬الذين‭ ‬ظهروا‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬ذاتها،‭ ‬خضن‭ ‬تجاربهن‭ ‬الغنائية‭ ‬بألحان‭ ‬صاغها‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الملحنين‭ ‬البارزين،‭ ‬وتفوقن‭ ‬وأثبتن‭ ‬جدارة‭ ‬فائقة‭ ‬تضع‭ ‬أسماءهن‭ ‬في‭ ‬بطون‭ ‬التاريخ،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬نشاط‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التلحين‭ ‬والعزف‭ ‬على‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬العربي‭ ‬والإفريقي‭ ‬محدودًا‭ ‬للغاية،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬تجلّى‭ ‬علو‭ ‬كعب‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الإبداع‭ ‬اللحني‭ ‬بعطاءٍ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عطائها،‭ ‬ونال‭ ‬حظًا‭ ‬من‭ ‬الشهرة‭ ‬أكثر‭ ‬منها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أسهم‭ ‬بعض‭ ‬الملحنين‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬أصوات‭ ‬نسائية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الغناء،‭ ‬وحتى‭ ‬اللاتي‭ ‬خضن‭ ‬تجربة‭ ‬التلحين‭ ‬والعزف‭ ‬الموسيقي‭ ‬وقدمن‭ ‬عطاءً‭ ‬انحرف‭ ‬بعضهن‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬نحو‭ ‬مسارات‭ ‬إبداعية‭ ‬أخرى،‭ ‬ولم‭ ‬يصب‭ ‬بعضهن‭ ‬نجاحًا‭ ‬يُذكر،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تكتب‭ ‬للبعض‭ ‬الاستمرارية،‭ ‬عدا‭ ‬اللبنانية‭  ‬لور‭ ‬دكاش‭ (‬1917‭ - ‬2005م‭) ‬الملقبة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬ملكة‭ ‬التواشيح‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬قدمت‭ ‬خلال‭ ‬سني‭ ‬حياتها‭ ‬نحو‭ ‬90‭ ‬لحنًا‭ - ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬محمد‭ ‬الأسواني‭ - ‬ونادرة‭ ‬أمين‭ (‬1906‭ - ‬1990م‭)  ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬للإذاعة‭ ‬المصرية‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الألحان،‭ ‬ومنار‭ ‬أبوهيف‭  (‬1932م‭) ‬وبهيجة‭ ‬حافظ‭ ‬وغيرهن‭ ‬قليلات‭.‬

هذه‭ ‬المقدمة‭ ‬الطويلة‭ ‬أثارها‭ ‬شجو‭ ‬رحيل‭ ‬وصمت‭ ‬الموسيقارة‭ ‬المبدعة‭ ‬أسماء‭ ‬حمزة‭ ‬بشير‭ ‬نصر‭ ‬في‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬2018م‭ ‬كواحدة‭ ‬من‭ ‬رائدات‭ ‬التلحين‭ ‬والعزف‭ ‬الموسيقي‭ ‬في‭ ‬المنطقتين‭ ‬العربية‭ ‬والإفريقية،‭ ‬ومن‭ ‬جيل‭ ‬نادر‭ ‬غادر‭ ‬ساحة‭ ‬الغناء‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أوبة،‭ ‬وكذلك‭ ‬شح‭ ‬المعلومات‭ ‬عن‭ ‬جهود‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬اللحني‭ ‬والعزف‭ ‬والتأليف‭ ‬الموسيقي،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬تمتلك‭ ‬الموهبة‭ ‬والحس‭ ‬اللذين‭ ‬يُمكِّنانها‭ ‬من‭ ‬أداء‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬بجدارة‭.‬

 

أول‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬العزف‭ ‬والتلحين

لم‭ ‬تكن‭ ‬تجربة‭ ‬أسماء‭ ‬حمزة‭ ‬في‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬العود‭ ‬والتلحين‭ ‬هي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬إذ‭ ‬سبقتها‭ ‬الجداوية‭ ‬موسى،‭ ‬أول‭ ‬سودانية‭ ‬تحترف‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الآلة،‭ ‬وتنضم‭ ‬إلى‭ ‬أوركسترا‭ ‬الإذاعة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1942م،‭ ‬ولم‭ ‬تنل‭ ‬من‭ ‬الشهرة‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬نالت‭ ‬شقيقتها‭ ‬المطربة‭ ‬عائشة‭ ‬موسى،‭ ‬المعروفة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الفلاتية‮»‬‭ (‬1922‭ - ‬1974م‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬تفرغت‭ ‬للغناء‭ ‬الذي‭ ‬تؤلفه‭ ‬وتلحنه،‭ ‬واشتهرت‭ ‬بأنها‭ ‬أول‭ ‬مغنية‭ ‬سودانية‭ ‬بأغانيها‭ ‬التي‭ ‬سجلتها‭ ‬للإذاعة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1942م،‭ ‬وكانت‭ ‬أيضًا‭ ‬الموسيقية‭ ‬زكية‭ ‬أبو‭ ‬القاسم‭ ‬أول‭ ‬عازفة‭ ‬سودانية‭ ‬على‭ ‬آلتي‭ ‬الجيتار‭ ‬والباص‭ ‬جيتار،‭ ‬وقدمت‭ ‬عطاءها‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬ولم‭ ‬تعرف‭ ‬إلا‭ ‬بمشاركتها‭ ‬في‭ ‬فرقة‭ ‬جاز‭ ‬شرحبيل‭ ‬أحمد‭ (‬رفيق‭ ‬دربها‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬ظهرت‭ ‬تجارب‭ ‬لحنية‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬أغاني‭ ‬البنات‭ ‬لا‭ ‬يعتد‭ ‬بها‭ ‬تاريخيًّا‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬أسماء‭ ‬حمزة،‭ ‬المولودة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1936م،‭ ‬هي‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬انفردت‭ ‬بين‭ ‬بنات‭ ‬جيلها‭ ‬وجمعت‭ ‬بين‭ ‬طرفين‭ ‬مهمين‭ ‬في‭ ‬الأغنية‭ (‬التلحين‭ ‬والعزف‭ ‬الموسيقي‭)‬،‭ ‬ونذرت‭ ‬نفسها‭ ‬لهما،‭ ‬وخاضت‭ ‬تجربتها‭ ‬وحدها‭ ‬باحترافية‭ ‬عالية‭ ‬وتميّز‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬عامًا،‭ ‬وظلت‭ ‬هي‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬مؤلفاتها‭ ‬اللحنية‭ ‬على‭ ‬السلّم‭ ‬الخماسي‭ ‬لعديد‭ ‬من‭ ‬المطربين‭ ‬والمطربات‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬ووضعت‭ ‬للمرأة‭ ‬عتبة‭ ‬راسخة‭ ‬من‭ ‬عتبات‭ ‬العمارة‭ ‬اللحنية‭ ‬والموسيقية‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬السوداني‭.  ‬نشأت‭ ‬أسماء‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬حلفاية‭ ‬الملوك‭ ‬شمال‭ ‬العاصمة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬وحيدة‭ ‬لوالديها‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬ميسورة‭ ‬مثقفة‭ ‬مولعة‭ ‬بالفنون،‭ ‬وخاصة‭ ‬الرسم‭ ‬والموسيقى،‭ ‬وكانت‭ ‬تحمل‭ ‬بين‭ ‬جوانحها‭ ‬منذ‭ ‬باكر‭ ‬السنوات‭ ‬الشغف‭ ‬بالغناء،‭ ‬وحدث‭ ‬يومًا‭ ‬أن‭ ‬فوجئ‭ ‬الأب‭ ‬بأن‭ ‬وحيدته‭ ‬ذات‭ ‬الاثني‭ ‬عشر‭ ‬ربيعًا‭ ‬تجيد‭ ‬الغناء‭ ‬بالتصفير،‭ ‬كما‭ ‬الصبيان،‭ ‬فاندهش‭ ‬لذلك‭ ‬وأعجب‭ ‬بها،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬استعار‭ ‬آلة‭ ‬العود‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائه‭ ‬لتتعلم‭ ‬العزف‭ ‬مؤانسة‭ ‬لوحدتها‭ ‬ولإشباع‭ ‬ميولها‭ ‬نحو‭ ‬الغناء،‭ ‬ليفاجأ‭ ‬الصديق،‭ ‬بعد‭ ‬وقت‭ ‬وجيز،‭ ‬بأن‭ ‬الصبية‭ ‬بزّته‭ ‬في‭ ‬العزف‭ ‬فأعجبه‭ ‬نبوغها،‭ ‬وأهداها‭ ‬الآلة‭ ‬كي‭ ‬تواصل‭ ‬مشوارها‭.‬

بهذا‭ ‬ضمنت‭ ‬العازفة‭ ‬الصغيرة‭ ‬رضاء‭ ‬الأسرة،‭ ‬والأب‭ ‬تحديدًا،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الصك‭ ‬هو‭ ‬الشرط‭ ‬الأساسي‭ ‬الذي‭ ‬يجل‭ ‬عن‭ ‬بروز‭ ‬الموهبة،‭ ‬ورغبة‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬الابتداع‭ ‬الغنائي،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬يعز‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬أن‭ ‬تمضي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الدرب،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الأعراف‭ ‬والتقاليد‭ ‬تقف‭ ‬حائلًا‭ ‬أمام‭ ‬نشاطاتها،‭ ‬وبما‭ ‬يجعل‭ ‬نصيبها‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مشاعرها‭ ‬في‭ ‬حيّز‭ ‬أضيق‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬الأصبعين،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬حتى‭ ‬عهد‭ ‬لا‭ ‬أظنه‭ ‬بعيدًا،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭. ‬حاولت‭ ‬الصبية‭ ‬حمزة‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أن‭ ‬تغني‭ ‬متأثرة‭ ‬بألحان‭ ‬السينما‭ ‬المصرية،‭ ‬وبفنانة‭ ‬العصر‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحوارات‭ (‬أنا‭ ‬أحب‭ ‬الست‭ ‬كثيرًا‭ ‬جدًا،‭ ‬وأستمع‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لياليها‭ ‬وحفلاتها،‭ ‬خاصة‭ ‬حفل‭ ‬الخميس‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أنتظره‭ ‬بفارغ‭ ‬الصبر،‭ ‬وكنت‭ ‬آخذ‭ ‬الراديو‭ ‬وأجلس‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الناس‭ ‬حتى‭ ‬ينتهي‭ ‬الحفل‭).‬

ولم‭ ‬تتحقق‭ ‬لها‭ ‬تلك‭ ‬الرغبة،‭ ‬لخلل‭ ‬في‭ ‬الأحبال‭ ‬الصوتية،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تتحدى‭ ‬القدر،‭ ‬بيد‭ ‬أنها‭ ‬مضت‭ ‬في‭ ‬العزف‭ ‬لإرواء‭ ‬شغفها‭ ‬وإفراغ‭ ‬شحناتها‭ ‬الإبداعية،‭ ‬وكانت‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬النجاح‭. ‬

ولما‭ ‬كانت‭ ‬تحب‭ ‬القراءة‭ ‬والاطلاع‭ ‬أيضًا،‭ ‬فقد‭ ‬التقطت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1955م‭ ‬قصيدة‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬علي‭ ‬محمود‭ ‬طه‭ ‬المهندس‭ (‬1901‭ - ‬1949م‭) ‬من‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬الملّاح‭ ‬التائه‮»‬‭ ‬بعنوان‭  (‬يا‭ ‬عيوني‭) ‬وقامت‭ ‬بتلحينها،‭ ‬ووجدت‭ ‬استحسانًا‭ ‬لدى‭ ‬المهتمين،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الصبية‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يأخذ‭ ‬بيدها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬الأسرة‭ ‬الضيق،‭ ‬مما‭ ‬حملها‭ ‬على‭ ‬العناء‭ ‬والصبر،‭ ‬فأكثرت‭ ‬الركون‭ ‬إلى‭ ‬العود‭ ‬حتى‭ ‬بات‭ ‬لا‭ ‬مضيّ‭ ‬لحياتها‭ ‬دون‭ ‬العزف‭ ‬والتجريب‭ ‬اللحني،‭ ‬وهي‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬جنحت‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬تعليم‭ ‬العزف‭ ‬لابن‭ ‬عمها‭ ‬الموسيقار‭ ‬الشهير‭ ‬بشير‭ ‬عباس‭ ‬بشير‭ ‬نصر‭ (‬1938م‭) ‬في‭ ‬بداية‭ ‬عهده‭ ‬بالموسيقى،‭ (‬تعلّمت‭ ‬العود‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬ابنة‭ ‬عمي‭ ‬الأستاذة‭ ‬أسماء‭ ‬حمزة،‭ ‬وكنت‭ ‬أجلس‭ ‬لألقي‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬حفظت‭ ‬من‭ ‬أغانٍ،‭ ‬وفي‭ ‬يونيو‭ ‬1959م‭ ‬تقدَّمت‭ ‬للإذاعة‭ ‬كعازف‭ ‬عود‭)‬،‭ ‬والغريب‭ ‬أنه‭ ‬يجيد‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬بالتصفير،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النسق‭ ‬لديه‭ ‬في‭ ‬مكتبتي‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتلفزيون‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المقطوعات‭ ‬الموسيقية‭ ‬الرائعة‭.‬

 

الزمن‭ ‬الطيب

صارت‭ ‬الفتاة‭ ‬حمزة‭ ‬تنفق‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬وقتها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬إتقان‭ ‬العزف‭ ‬الموسيقي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخلت‭ ‬عن‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة‭ ‬وتفرغت‭ ‬له‭ ‬تمامًا،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليها‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬ترف‭ ‬أو‭ ‬تسلية،‭ ‬إنما‭ ‬طموح‭ ‬ورسالة‭ ‬لها‭ ‬دلالات‭ ‬ومعانٍ‭ ‬مرتبطة‭ ‬بدور‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الألحان،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬ثقفت‭ ‬نفسها‭ ‬فنيًا،‭ ‬وغذت‭ ‬ذخيرتها‭ ‬وخيالاتها‭ ‬بالاستماع‭ ‬إلى‭ ‬أغنيات‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وعبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬وشادية،‭ ‬والأطرش‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬وعثمان‭ ‬حسين‭ ‬وحسن‭ ‬عطية‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬حتى‭ ‬التحقت‭ ‬بفرقة‭ ‬سلاح‭ ‬الموسيقى‭ ‬بقوات‭ ‬الشعب‭ ‬المسلحة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1982م،‭ ‬وكان‭ ‬فتحًا‭ ‬جديدًا‭ ‬لها،‭ ‬وينبوعًا‭ ‬مهمًا‭ ‬لتفجير‭ ‬طاقاتها‭ ‬الإبداعية،‭ ‬إذ‭ ‬تعلمت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الموسيقى‭ ‬وإيقاعاتها‭ ‬المتنوعة،‭ ‬وبعد‭ ‬عام‭ ‬قدمت‭ ‬للساحة‭ ‬الغنائية‭ ‬من‭ ‬تلحينها‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الزمن‭ ‬الطيب‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬والإعلامي‭ ‬الراحل‭ ‬سيف‭ ‬الدين‭ ‬الدسوقي‭ (‬1936‭ - ‬2018م‭)‬،‭ ‬تغنت‭ ‬بها‭ ‬المطربة‭ ‬المعروفة‭ ‬سمية‭ ‬حسن‭.‬

أنت‭ ‬الزمن‭ ‬المـــاضي‭ ‬الطيب

وأنت‭ ‬الأمـــل‭ ‬الحــــاضر‭ ‬فينا‭ ‬

بهذه‭ ‬الأغنية‭ ‬عرفتها‭ ‬الأوساط‭ ‬كملحنة‭ ‬ضليعة،‭ ‬وعازفة‭ ‬ماهرة‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬العود‭ ‬ذات‭ ‬حس‭ ‬موسيقي‭ ‬رفيع‭ ‬وإحساس‭ ‬عالٍ‭ ‬مرهف،‭ ‬ومن‭ ‬قفزاتها‭ ‬الكبيرة‭ ‬الرائعة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬تلحينها‭ ‬وتوزيعها‭ ‬لملحمة‭ (‬عَزة‭ ‬وعِزة‭) ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬كلماتها‭ ‬الشاعر‭ ‬أبو‭ ‬قرون‭ ‬عبدالله‭ ‬أبو‭ ‬قرون‭ ‬في‭ ‬جيش‭ ‬المهدية،‭ ‬لتؤديها‭ ‬فرقة‭ ‬سلاح‭ ‬الموسيقى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1987م‭.‬

يا‭ ‬عزة‭ ‬قومي‭... ‬ما‭ ‬تسمعي

الهمس‭ ‬البقول

يا‭ ‬أمة‭ ‬نومي

واستيقظي‭ ‬وفكي‭ ‬الحصار

واتوشحي‭ ‬الأمجاد‭ ‬إزار

هذه‭ ‬الملحمة،‭ ‬لما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬مقاطع‭ ‬لحنية‭ ‬متعددة‭ ‬متنوعة‭ ‬وإيقاعات‭ ‬متباينة،‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬ملكاتها‭ ‬الإبداعية‭ ‬المتفردة،‭ ‬وانفتحت‭ ‬لها‭ ‬أبواب‭ ‬الشهرة‭ ‬والمجد‭ ‬بعد‭ ‬تأخر‭ ‬طويل،‭ ‬وبرقت‭ ‬نجوميتها،‭ ‬مما‭ ‬حدا‭ ‬بالشعراء‭ ‬الكبار‭ ‬إلى‭ ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬ألحانها‭ ‬وموسيقاها‭ ‬التي‭ ‬تفيض‭ ‬بالحيوية‭ ‬والعذوبة،‭ ‬ودخلت‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬لأفئدة‭ ‬عشاق‭ ‬الغناء‭ ‬الراقي،‭ ‬وكان‭ ‬ظهورها‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الغنائي‭ ‬مؤشرًا‭ ‬جيدًا‭ ‬للتبشير‭ ‬بمستقبل‭ ‬أفضل‭ ‬للمرأة‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬الألحان‭ ‬الغنائية‭ ‬التي‭ ‬تفتقر‭ ‬إليها‭ ‬الساحة‭.‬

 

ظاهرة‭ ‬مستثناة

في‭ ‬ظاهرة‭ ‬مستثناة‭ ‬جديرة‭ ‬بالوقوف‭ ‬أمامها،‭ ‬أسست‭ ‬حمزة‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬‮«‬منتدى‭ ‬الحلفايا‭ ‬الثقافي‭ ‬الفني‮»‬‭ ‬مع‭ ‬الشعراء‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬هلاوي،‭ ‬والراحل‭ ‬سعدالدين‭ ‬إبراهيم،‭ ‬ومحمد‭ ‬أبوشورة،‭ ‬ومحمد‭ ‬أحمد‭ ‬سوركتي،‭ ‬وعبدالقادر‭ ‬جميل،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والمطربين،‭ ‬ولحنت‭ ‬لهم‭ ‬عشرات‭ ‬القصائد،‭ ‬تغنى‭ ‬بها‭ ‬المطربون‭ ‬محمد‭ ‬ميرغني،‭ ‬وصابر‭ ‬جميل،‭ ‬وعماد‭ ‬محمد‭ ‬الطيب‭ (‬انتصار‭) ‬للشاعر‭ ‬سعد‭ ‬الدين‭.‬

أقول‭... ‬باختصار

لأنك‭..‬

كأنك‭ ‬هموم‭ ‬الحصار‭.‬

أهو‭ ‬بعدت‭ ‬عنك

وشاركت‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬عدة،‭ ‬منها‭ ‬مرتان‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬الإذاعات‭ ‬العربية،‭ ‬وحازت‭ ‬في‭ ‬الاحتفال‭ ‬بليلة‭ ‬القدر‭ ‬عام‭ ‬1997‭ ‬المركز‭ ‬الثالث‭ ‬بقصيدة‭ ‬دينية‭ (‬صحوة‭) ‬للشاعر‭ ‬سعد‭ ‬الدين،‭ ‬وغناء‭ ‬هشام‭ ‬درماس،‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يسعدها‭ ‬أن‭ ‬تتلقى‭ ‬القصائد‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬مرموقين،‭ ‬أمثال‭ ‬بشير‭ ‬عتيق،‭ ‬والطاهر‭ ‬إبراهيم،‭ ‬وحسن‭ ‬الزبير،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬شعراء‭ ‬المنتدى،‭ ‬وتبدع‭ ‬في‭ ‬تلحينها‭ ‬وتقديمها‭ ‬لمطربين‭ ‬ومطربات‭ ‬كل‭ ‬وفق‭ ‬مقدراته‭ ‬ولونيته،‭ ‬بعدما‭ ‬انفردت‭ ‬بأسلوب‭ ‬يميزها‭ ‬عن‭ ‬غيرها،‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬شفافيتها‭ ‬والواقع‭ ‬الراهن‭.‬

ومن‭ ‬تجلياتها‭ ‬أنها‭ ‬رفدت‭ ‬ساحة‭ ‬الغناء‭ ‬ببعض‭ ‬المواهب‭ ‬الغنائية،‭ ‬وأسهمت‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬آخرين،‭ ‬مثل‭ ‬عابدة،‭ ‬وأسامة‭ ‬الشيخ،‭ ‬وخالد‭ ‬عبدالرحمن،‭ ‬ودرماس،‭ ‬الذي‭ ‬غنى‭ ‬لها‭ ‬أكثر‭ ‬لحن،‭ (‬مشاعر‭ ‬الفرحة‭) ‬للشاعر‭ ‬أبو‭ ‬شورة‭.‬

مشاعر‭ ‬الفرحة‭ ‬يوم‭ ‬لقياك

تــســابق‭ ‬عيــني‭ ‬لي‭ ‬رؤيـــــاك

وما‭ ‬يعزز‭ ‬صلابة‭ ‬موهبتها‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬الإتيان‭ ‬بجديد،‭ ‬تغنى‭ ‬الشاعر‭ ‬والملحن‭ ‬المطرب‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الكابلي‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬هذا‭ ‬العقد‭ ‬من‭ ‬ألحانها‭ ‬بقصيدة‭ ‬‮«‬أغلى‭ ‬من‭ ‬نفسي‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬هلاوي‭.‬

يا‭ ‬أغلى‭ ‬من‭ ‬نفسي‭ ‬أفضل‭ ‬أنادي‭ ‬عليك‭ ‬

لا‭ ‬من‭ ‬يضيع‭ ‬حسي‭ ‬

وأنا‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬عينيك‭ ‬زول‭ ‬مرّ‭ ‬عدى‭ ‬عليك‭ ‬

وراح‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬منسي

بقي‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬أسماء‭ ‬حمزة‭ ‬قدمت‭ ‬خلال‭ ‬مسيرتها‭ ‬الفنية‭ ‬ما‭ ‬يربو‭ ‬على‭ ‬تسعين‭ ‬لحنًا‭ ‬متنوعًا،‭ ‬لقصائد‭ ‬بالعامية‭ ‬والعربية‭ ‬الفصحى،‭ ‬منها‭ ‬العاطفية‭ ‬والوطنية‭ ‬والدينية‭ ‬والحماسية،‭ ‬وفرضت‭ ‬وجودها‭ ‬بين‭ ‬مشاهير‭ ‬الملحنين‭ ‬والمطربين،‭ ‬وكان‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬عطائها‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تتخلّ‭ ‬عن‭ ‬مسؤولياتها‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وإدارة‭ ‬شؤون‭ ‬بيتها‭ ‬الذي‭ ‬تكوّن‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬ورعاية‭ ‬أحفادها‭.‬

استمعت‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬جلسات‭ ‬المنتدى،‭ ‬وهالني‭ ‬ما‭ ‬رأيت‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬تحتضن‭ ‬العود‭ ‬وقد‭ ‬ناهزت‭ ‬السبعين،‭ ‬تغني‭ ‬من‭ ‬ألحانها‭ ‬بصوت‭ ‬خفيض‭ ‬مهذب‭ ‬وشجي،‭ ‬ودهشت‭ ‬لطريقة‭ ‬عزفها،‭ ‬ومقدراتها‭ ‬على‭ ‬الابتكار‭ ‬وإيقاظ‭ ‬المشاعر‭ ‬وملامسة‭ ‬ذائقة‭ ‬المتلقي،‭ ‬إنها‭ ‬ظاهرة‭ ‬تستحق‭ ‬الوقوف‭ ‬والتأمل‭... ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬‭.