الحرف العربي المسافر

الحرف العربي المسافر

يعدّ الخط مظهرًا من مظاهر سمو الحضارة الإنسانية التي أولى المسلمون لها عناية بالغة واهتمامًا متميزًا، واجتاز الخط العربي أطوارًا من التحول واكبت التطورات الكبرى التي عرفتها الأمة الإسلامية في مختلف المجالات. وقد شكّل الخط العربي الوسيلة التي حفظ بها القرآن الكريم ودُوّن وانتشر. وكما قيل في «أدب الكتّاب»: «ومن فضل حُسن الخط أن يدعو الناظر إليه إلى أن يقرأه، وإن اشتمل على لفظ مرذول، ومعنى مجهول. وربما اشتمل الخط القبيح على بلاغة وبيان وفوائد مستظرفة، فيرغب النّاظر عن الفائدة التي هو محتاج إليها، لوحشة الخط وقبحه».

 

تطوّر الخط العربي حتى أصبح فنًا قائمًا بذاته، فأنواع الخطوط العربية التي نعرفها اليوم لم يكن لها وجود قبل نزول القرآن الكريم. وقد كتب المصحف العثماني الذي أمر الخليفة عثمان بن عفان ] عنه بكتابته وسمّي باسمه، بالخط الكوفي المبكر، من غير نقط ولا شكل، لأن الكتابة العربية لم تنقط وتشكّل إلا في عهد علي بن أبي طالب ]، الذي أمر أبا الأسود الدؤلي بتولّي تلك المهمة، حتى تسهل قراءة القرآن الكريم على غير العرب من المسلمين الذين دخلوا إلى الإسلام عندما توسعت الفتوحات الإسلامية حتى شملت الفرس والروم وغيرهما، فقد كان هؤلاء يلحنون في القراءة بسبب حداثة عهدهم باللغة العربية وعدم درايتهم بها.
ويعدّ الخط ركيزة قوية من ركائز اللغة العربية، لأنه ناقل وحامل لحضارة العرب والمسلمين، حتى إنه ليصعب الحديث عن اللغة العربية دون الحديث عن خطها الجميل، بل يمكن اعتباره فرعًا مستقلًا من حضارة المسلمين، لأنه فن إسلامي حقيقي لم يحظ أي شعب من شعوب الأرض بإبداع نظير له، وعالم متفرد يحبل بدلالات عميقة تفيض غنًى وثراءً. 
 وإذا اشتهرت شعوب أخرى كالبابليين والآشوريين واليونانيين والفراعنة بفنون المسرح والرسم والنحت وغيرها، فإن المسلمين تفرّدوا بفن الخط الذي صار فنًا يضاهي كل تلك الفنون، ويعد كذلك أصعبها لما يمتاز به من دقة القواعد التي لا يتقنها إلا المتمرس الذي تشرّب أصوله وأسراره.
ولعل تعدد أنواع الخطوط العربية، راجع إلى تنوع البلدان الإسلامية، فخط التعليق الذي أبدعه الفرس بعد اعتناقهم الإسلام، يختلف عن الخطوط الأخرى كخط الرقعة والنسخ والثلث والديواني والجلي الديواني وغيرها كثير، كما أن الخطوط العربية التي ظهرت في الغرب الإسلامي تختلف اختلافًا كبيرًا عن الخطوط المشرقية، فالخطان المغربي والأندلسي بكل أشكالهما وأنواعهما يدلّان على أن الخط العربي قد تطور بشكل كبير بفضل انتشار الإسلام في أقطار الدنيا.

المدرسة البغدادية
اهتم الخطاطون العباسيون بالخط العربي، وحسّنوه وجودوه، فكان أول أساتذة الخط العربي الوزير ابن مقلة (272 - 328 هـ)، مهندس الخط العربي ومبتكر الأقلام الستة، ويعود الفضل إليه في ابتكار خطوط النسخ، والثلث، والريحاني، والتوقيع (الإجازة)، والمحقق، والرقاع.
وظل الخطاطون، إلى اليوم، يتبعون ويحترمون القواعد التي وضعها لها. لقد جعل ابن مقلة من هذا الفن علمًا مضبوطًا تحكمه قواعد وقوانين، وخلفه في القرن الخامس الهجري الخطاط علي بن هلال البغدادي، المعروف بابن البواب، الذي كان يرى أن الحرف على هيئة إنسان، له رأس وجسد وأعضاء. ومن بعده جاء ياقوت المستعصمي في القرن السابع الهجري، الذي كان ينظر إلى الحرف نظرة روحانية. 
وقد ظهرت في العصر العباسي خطوط كثيرة، نذكر منها خط الإجازة الذي قعّده الخطاط يوسف الشجيري، وخط المحقق الذي بلوره ابن البواب، إضافة إلى خطّي النسخ والثلث. ويعدّ الخطاط هاشم محمد البغدادي وريث المدرسة البغدادية في العصر الحديث.

المدرسة الأندلسية
ربما يكفي تأمل قصور الأندلس المنقوشة بأجمل الزخارف وأروع الخطوط كي نستشف العظمة التي بلغها الخط العربي في حضن هذه الحضارة الراقية. لقد نشأ الخط الأندلسي انطلاقًا من الخط الكوفي، وعرف مجموعة من التحولات بلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري، فتفرع عنه نوعان من الخطوط، هما الكوفي الأندلسي، والقرطبي الذي تكتب به المصاحف والكتب.
وقد بلغ الاهتمام بالكتابة والمخطوطات أوجّه في الأندلس، وارتفع شأن اللغة العربية لتصير هي لغة العلم، وأصبح طلاب العلم الأوربيون يتنافسون في تعلّمها والنهل من معينها، واستطاع الحرف العربي خلال هذه الحقبة الذهبية أن يسافر إلى بلاطات قصور ملوك أوربا، فأصبحتَ تجد الكلمات العربية منقوشة على الأقداح والكؤوس والصحون، أو مطرزة على عبايات الملوك والأمراء، أو مسكوكة في القطع النقدية، بل تأثّر الخط القوطي بالخط الكوفي أيّما تأثر، فاقتبس منه الزخارف وزوايا الحروف الحادة والمنمقة. كما استطاع الخط الأندلسي أن يمحو الخط القيرواني في شمال إفريقيا، ويسهم في ظهور الخط المغربي بمميزاته الحالية، وذلك بعد هجرة الأندلسيين إلى المغرب بعد سقوط غرناطة، تاركين وراءهم حضارة عظيمة تنطق بالرقي والسمو الذي بلغه العصر الأندلسي.
  
المدرسة الفاطمية
عاشت مصر خلال العصر الفاطمي ازدهارًا ثقافيًا، خاصة في فترة حكم المعز لدين الله الفاطمي (359 - 566 هـ)، مما هيأ أرضًا خصبة لانتعاش الخط العربي وبلورته، فظهر الخط الفاطمي والخط الكوفي الفاطمي الذي زينت به المساجد والمآذن والقباب والقصور والحمامات والأضرحة. وكان اهتمام الفاطميين بالخط العربي كبيرًا، لدرجة أنهم أصبحوا ينافسون العباسيين في روعة الخط وإتقانه. ومما يميز الخط العربي في العصر الفاطمي اختراع قلم الحبر السائل، وهو قلم يحتوي على ريشة وخزان صغير للحبر، ولا يختلف كثيرًا عن أقلام الحبر السائلة الحديثة. ولعل مآذن القاهرة تحكي لنا اليوم روعة الخط الفاطمي وفخامة النقوش والزخارف الفاطمية التي ميزت المعمار في تلك الحقبة التاريخية المتميزة.
 
المدرسة العثمانية
وبلغ الخط العربي أوجّه إبان الخلافة العثمانية، فقد احتضن السلاطين العثمانيون الخطاطين والفنانين، وأغدقوا عليهم بالمنح والهبات والعطايا، ولا أحد ينكر الثراء الباذخ الذي أضافه الخطاطون العثمانيون إلى الخط العربي، وقد صار معهم هذا الخط في أقصى درجات نضوجه وكماله وجماله، خاصة خط الثلث الذي أولاه الأتراك عناية خاصة واهتمامًا كبيرًا، فزخرفوا به القباب والمآذن والمساجد، وكتبوا به المصاحف، وزينوا به الواجهات الرخامية.
ومن الخطوط التي أنجبتها المدرسة العثمانية: خط الثلث الجلي الذي طوره الخطاط مصطفى الراقم، وخط الديواني الذي قعّد له الخطاط إبراهيم منيف، وخط الديواني الجلي الذي ابتكره الخطاط شهلا باشا أواخر القرن العاشر الهجري، وخط الرُّقعة الذي أسس قواعده الخطاط ممتاز بك، وخط الطغراء الذي يستعمل في الختم العثماني الذي جوّد فيه كل من الخطاطَيْن الراقم، وإسماعيل حقي.

المدرسة المغربية
تأثر الخط المغربي في بدايته بالخط الكوفي الذي ورد على مدينة القيروان في عصر الفتوحات الإسلامية، فظهر ما يسمى بالخط القيرواني الذي اكتسب خصائصه المتميزة، لكن سرعان ما هبّت عليه مؤثرات الحضارة الأندلسية بعد نزوح الموريسكيين الفارّين من محاكم التفتيش الإسبانية إلى المغرب، فحلّت الخطوط الأندلسية محل القيروانية، ومن هنا بدأت تتشكل معالم الخط المغربي. 
ونذكر من بين أنواع الخطوط المغربية: الخط القيرواني، والخط السوداني أو التمبكتي، والخط الفَاسِي (نسبة إلى فاس)، والخط المراكشي، والخط الكوفي المغربي المرابطي، الذي يستعمل في تزيين المساجد والقصور والأضرحة، والخط المجوهر الخاص بالرسائل والظهائر الملكية والمراسيم السلطانية، والثلث المغربي الذي يستخدم في تزيين المصاحف وعناوين الكتب، والمغربي المبسوط الذي يستعمل في كتابة المصاحف، وخط المسند أو الخط الزمامي، وهو خط الوثائق العدلية والتقاييد اليومية والعقود.      
  وقد صدق أبو حيان التوحيدي حين قال: إن «الخط هندسة روحية بآلة جسمانية»، فالخط العربي ليس مجرد حروف جميلة تفتن الناظرين بتشكيلاتها البديعة، لكنه عنوان جامع للحضارة العربية الإسلامية. فهو مرتبط بحياة المسلمين الروحية، وهو الوعاء الجميل البديع الذي حفظ به القرآن الكريم، وطاف به وسار وسافر حتى وصل إلى أبعد أقطار الأرض، فأقبل عليه الناس يقرأونه ويحفظونه ويعيدون نسخه ونشره، فأعجب به حتى غير المسلمين، ومنهم من اعتنق الإسلام بسبب جمال الخط الذي كتب به، بل هناك من أتقن فنه من غير العرب، وتفنن فيه وطوّره ■

 

الخط السوداني