لكل مكان رجالاته

غالبًا ما يهتم التاريخ، في أبعاده العسكرية والسياسية، بالناس الذين صنعوه. ويحدث بين حين وآخر أن تظهر شخصيات تعبر التاريخ العام، لتساهم بدورها في صناعة جوانب من التاريخ الرمزي لبلدانها، في أبعاده الثقافية تحديدًا. وسير عديد الشخصيات التي مرت بعالمنا، هنا وهناك، خير دليل على ذلك. وبالموازاة، يحدث أن تستهوينا سيرة إحدى تلك الشخصيات التي نكون قد ارتبطنا بها أو انخرطنا في أفقها، إن قليلاً أو كثيرًا، فتتولد لدينا الرغبة في أن نقتفي أثرها، ونستلهم سيرتها وندونها، في محاولة منا للاقتراب أكثر من فهمها، اعتبارًا لما تكون قد أثارته فينا هذه الشخصية أو تلك من إعجاب وفضول وقدوة. فقليلة هي الشخصيات في عالمنا العربي التي ارتبطت بمدنها، فصارت جزءًا منها وبقيت وفية لها، فارتبط مصير المدينة بمصيرها. وفي المغرب، يمكن أن نتحدث اليوم، على سبيل المثال، عن رجلين قدما ومازالا يقدمان الشيء الكثير لمدينة كل منهما، ثقافيًا وتنمويًا؛ يتعلق الأمر بكل من محمد بن عيسى، السفير والوزير وعمدة المدينة والأمين العام لمؤسسة منتدى «أصيلة»، وأندري أزولاي، المستشار الخاص لجلالة ملك المغرب، ورئيس جمعية «الصويرة» موغادور.
ومن شأن المتتبع لجانب من علاقة أحد هذين الرجلين، الذي هو محمد بن عيسى، بمدينته «أصيلة»، سوف يدرك أن مسار الرجل لا يخلو بدوره من طابع ملحمي، بالنظر لما لعبه بن عيسى من أدوار ريادية مؤثرة في التاريخ الثقافي والسياسي لبلده ككل ولمدينته على وجه خاص؛ مسار ربما خطت أولى ملامحه، في ذلك اليوم الذي فطن فيه ذلك الطفل الذي كانه بن عيسى، إلى قدوم الفنانين المصريين يوسف وهبي وأمينة رزق إلى طنجة، فراح مشيًا إلى محطة القطار بأصيلة، ليظفر برؤية هذين الفنانين الكبيرين والقطار يعبر محطة أصيلة في اتجاه طنجة، فحدث أن ركب بن عيسى القطار بعد أن تلقى إشارة غير مفهومة من هذين الفنانين، فرافقهما إلى طنجة، وحظي بترحيبهما، وبتتبع إحدى مسرحياتهما على «مسرح سيرفانتس» الشهير. هكذا، إذا، اقتفى ذلك الشاب طريق الرحالة الكبار، فغادر طنجة مثل ابن بطوطة، في اتجاه العالم. ولما عاد من رحلته، وبدل أن يعكف على تدوينها كما فعل جده ابن بطوطة، راح يدون بدلها تاريخ مدينته الصغيرة ويخطط لمستقبلها، فالمدن الملحمية هي تلك التي يقدر لها أن تعيش من خلال أبنائها، هؤلاء الذين يرسمون لها قدرها ومستقبلها.
هي، إذا، سيرة طافحة بالمتعة والتشويق والجاذبية، جذورها في إفريقيا وأغصانها في أمريكا وأوربا. كبرت الشجرة وأثمرت، فاستجاب الرجل لنداء حضن الطفولة، بعد ما يقرب من عقدين من الزمن ومن الغياب، قضاهما في اكتشاف العالم، وفي إدراك ألغازه ونجاحاته وإخفاقاته، بمثل ما استجاب لوفاء مشتهى، ظل يراوده حتى بعد أن جاب العالم، ورأى فيما يرى النائم حال بلدته أصيلة الصغيرة والمهجورة، ملآنة بالقمامة والأوساخ، تعيش في ظلام، وتشكو العطش والبؤس، فعاد بن عيسى ليكتشف أن الحلم أكبر من الرغبة، وليصطدم بإكراهات السلطة والأحزاب والصحف الصفراء وتجار الإسمنت الرخيص، بمثل ما اصطدم بمن يريد حجب شمس بحر أصيلة بالغربال، وبانعدام الإمكانات، ليعلنها قولة شهيرة «أرض الذل تهجر». قولة موحية، تعكس الحال التي كانت عليها بلدة أصيلة، في سبعينيات القرن الماضي، لكن سرعان ما سيتجدد نداء الوفاء، لتبدأ مغامرة البناء والنضال، والإعلان عن الرهان «الفن والثقافة من أجل التنمية»، فكبر الحلم، وازدادت الرغائب، فتغلب البعد الثقافي في أصيلة على الاحتقان السياسي في البلد، وتمكنت أصيلة من تحرير سؤال الفن والثقافة فيها، فاتسعت الفكرة، وأضيئت البلدة وارتوت، وتلونت الجدران، وكبرت المدينة، وتعمق الإحساس لدى الناس فيها بالفن والجمال والحياة .