«اشتباك»... جدلية الرمز
ثمة تداخل فني جدير بالتأمل يطرحه فيلم «اشتباك»، يتضح من قدْر الرمزية المتسع الذي يتخلل الفيلم حتى نهايته، تعبيرًا عن أفكار وأحداث واقعية، دون الشعور بسطوة «الرمز» وتطوره عبر المشاهد كافة، حتى أن التصاعد الدرامي يحاكي الواقع، دون إشارات توقع المشاهد في التباس، أو تُشعره بحالة من الارتباك؛ وذلك لأن الأحداث الفيلمية كلها مستقاة من الواقع، وهي في الوقت نفسه أحداث رمزية معبّرة عن وقائع أكبر.
بالتالي فإن الفيلم تكمن قراءته من خلال بُعدين؛ الأول: موضوعي، يقوم على أحداث بسيطة ومحددة، غير معقّدة في تركيبها، والثاني: رمزي، ينظر إلى الأحداث باعتبارها بنى رمزية معبّرة عن سياقات ووقائع معيّنة، يفضي تأويل أحدها إلى تقويض جميع الشفرات الأخرى، واستشراف أفق السرد الفيلمي، وما تؤول إليه الأحداث وكذلك مصائر الشخصيات.
والتداخل بين «الرمزي»، و«الموضوعي»، يجعل الرمز يذوب تمامًا في الأحداث، ولا يكاد يلاحَظ، فتبدو الأحداث في مجملها وفي جميع مشاهدها مستلهَمة من الواقع ويومياته الخانقة التي عاصرها كثير من الشباب في ميدان التحرير إبان تلك الفترة، ولا يمكن ملاحظة الرمز وتطوره إلا بمراقبة الشخوص الفنية وتتبّع مصائرها من جهة، واستيعاب طبيعة المرحلة ومكوناتها السياسية والفكرية، والمكونات النفسية لبعض الشخصيات وأثرها على التغيرات في أرض الواقع، من جهة أخرى.
الميدان... رمز الثورة
السينما مرآة المجتمع، والمعبّر الأول عن أحداثه والتغيرات التي يمر بها، وقد استطاعت أن تعبّر بصدق عن الأحداث المفصلية التي تؤثر على مصائر أفراد هذا المجتمع، وتؤثر أيضًا على علاقاتهم ببعضهم بعضاً، ومنها ما شهده «ميدان التحرير» بوسط القاهرة كرمز ومركز رئيس لأحداث يناير 2011 التي استمرت حتى يونيو 2014.
تناولت السينما هذه المرحلة في عديد من الأفلام الوثائقية والروائية الطويلة، منها ما تناول أحوال الناس في الميدان (رمز الثورة وبؤرة أحداثها اليومية)، ومنها ما تعرّض لمفهوم الثورة عند البسطاء والمنتفعين، ومنها ما ذهب إلى معالجة أثر الأزمة/ الثورة على أرزاق المهمشين... إلخ، فقد تعددت الرؤى الفنية والموضوعية تجاه تلك التغيرات التي أثرت لعدة سنين على كل مناحي الحياة في مصر.
ويعدّ فيلم «اشتباك» (2016)، من إخراج محمد دياب وتأليفه مع خالد دياب، أحد أهم الأفلام التي تناولت تلك المرحلة الاستثنائية، إذ يصور الظروف والمتغيرات التي طرأت على المجتمع، والتعدد والزيف والفساد السياسي الذي ساد الشارع المصري وقتئذ، وانفصال القطاع الأكبر من الشعب بمختلف أطيافه عن كل ما يحدث، ووقوفه مستفهمًا إزاء كل التغيرات، لا مشاركًا فيها.
وتعود أحداث الفيلم زمنيًا إلى المرحلة التي أعقبت سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين، وانتشار التظاهرات وتجددها في الميدان، حيث يروي مأساة مجموعة من المواطنين يتم القبض عليهم والزجّ بهم داخل سيارة للأمن المركزي، ويحاول ضباط وجنود الشرطة السيطرة على المتظاهرين بأي شكل، ويتحول الصندوق إلى (سجن) يحشِد فيه أفراد الشرطة كل من طالته أيديهم من المواطنين الموجودين في الميدان، سعيًا لإعادة الأمن العام، وبالتالي لا يهم الانتماء السياسي، أو سبب وجودهم في الميدان، أو حتى توجهاتهم الفكرية من عدمها، ولذلك فإن «عربة الترحيلات» جمعت في صندوقها المعدني الملتهب تحت حرارة الشمس، كثيرًا من المواطنين.
ومن خلال رؤية جادة كتابة وإخراجًا، اجتمعت بلا مبرر موضوعي أطياف المجتمع وفئاته العمرية كافة، من مستويات تعليمية وثقافية متنوعة (موظف، صحفي، طالب، ممرضة، سايس، مطرب شعبي، وممثل فاشل... إلخ)، فهُم من أطياف فكرية غير متجانسة، بل ومتناقضة، ومن فئات عمرية مختلفة (كبار سن، أطفال، شباب، نساء).
وقد نما بينهم نسيج متداخل ولّد عديدًا من الخيوط الدرامية التي أدت إلى أحداث اشتملت على علاقات إنسانية عادية تتطور حينًا وتفتر حينًا آخر، لكنها تترابط وتتحد وقت الحاجة، وليس أبلغ من مشهد التعاون بين الشخصيات، حينما رفض الشرطي السماح للفتاة الصغيرة بأن تقضي حاجتها، وكذلك المشهد الضاحك وهم يمزحون مع مطرب الثورة صاحب الصوت القبيح، أو وهم يحذّرون رجال الشرطة من القناص المجهول الذي نجح في اغتيال عقيد شرطة، أو في محاولتهم لإخراج السيارة من مأزقها.
يتضح قدر الظلم والقهر الواقع على الجميع، وكمّ التفاوت الكبير بينهم من حيث الفكر والثقافة والاهتمام بفكرة الثورة، وبالتالي سبب وجودهم في الميدان، ولذلك فـ «حسام» (طارق عبدالعزيز) الأب الذي سارع إلى الميدان للبحث عن ابنه الولد الصغير «فارس» (أحمد داش)، ولما توجست الأم «نجوى» (نيللي كريم) هرعت هي الأخرى إلى التظاهرات في ميدان التحرير، للبحث عن ابنها وزوجها، لكنهم اجتمعوا في نهاية الأمر، مع غيرهم، داخل عربة الترحيلات، بعد أن تم القبض عليهم دون اتهام، وكذلك «صلاح» (جميل برسوم)، الذي يسأل عن ابنه في سيارة مشابهة تقف بالقرب منه.
ومع تطور الأحداث، ينقلنا الحوار إلى عالم الشخصيات وما تحمله من أفكار تكشف ميولهم الفكرية، فهم من فئات واتجاهات متباينة: أفراد وكوادر وقيادات من جماعة الإخوان المسلمين، وآخرين اعتبرهم القيادي «معاذ» (محمد علاء) محبّين، وبينهم فتاة صغيرة تناصر الجماعة، وشاب يتظاهر ضد الظلم، وآخر يعمل بالأفراح على مكبرات الصوت (D.J)، وصحفي «آدم» (هاني عادل)، الذي تُكال له الاتهامات من الجميع، وزميله المصور «زين» (محمد السباعي)، حيث يقومان بتسجيل ونقل الأخبار، وبينهم فرد من جنود الأمن المركزي، دخل لمساعدة بعضهم فتمّ قمعه وحبسه، وذلك للتدليل على أن «الشرطة» جزء من تركيبة المجتمع، كما أن الجندي يدين بالمسيحية، للتعبير عن الترابط بين أفراد المجتمع، والتدليل على أن الأقباط جزء من النسيج الوطني.
وتعبّر عربة الترحيلات بشكل رمزي عن «مصر» وقت وقوع التظاهرات، فكل الشخوص الفنية وجدوا أنفسهم فيها بلا خيار، وجدوا أنفسهم داخلها مرغمين، حيث يغلب القمع ويغيب العدل والحرية، حتى في أبسط المطالب الإنسانية التي يرمز إليها الفيلم بزجاجة مياه، وبعض الهواء.
يستمر شخوص الفيلم في بؤس ومعاناة، حيث الازدحام وارتفاع درجة الحرارة والعطش داخل الصندوق المعدني، وحيث الذل والاتهامات التي يوجهونها لبعضهم بعضاً، وحيث أصابتهم حجارة فريق من المتظاهرين كانوا يقصدون أفراد الشرطة.
كما تم الترميز بخطف العربة في غفلة من الشرطة (حراسها) على يد أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، الذي تسلل إلى كابينة القيادة وهرع بها مسرعًا، حتى وصل بالجميع إلى مكان مجهول، في إشارة واضحة إلى حكم الإخوان لمصر، وقد وضح اهتزاز السيارة بقوة، وبدا الخوف على وجوه الجميع، ربما لخشيتهم من (سائق) غير متمرّس لم يروا وجهه من قبل، أو من الطريقة التي يقود بها وتدعو إلى التوجس، وكذلك ارتيابهم من مكان (مجهول) يذهبون إليه.
حينما تتوقف السيارة، يسعى الجميع إلى الخروج، لكن بلا فائدة، فالباب مغلق، والسائق لا يملك المفتاح، وعندما حاول أن يقوم بإجراء عنيف يؤدي إلى فتح الباب عنوة، عن طريق الاصطدام بالحائط، لم يفلح، بل ازداد الوضع سوءًا، وتشير هذه المشاهد الرمزية إلى الهمجية وسوء التصرف وعدم القدرة على القيادة الواعية، فقد أدى هذا الإجراء إلى حشر السيارة ووضعها في مأزق.
ركز مدير التصوير أحمد جبر في الوصول إلى بناء مُحكم يقوم على التوظيف الجيد لعنصري الإضاءة والظلال وإيجاد المساحات المناسبة لكل العناصر الداخلة في المشهد، من أجل التعبير عن فكرة العربة/ السجن، ولذلك تم تصوير النوافذ بأسلاكها وقضبانها ووقوف المعتقلين خلفها، بطريقة تعبّر عن الزنزانة والوقوف خلف القضبان، وكذلك قدر الإضاءة على «آدم» (هاني عادل) المكبل بالأصفاد في النافذة، ترميزًا لفكرة السجن من ناحية، وتكبيل حرية الصحافة من ناحية أخرى، كما جاءت حركة الكاميرا في تصويرها لمشهد السيارة المنطلقة بلا رويّة من قائدها واهتزازها، تعبيرًا عن عشوائية الحركة وعدم الاتزان وترسيخًا لفكرة غموض الهدف، أو عدم وضوح الجهة التي يقصدها الخاطف.
وبذكاء المونتير أحمد حافظ، المتمكن جيدًا من تقنيات المونتاج الحديثة، تم التعبير عن الحركة بين المحتجزين، والجنود حول العربة، والمتظاهرين المتربصين فوق الكوبري المواجه، وأحيانا حركة أحد القناصين وهو يتسلق إحدى العمارات القريبة، وجاءت متابعة المحتشدين في الصندوق لحركة القناص وتحذيرهم أفراد الشرطة، ترميزًا إلى تعاون «الشعب» مع الشرطة، ووقوفهما معًا في خندق واحد وأنهما كانا هدفًا للجماعة.
ارتكز فيلم «اشتباك» على تصوير المجتمع المصري، وما تعرّض له خلال تلك المرحلة، على يد قوى متعددة وتوجهات غريبة لم يعتدها، وصراعات دموية، لا يعلم أحد أهدافها الحقيقية، فيصور مصر المحروسة بأهلها، وقد أحاطتها الجنود والضباط من جهة، وجماعة الإخوان المسلمين من جهة ثانية، وبلطجية وثوار وأطياف أخرى عديدة من جهات أخرى، ويبدو المواطن المصري البسيط لا حول له ولا قوة، حيث رمز الفيلم إلى (مصر) بمختلف فئاتها العمرية وتعددها الفكري وتنوعها الديني، بأن جمع كل ذلك داخل السيارة، وقد واجهوا الحجارة التي رماهم بها المتظاهرون ظنًّا أنهم من الإخوان، وواجهوا تبادل إطلاق النار بين الإخوان والشرطة، وفي النهاية وجدوا أنفسهم ضحايا مرة أخرى داخل الميدان.
الاشتباك بين الرمز والواقع
جاء اسم الفيلم معبّرًا ومتناغمًا مع الطرح، فيقصد بكلمة «اشتباك» كل تداخل بين متناقضين أو أكثر، وبهذا المعنى فإن الفيلم يحتوي عديدًا من الاشتباكات، التي يمكن أن نوجزها في النقاط التالية:
أولًا: الاشتباك بين الرمز والواقع، فالفيلم استطاع أن يعبّر عن الواقع بمنتهى الموضوعية ومن مختلف الجوانب، مثل تعامل الشرطة وتعنتها مع المواطنين، حتى وهُم في أشد الحاجة إلى المساعدة الإنسانية، خاصة أن بينهم جرحى، وشيخاً مريضاً طاعناً في السن، وأطفالاً، ولذلك فقد جاءت كل الأحداث واقعية وكل النماذج الإنسانية معبّرة عن الإنسان والمجتمع.
ثانيًا: الاشتباك بين الإنساني واللاإنساني، فقد حوى الفيلم عديدًا من المشاهد والحالات التي تحمل في جوهرها تناقضًا إنسانيًا، مثل موقف جندي الأمن المركزي الذي يقف على حدّي سكين، فهو يطارد المواطنين ويقمعهم، وفي الوقت نفسه يسارع إلى مساعدتهم عندما يشعر بحاجتهم إلى المساعدة، وعلى النقيض من ذلك يقوم زميله بحبسه معهم ولا يستجيب لاستغاثاته.
ثالثًا: رغم التفاوت الفكري والثقافي بين المقبوض عليهم، ووضعهم المأساوي، فإنهم يمزحون ويضحكون ويسخرون ممن يسمى بـ «مطرب الثورة»، كما أنهم تعاونوا فيما بينهم من أجل الفتاة الصغيرة التي ترغب في قضاء الحاجة، فأولوها ظهورهم في وقت واحد، في إشارة واضحة إلى التوحد عندما يلزم الأمر.
رابعًا: تكبيل يد «الصحفي» بالأصفاد فكرة سديدة، للتدليل على عدم حرية الصحافة وقمع حرية التعبير، وهو الصحفي الذي اعتقلته السلطات وأدخلته العربة مع الآخرين، على الرغم من أنه يقوم بعمله في نقل الأحداث، وظل مهتمًّا ومحاولًا أن ينقل الصور المعبّرة عن الوضع المأساوي للمحبوسين، على الرغم من تكبيله.
يذكر أن فيلم «اشتباك» حصد كثيرًا من الجوائز في المهرجانات الدولية، ومنها جائزة أفضل فيلم في مهرجان زغرب السينمائي الدولي، ونال أربع جوائز من أيام قرطاج السينمائية، وثلاث جوائز من مهرجان بلدوليد السينمائي في إسبانيا، إضافة إلى الجائزة الكبرى في مهرجان الفيلم العربي بـ «فاماك» في فرنسا، وشارك في فاعليات الدورة الـ60 من مهرجان لندن السينمائي ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان، كما عُرض في مهرجان «كان» السينمائي الدولي في قسم «نظرة ما»، وتم اختياره ضمن أفضل 10 أفلام في الدورة الـ69.
من الأفلام التي تناولت أحداث يناير أيضًا، «حظ سعيد»، و«الطيب والشرس والسياسي»، و«اسمي ميدان التحرير»، و«صرخة نملة»، و«موقعة الجمل»، و«الشتا اللي فات»، و«فرش وغطا»، و«بعد الموقعة»، من إخراج يسري نصرالله، وتوقف عند الحادثة التي اشتهرت إعلاميًا بـ «موقعة الجمل»، فضلًا عن فيلم «18 يوم» (2011)، الذي شارك في إخراجه شريف عرفة، ومروان حامد، ويسري نصرالله، وخالد مرعي، وكاملة أبو ذكري، وشريف بنداري،... وغيرهم، وشارك في التمثيل كوكبة كبيرة من النجوم، منهم: أحمد حلمي، ومنى زكي، وآسر ياسين، وأحمد الفيشاوي، وأحمد فراج، وهند صبري... وغيرهم. وقام بكتابته تامر حبيب، وبلال فضل، وعباس أبوالحسن، وأحمد حلمي. وهو عمل ملحمي يروي ويوثّق تفاصيل 18 يومًا من بداية الثورة في 25 يناير حتى تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك في 11 فبراير 2011، ولم يتم عرضه جماهيريًا إلى الآن .
طارق عبد العزيز ونيلي كريم واحمد داش في مشهد من الفيلم
داخل عربة الترحيلات اجتمع المؤيد والمعارض من مستويات تعليمية وثقافية متنوعة