«نهضة مصر» الفقراء يتبرعون من أجل تمثال

«نهضة مصر» الفقراء يتبرعون من أجل تمثال

  شعب منهك، خارج من حرب عاتية، وثورة مهلكة، ومع ذلك يتماسك الجميع ويتبرعون بالقروش والملاليم من أجل أن يقيم تمثالًا، في وقت كان يعتقد كثيرون أن إقامته حرام ومخالفة للدين... هذه هي قصة تمثال نهضة مصر.
كتب الشحات الكيلاني الذي يعمل فاعلًا بالسكة الحديد: «إنني رجل فقير جدًا، ويوميتي 70 ملّيمًا، كنت جالسًا أقرأ جريدتكم الغراء، بكيت بكاء شديدًا، فسألتني زوجتي عن السبب، فأخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معي نقود أتبرّع بها خلاف 200 مليم، فقالت زوجتي إنها تتبرع بمئة مليم أيضًا، وقالت أمها مثلها، وكذلك فعل أخوها».

 

كتب كمال التميمي، التلميذ بمدرسة خليل أغا: «اليوم علمت بدعوتكم لنكتتب لتمثال نهضة مصر الذي أجاد إتقانه سيدي محمود مختار، ويكون ذلك مكافأة لذلك النابغة وبرهانًا على شعور الأمة الحي؛ وبما أني أرجو أن أكون رجلًا حيًّا، فقد أردت أن أفتتح حياتي بالاشتراك في هذا الاكتتاب المقدّس بنصف ما أملك وهو خمسة وعشرون قرشًا، وأقسم بوطنية مختار - وإنه لقَسَم كما تعلمون عظيم - أني لو كنت أملك مئات الجنيهات لاكتتبت بنصفها، ولكن ما باليد حيلة». 
وكتبت متبرعة تحت اسم حرم حسن الشريف: «إن تنفيذ هذا المشروع الجليل الذي سيكون شاهدًا على أن المصري والمصرية متكافئان في تقدير الواجب وتشجيع العاملين، وإني أرسل إليكم مع هذا خمسة وعشرين جنيهًا، آملة أن يكون ذلك فاتحة اكتتاب كبير تقوم به سيداتنا العاملات حتى تبرهن المرأة المصرية مرة أخرى، على أنها لا تتردد في الاشتراك في كل ما يعود على مصر بالنفع والخير».
 وكتب بعض أهالي كفر معوض بالشرقية، عريضة قالوا فيها: «نحن المتبرعين بهذا (1 جنيه و650 مليمًا) فقراء كفر معوض، بندر الزقازيق، نتقدم إلى أغنياء الزقازيق، طالبين منهم مشاركتنا في الاكتتاب لتمثال نهضة مصر، حتى نكون قد تساوينا بغيرنا من البلدان الأخرى، ولهم الشكر مقدمًا».
 هكذا تجمعت قروش فقراء المصريين من أجل أن يقيموا تمثالًا، قطعة مشكّلة من صخور الجرانيت، في زمن صعب ارتفعت فيه الأسعار وعزّت الأقوات، في بلد خرج منهكًا من الحرب العالمية الأولى، لم تحارب مصر بشكل مباشر، ولكنها استُنزفت حتى النخاع، ولم تظفر حتى باستقلالها، ومع ذلك تحوّل تمثال نهضة مصر إلى رمز لكل الأحلام الضائعة، كثيرون دفعوا نقودهم وهم لا يعرفون ماذا يعني التمثال، ولكنهم انساقوا خلف شعور جارف بالمشاركة والتآزر في صنع شيء يبعث الأمل بعد فشل الثورة.

تضحيات كبيرة
 لم يكن الفنان محمود مختار في مصر وقتها، كان قد غادر إلى باريس قبلها بسنوات، وكان يواصل الدرس والنحت يريد أن يصبح فنانًا عالميًا، اعتقد ذات لحظة يأس أن مصر لن تعطيه الشيء الذي يستحقه، ورغم أنها هي التي علّمت الدنيا فن النحت، فإنها أصبحت تخشاه منه وتستحرم الاقتراب منه.
 فالتماثيل، في نظر الكثيرين، كانت مجرد أصنام مكروهة، ولكنه عندما عرف بأنباء ثورة 1919، وقرأ عن التضحيات الكبيرة التي يتحمّلها الناس العاديون من أجل حريتهم واستقلالهم، تغيّر كل شيء في داخله، وأدرك أن القمع لن يزيد المصريين إلا نبلًا، وأن حريتهم أعز عليهم من نفوسهم، فأراد أن يشاركهم رغم بُعده، وأن يكون قريبًا منهم كما يجب أن يكون، بدأ يصنع تمثالًا جديدًا عن الثورة،  استحضر من ذاكرته كل التراث المصري في تشكيل الأحجار، وتحرك إزميله يخلط التاريخ القديم باللحظة الراهنة، صنع تمثالًا يشبه «أبو الهول» الراقد في سفوح الأهرام، لكن دون عجزه القديم، أراد أن يرسم بجانبه فتاة تستحثه على النهوض، نحت جسدًا لفتاة تحمل سيفًا، ثم اكتشف أنه وقع أسيرًا لصورة جان دارك التقليدية، وأدرك أن
«أبو الهول» لن ينهض إلا إذا جاءت له فلاحة حقيقية.

الفلاحة الخَجلى
الأمر يحدث هكذا منذ آلاف السنين، الفلاحة حقًا لا ترفع سيفًا، لكنها ترفع فأسًا صغيرة، وتصنع الخبز لأطفالها، وتحلب البقرة بيد حنونة وتصنع جبنًا، تجيد صنع الحياة دون تحدّ أو اقتحام، ليست المرأة التي تعوّد أن يراها تسير متبرجة في شوارع باريس، لكنها تعاني خجلًا فطريًا لا يغادرها، ويجب أن تكون هناك طرحة على رأسها، تداري بها جزءًا من وجهها، وتخفي خلفها ابتسامتها الخجلى، تمامًا كما كانت تفعل أمه دائمًا وقريباته وبقية الفتيات في قريته، وما إن اهتدى للفكرة حتى أخذ يعمل في التمثال كل يوم، لم يحتج إلى أي موديل، كل التفاصيل كانت محفورة في ذاكرته، كان معرض الفنون الجميلة يقترب، معرض ضخم تحتضنه باريس كل عام، ويضم أعمال خلاصة الفنانين في فرنسا، أراد أن يكون بينهم، وأن يعرفهم أنّ في مصر ثورة، وأنها رغم الاحتلال تريد أن تنهض.
 لكن الأقدار تلعب دورها أيضًا، كان سعد زغلول في باريس، جاء مع وفد شعبي ليعرضوا القضية المصرية على مؤتمر الصلح، وسمع عن هذا المثّال الشاب الذي يزاحم بقية الفنانين بتمثال عن الثورة، وكان يجب أن يذهب إليه، كان التمثال يحتل جانبًا كبيرًا من صالة العرض وقف سعد باشا أمامه مبهورًا، شاهد بعثًا جديدًا للفن المصري والشخصية المصرية في مكان لا يتوقّعه، فقال: هذا التمثال ليس هنا مكانه، ولا هذا حجمه، يجب أن يكون ضعف هذا الحجم، وأن يحتلّ أهم ميدان في القاهرة.
 نظر إليه الفنان، الذي بدا شابًا خجولًا بلحية صغيرة، وقال: لن يسمحوا لنا يا باشا، كل التماثيل في كل ميادين مصر صنعها مثّالون فرنسيون، وكلها تخص أسرة محمد علي وما حولهم، لن يسمحوا لفلاحة مصرية أن يعلو رأسها في أي ميدان.
 صمتوا جميعًا، حتى الباشا نفسه، ثم قال في بطء: أمي كانت هذه المرأة الفلاحة، أمهاتنا جميعًا، حتى هؤلاء الباشوات، فلماذا لا ندافع عنها؟
 كان سعد نفسه قد ابتعد كثيرًا، تزوج من امرأة أصولها تركية وأسرتها كانت دائمًا من الذين يحكمون، ولكنه كان في لحظة لا تُنسى وقد غسلت الثورة روحه، قال: هذا التمثال يجب أن يتضاعف حجمه حتى يراه الجميع، ويجب أن يكون له مكانه المميز في قلب مصر.

حملة التبرع 
 كلمات الزعيم كانت شبه مقدسة، حتى أعداؤه لا يمكنهم تجاهلها، طارت كلماتها إلى مصر، وتلقّفها كبار الكتّاب، وخصصت جريدة الأخبار التي كان يرأسها أمين الرافعي صفحتها الأولى من أجل هذه القضية، واكتشف المصريون - بعد أن فشلوا في الحصول على أي شيء من الحلفاء - أنهم في حاجة إلى شيء ما، إلى  رمز يذكّرهم بأن عليهم المطالبة بالاستقلال، وبدأت حملة الاكتتاب، جمع الجنيهات والقروش وحتى الملاليم، ورغم رقّة حال المصريين وبساطة دخلهم، فقد استطاعوا أن يجمعوا 6500 جنيه، لم يكن مبلغًا هائلًا، لكنه لم يكن صغيرًا،  وخضعت الحكومة لرغبة الناس في مناسبة نادرة، وقررت دفع بقية التكاليف، وتكفلت مصلحة السكك الحديدية بنقل أحجار الجرانيت التي يختارها مختار من أسوان إلى القاهرة مجانًا، وعاد مختار إلى مصر ليدق أول إزميل في التمثال، لكن الملك فؤاد كان ممتعضًا، حين اطّلع على تفاصيل المشروع هتف فيمن حوله: فلاحة مصرية؟! قصور مصر مليئة بالأميرات الجميلات، ألم تعجب سي مختار واحدة منهن؟ 
وبين امتعاض الملك وتوق الناس، تواصلت رحلة صنع التمثال، فتأتي إحدى وزارات الوفد فتسدد النقص في التمويل، فيتواصل العمل في ورشة صنع التمثال، ثم تأتي إحدى وزارات القصر، فينقطع التمويل، ولا توجد نقود حتى لدفع أجور العمال، ويخيم الصمت على كتل الأحجار، فلا تنطق.

8 سنوات
 يتحمّل مختار كل هذه التقلبات دون أن يفكر في الهرب، فعل ذلك مرة في شبابه، لكنه لم يعد قادرًا على ترك التمثال وحيدًا، أيامًا كثيرة كان يعمل فيها وحده حين لا يوجد معه مال كافٍ لاستئجار العمال، ولحظات أكثر يجلس فيها أمام رأس الفلاحة وهي تشد طرحتها وتبتسم فيحسّ بالخجل، لأنه غير قادر على منحها الحياة التي تستحقها، ثماني سنوات من المكابدة والصراع مع الحكومات المتعاقبة، أوقفته هذه الإحباطات قليلًا، ولكنه ذات ليلة عندما سمع خبر موت سعد زغلول أفاق إلى نفسه، لم يبق إلا هو من أجل هذا المثال اليتيم، عاد وحده إلى ورشة العمل وأخذ يعمل حتى الصباح، وعندما بدأت الشمس في الشروق فوجئ بالعمال وهم يعودون وحدهم دون أن يسألوا عن الأجر، كانوا حزانى مثل بقية البلد، ولم يجدوا مكانًا ينفّسون عن حزنهم إلا هذا المكان، وببطء بدأ المثّال ينهض واقفًا، والفلاحة المصرية تصلُب عودها، و«أبوالهول» الساكن يتأهب للوثوب، أزاح الجميع ركام الحزن،  وفي يوم 20 مايو عام 1928 أقيم احتفال ضخم في ميدان السكة الحديد، وأزيح الستار عن واحد من أعظم الأعمال الفنية في تاريخ مصر، وجلس الملك فؤاد صامتًا وهو يشاهد الفلاحة المصرية تمسك طرحتها وترفع رأسها متطلعةً للمستقبل ■