عِلمُ الآثار كيف يقودنا إلى اكتشاف الماضي؟

عِلمُ الآثار كيف يقودنا إلى اكتشاف الماضي؟

    بدأ علم الآثار في العقود الثلاثة الماضية يقدّم معطيات لفهم المضي بصورة موسعة عن ذي قبل، هنا نحن نذهب مع هذا العلم إلى الماضي، إذ تعتبر دراسة القطع الأثرية والأشياء المصنوعة يدويًّا من الاهتمامات الرئيسية لعلم الآثار، فهي توفّر الأدلة لمساعدتنا في الإجابة عن أسئلة الماضي. يطلق مصطلح «المعالم» على القطع الأثرية غير المحمولة، مثل المسلات والآبار القديمة، ويطلق مصطلح «المواقع الأثرية» على المواقع التي تحتوي على آثار كبيرة من النشاط البشري من القطع الأثرية والمعالم جنبًا إلى جنب. وهنا يتحرك الآثاري للبحث عن السياق أو الإطار، وهو أمر أساسي لفهم النشاط البشري في الماضي. 

 

يتكون سياق القطعة الأثرية من المحيط الخاص بها، وهو المادة مثل طبقة التربة وما يحيط بها، ومصدرها، أي وضعها الأفقي أو الرأسي داخل محيطها وارتباطها ببقية القطع الأثرية التي وجدت بجوارها، والسياق الأساسي هو المكان الذي وجدت فيه القطع الأثرية وترسّبت فيه بالماضي. أما السياق الثانوي فهو يطلق على القطع التي تحركت من مكانها الأصلي من خلال القوى الطبيعية أو النشاط البشري.
  يتم إنشاء المواقع الأثرية من خلال عمليات متتابعة تشكّل الموقع، وتطلق «عمليات التشكيل الثقافي» على ما يقوم به الإنسان من نشاط؛ سواء أكان مقصودًا أو غير مقصود، مثل تشييد المباني والهياكل وحرث الحقول، وتطلق «عمليات التشكل الطبيعي» على الأحداث الطبيعية التي تؤثر على المواقع الأثرية، مثل الرماد البركاني الذي يغطي المدن القديمة، أو الرمال التي تحملها الرياح وتغطي التحف.
وتمكّن الأجواء البيئية السليمة من الحفاظ على القطع الأثرية، بغضّ النظر عن المادة التي صُنعت منها. وعادة ما تبقى المواد غير العضوية، مثل الحجر والطين والمعادن بشكل أفضل من المواد العضوية، مثل العظام والمنسوجات التي تميل إلى التحلل في الظروف القاسية، ويتوقف بقاء المواد العضوية على المحيط الذي يحيط بها، والمناخ الذي ترسبت فيه، وتعتبر التربة الحمضية في المناخات المدارية هي الأكثر تدميرًا للمواد العضوية، في حين تعتبر البيئات الصحراوية الجافة وشديدة البرودة أو التي غمرتها المياه من البيئات المناسبة للحفظ الأثري.

تطورات غير مسبوقة
وضع علماء الآثار المجددون ثقلهم العلمي لتطوير مفاهيم هذا العلم، فتم تعميق أبعاد البحث الآثاري لكي يجذب له علومًا واختصاصات مختلفة في مجالات الطبيعة والرياضيات والعلوم الاجتماعية أيضًا، وانبعثت عن هذا سلسلة لا حصر لها من التطورات غير المسبوقة في علم الآثار، وما تشعّب عنه من تخصصات، يعني هذا أن عالم الآثار عندما يبدأ معالجة مادته أو مشكلته الآثارية، يجب أن ينظر إليها من خلال الإطار المعيشي الكامل للإنسان؛ سواءً من ناحية التضاريس الجغرافية للمنطقة التي سكن فيها الإنسان، أو مواردها الطبيعة من ماء ونبات وحيوان ومعادن وغيرها، أو من المناخ وظواهر التعرية... إلخ، هذه النظرة تتطلب تضافر العديد من العلوم والتخصصات عند فحص المشكلة الأثرية.
  هذا المنهج الموسع لدراسة الإنسان في الماضي يرتكز في الأساس على النظرية القائلة بأن هناك توازنًا طبيعيًا خفيًا بين جميع المعطيات وظواهر البيئة المحيطة، ويشمل ذلك جميع الكائنات الحية، بما فيها الإنسان. فوجود الإنسان في مكان ما لغرض العيش؛ سواءً بالاستقرار أو الارتحال، تترتب عليه العديد من المضاعفات سلبية كانت أو إيجابية في الطبيعة المحيطة.
إذًا فدراسة هذه الطبيعة وتحليلها قبل عامل التدخل البشري وبعده، كفيلة بأن تعطينا فكرة عن التأثير البشري في التوازن الطبيعي، وبالتالي يمكن تحديد أوجه وأنماط العلاقة البشرية مع البيئة الطبيعية على مختلف مستوياتها، هذا بالطبع يحقق للباحث الآثاري مدخلًا عميقًا لفهم مشكلة المعيشة الإنسانية في الماضي، وبالتالي تفسير تاريخ التطور الحضاري بشيء من التحليل العلمي. 
  هكذا بدأت تترسخ فكرة المسح الآثاري الشامل الذي يهدف ليس فقط إلى حصر الآثار المنظورة، بل يتعدى ذلك إلى هدف الوصول إلى الإطار البيئي الكامل الذي عاصره بكل فترة من فترات الأزمنة الأثرية، وهذا ما يجعل السياق والأثر متلازمين في حل المعضلات التي تقابل علماء الآثار.

مجالات تخدم السياق  
- دراسة وتحليل مصادر الموارد الطبيعية إلى جانب الماء والنبات، مثل الطين، والمعادن والأحجار البلورية وغيرها، مما برز في استخدامات الإنسان القديم، ثم ربط هذه الدراسات والتحليلات بموجودات المواقع الأثرية.
- دراسة وتحليل التغيرات السطحية الجغرافية، وهذه لها تماسّ قوي مع عصور ما قبل التاريخ، تتضمن هذه الدراسات مثلًا: فحص تغيرات مجاري المياه كالأودية والأنهار، ومن ذلك تغيّر مجرى نهر النيل ودلتاه وفروعها في مصر، وتغيرات منسوب المياه فيها عبر الأزمان، وكذلك بالنسبة للآبار والعيون، ومنسوب المياه الجوفية، هذه التغيرات التضاريسية تساعد على معرفة زحف الرمال وتقلّص الأراضي الزراعية الخصبة بسبب الري وسوء التصريف.
- دراسة وتحليل منسوب مياه البحر: هذه الظاهرة بالطبع لها علاقة بالتغييرات المناخية، خصوصًا إبان العصور الجليدية وبعدها، غير أن هناك تغيرات في مناسيب البحار ليست لها علاقة بتلك الظاهرة المشهورة، كأحداث الزلازل والبراكين والانخفاضات التضاريسية وغيرها. وقد برزت أهمية هذه الدراسات خلال السنوات الأخيرة في اكتشاف حضارات المستوطنات البشرية على سواحل الخليج العربي.
- دراسة وتحليل ظواهر المناخ في العصور القديمة، وتعتمد هذه القاعدة على طرق تحليل الطبوغرافيا السطحية للمساحات الشاسعة التي يعتقد وجود مناطق آثار بها، خاصة في الأقاليم التي تعتبر جافة في الوقت الحاضر. 
وهنا يمكن إجراء حفريات استطلاعية في مواقع طبيعية لاستنساخ التسلسل الطبقي للترسبات الأرضية قريبة العهد، فقد أظهرت دراسات مثيلة لهذه الكثير من الدلائل التي أشارت إلى وجود مياه عذبة في المناطق التي تتصف بالصحراوية حاضرًا، مما ساعد على اكتشاف مواقع أثرية كثيفة حول مناطق البحيرات القديمة، وبالذات في منطقة الصحراء الغربية بمصر والربع الخالي جنوب شرق شبه الجزيرة العربية، حيث أظهرت دراسات المناخ والتربة وجود بحيرات مياه عذبة قبل حوالي ستة أو سبعة آلاف سنة ماضية، وبناءً على ذلك، تم اكتشاف عشرات المستوطنات الأثرية المهمة التي ازدهرت حول شواطئ تلك البحيرات، وثمّة طريقة أخرى لاستنباط المقاييس المناخية القديمة، تتعلق بإجراء حفرية اختبارية في مواقع العيون المائية القديمة، حيث تظهر تراكمات سطحية وتحت سطحية، تسجل التسلسل المناخي عبر العصور المختلفة داخل الترسبات التي صاحبت فترات الجفاف والأمطار المتعاقبة، وبتحليل المخلفات النباتية الموجودة في هذه الترسبات يمكن التوصل إلى معرفة المناخ السائد في كل فترة زمنية تمثّلها الطبقة الترسبية.

السياق والموقع
  تتطلب عملية إعادة بناء النشاط البشري في موقع ما فهم السياق والظروف التي صاحبت العثور على العديد من القطع في الموقع، والأمر ذاته ينطبق على المباني الأثرية والبقايا العضوية، ويتكون هذا السياق من مصدره المباشر، أي المادة المحيطة به، والتي عادة ما تكون نوعًا من الرواسب مثل الحصى أو الرمل أو الطين، فهذا المصدر للوضع الأفقي والرأسي وارتباطه مع الاكتشافات الأخرى حدث مع غيره من البقايا الأثرية، وعادة ما يكون في القالب نفسه.
  وقد ساعد ظهور الأدوات الحجرية مرتبطة مع عظام الحيوانات المنقرضة على الربط بينهما في سياق متصل يؤدي تحليليًّا إلى نتائج وضعت أسس العصور الحجرية القديمة، وأدرك علماء الآثار منذ ذلك الحين أهمية تحديد وتسجيل الارتباط بدقة بين البقايا الأثرية والموقع، وهنا تكمن المأساة الكبرى حين يقوم لصوص الآثار بانتزاع القطع الأثرية من أي موقع أثري بشكل عشوائي دون تحديد مصادر هذه القطع وارتباطاتها داخل الموقع، أي أن اللصوص يخرجونها من سياقها الذي يعطي هذه القطع قيمة مضافة كبيرة.
 هذا السياق يقودنا للتعرف إلى المجتمع الذي أنتج هذه القطع واستخدمها، وتسبب لصوص الآثار في فقدنا الكثير من المعلومات عن العديد من المواقع الأثرية في العراق الذي تعرّض العديد من المواقع الأثرية به للنهب غير المنظم، بدءًا من عام 2003، وكذلك في سورية خلال الحرب الأهلية الأخيرة، فأصبحت هناك آلاف القطع التي يجرى تداولها خارج سياقها، بل إن أعدادًا كبيرة منها لا نعرف المواقع التي جُلبت منها.

علم الآثار وتكوين الماضي
يسعى علم الآثار إلى إعادة بناء الماضي لفهمه بصورة واضحة، وعملية تكوين أي موقع أثري تؤثر عليها الطريقة التي يتم بها دفن الأسطح أو الطبقات التي يتكون منها وكيفية تكوينها، وهو ما يطلق عليه عملية التحلل.
  ويستطيع المرء أن يميز بشكل مفيد بين عمليات التكوين الثقافية وعمليات التكوين الطبيعية. فالعمليات الثقافية تكمن في الأنشطة غير الجوهرية للبشر، مثل صناعة التحف وبناء المباني وحرث الحقول وغيرها.
  أما عمليات التكوين الطبيعية فهي الأحداث الطبيعية التي تتحكم فيما هو مدفون، وما هو ظاهر للسجل الأثري، فالسقوط المفاجئ للرماد البركاني الذي غطى بومبي عملية طبيعية استثنائية؛ لأن تلك العملية تحدث عن طريق الدفن التدريجي للقطع الأثرية بفعل الرمال والتربة التي تحملها الرياح.
 وبالمثل، فإن عملية نقل الأدوات الحجرية بفعل اندفاع المياه في النهر تعد مثالًا على عملية التكوين الطبيعية، من هنا فإن مستقبل فهم عصور ما قبل التاريخ في مصر يأتي من فهم حركة اليابسة والمياه، بدءًا من مدينة الفيوم التي كانت على شاطئ البحر المتوسط إلى تكوّن دلتا النيل الذي أحدث حراكًا مع المياه أسفل الدلتا لكثير من أدوات عصور ما قبل التاريخ. وكذلك تعتبر أنشطة الحيوانات في موقع معيّن من العمليات الطبيعية عن طريق ما تقوم به من حفر على الأحجار، وأثر على العظام، وقطع الخشب.
  تبدو هذه الفروق للوهلة الأولى قليلة الأهمية بالنسبة لعلماء الآثار، لكنها في واقع الأمر مهمة لإعادة بناء تصور حول أنشطة الإنسان في الماضي. فعلى سبيل المثال، قد يكون من المهم معرفة أن بعض الأدلة الأثرية هي نتاج للنشاط البشري أو غير البشري، فإذا كنت تحاول بناء أنشطة الأعمال الخشبية لإنسان عن طريق دراسة علامات القطع على الأخشاب، فإنه يجب عليك التعرف إلى بعض أنواع العلامات التي يصنعها حيوان القندس بأسنانه، وتمييز هذه العلامات عن تلك التي يقوم بها الإنسان باستخدام الأدوات الحجرية والمعدنية.

  أكثر الأمثلة إثارة 
 كشفت المراحل الأولى للوجود البشرى بإفريقيا، في بداية العصر الحجري القديم، عن أن السمات الأساسية لقدرتنا البدائية على الصيد كانت ترتكز على الارتباط بين الأدوات الحجرية وعظام الحيوانات التي عثر عليها في المواقع الأثرية.
 فمن المفترض أن تكون تلك العظام للحيوانات التي تم صيدها وذبحها بواسطة الإنسان البدائي الذي صنع تلك الأدوات، لكن يجب الحذر، إذ إنه في بعض المواقع، ومن خلال آثار القطع على عظام الحيوان، يتضح أن العظام المستخرجة هي بقايا لحيوانات تم صيدها من قِبَل حيوانات مفترسة، هذا ما يؤكد ضرورة تحسين القدرة لدينا على اكتشاف هذه الفروق، وكذلك رفع كفاءة التقنيات المستخدمة للتمييز بين عمليات التكوين الثقافية والطبيعية وبين النشاط البشري وغير البشري.
 ويرتكز العديد من الدراسات الآن على توضيح الاختلافات بين علامات قطع الأدوات الحجرية على العظام، وبين تلك العلامات التي تمت بواسطة أسنان الحيوانات المفترسة.
  وتستخدم الآن العديد من التجارب الحديثة أدوات حجرية مماثلة لتلك الأدوات القديمة لتقطيع العظام، ويعدّ هذا الأمر أسلوبًا جديدًا ومفيدًا، فهناك أنواع أخرى من التجارب الأثرية التي يمكن أن تكون أكثر فائدة حول بعض عمليات التكوين التي تؤثر على الحفظ الفيزيائي للموارد الأثرية.

التكوين الثقافي
يمكن تقسيم عمليات التكوين الثقافي وقراءة المواقع أو السجل الأثر عبرها إلى نوعين: تلك التي تعكس السلوك البشري الأصلي والنشاط، قبل أن يصبح الموقع مدفونًا، أو قبل أن يتم العثور عليه، والنوع الثاني: عمليات النهب أو الحرث التي تتم بعد الدفن.
 تبدو معظم المواقع الأثرية الآن كنتيجة لسلسلة معقّدة من استخدام المدافن، وإعادة استخدامها مرات عدة، حيث يكون من الصعب تطبيق التقسيم المزدوج البسيط لعمليات التكوين الثقافية أو الحضارية من الناحية العملية، لقد أصبح هدف علم الآثار، إضافة إلى الكشف عن مخلفات الماضي والتعرف إليها، إعادة بناء السلوك البشري، فعلى سبيل المثال، في حالة وجود أداة صنعها إنسان في موقع ما سيكون هناك:
- الحصول على المادة الخام.
- تصنيع الأداة، حيث ظل الإنسان لنحو مليون سنة يعتمد على تكسير الأحجار لاستخدامها كأداة، دون تدخّل منه بتشذيبها أو بتحويلها إلى سكين، وعثر على عدد كبير من هذه الأدوات البسيطة في وادي أردوفاي في تنزانيا، وعند قيام الإنسان بتطوير هذه الأدوات حدثت نقلة نوعية في تاريخ الإنسانية. 
- الاستخدام والتوزيع.
- التخلص من الأداة عندما تتلف أو يتم كسرها.
كذلك الحال في المحاصيل الزراعية، مثل القمح، سيكون هناك حصاد، وتهيئة للاستخدام، واستخدام (متمثل في الطعام)، والتخلص (متمثل في هضم الطعام وخروجه على هيئة فضلات). 

مرحلة وسيطة
هنا يمكن إضافة مرحلة وسيطة، هي التخزين قبل الاستخدام، وهذه المراحل تشكل عند اكتشاف أي موقع دليلًا يمكن من خلاله قراءة الموقع، وتحديد طبيعة سلوك الإنسان في الموقع المكتشف، وعلى سبيل المثال، من السهل تحديد أماكن المحاجر، لأنه يمكن التعرف إليها من الثقوب العميقة في الأرض مع أكوام النفايات والفراغات التي ظلت موجودة بشكل جيد.
ومما يساعدنا في التعرف إلى السلوك البشري: الأشياء الثمينة التي يعثر عليها في المدافن، فضلًا عن أن الناس غالبًا ما يدفنون الممتلكات الثمينة في باطن الأرض خلال أوقات الصراع والحرب، بهدف استعادتها في وقت لاحق، لكنهم قد يفشلون في استعادتها لسبب أو لآخر، وتعتبر هذه الكنوز المصدر الرئيسي للأدلة لفترات معيّنة، مثل العصر البرونزي الأوربي الذي كان مشهورًا بالسلع المعدنية، وبريطانيا الرومانية التي تمثّلت كنوزها في الفضة وغيرها من المعادن الثمينة.
  إن العثور على العديد من الأدوات في المقابر، سواء كانت بسيطة أو تلال دفن أو مقابر بناة الأهرامات، التي استطاع علماء الآثار من خلال مكتشفاتها بناء حياة عمال بناء الأهرامات بدقة شديدة، بدءًا من مهامهم، وأمراضهم، وحركتهم في الموقع... إلخ، وهذا كله يساعد على بناء السجل الأثري للإنسان، بل إن العديد من الشواهد تساعد على بناء رؤية الإنسان للحياة بعد الموت، كالتحنيط عند قدماء المصريين لحفظ الجسد، وقد فعل «الإنكا» في بيرو شيئًا مشابهًا، فقاموا بالاحتفاظ بملوكهم في معبد الشمس كوزكو، وإخراجهم في الاحتفالات الخاصة.

السياق العضوي
  المواد غير العضوية، مثل الحجر والطين والمعادن أكثر قدرة على البقاء، كالأدوات الحجرية التي تبقى بشكل جيد جدًّا، على الرغم من أن بعضها يرجع لأكثر من مليون عام، ولذلك فإنه ليس من المستغرب أنها كانت دائمًا المصدر الرئيسي للتدليل على النشاط البشري خلال العصر الحجري القديم، على الرغم من أن الأدوات الخشبية والعظيمة التي هي أقل عرضة للحفظ تعادل تلك الأدوات الحجرية في الأهمية وفي بعض الأحيان يعثر على الأدوات الحجرية مهمشة أو مكسورة. 
إن التقدم المستمر مكّن علماء الآثار عبر الفحص بالميكروسكوب من تحديد ما إذا كانت هذه الأدوات تستخدم في قطع الأخشاب أو جلود الحيوانات، هنا نستطيع أن نتحدث عن استخدام الأداة.
يعد الفخار مادة أساسية لعلماء الآثار، فصناعة الفخار عرفت في اليابان منذ 16 ألف سنة، وفي الشرق الأدنى منذ 9 آلاف سنة، وأجزاء من أمريكا الجنوبية، وتكون دراسة الفخار من حيث الشكل والزخارف وبقايا الطعام بالأواني الفخارية... إلخ.
لكن في حالة الآثار الغارقة على نحو بقايا مدينة الإسكندرية البطلمية، وأسطول نابليون بونابرت الغارق في خليج أبو قير شرق الإسكندرية، تتسبب مياه البحر في هذه الحالات في طلاء المعادن بغلاف سميك من الأملاح المعدنية مثل الكلورايد والكبريتات والكربونات، وهذا يساعد على حفظ القطع الأثرية داخل هذه الطبقة من الأملاح المعدنية، ولكن إذا تم استخراج هذه المعادن من الماء دون معالجتها، فإن الأملاح تتفاعل مع الهواء وتنتج حامضًا يدمر بقايا تلك المعادن.
 ويمكن استخدام التحليل الكهربائي في تدمير ذلك الغلاف الملحي بوضع المعدن في محلول كيميائي، وتمرير تيار ضعيف بينه وبين معدن آخر ساخن محيط به، مما يؤدي إلى تدمير الأملاح الموجودة فوق المعدن بتحركها ببطء من المعدن السالب إلى المعدن الساخن الموجب، وبذلك نحصل على قطعة أثرية نظيفة وآمنة.

المواد العضوية
  يتم تحديد المواد العضوية بشكل كبير عن طريق قوالب المواد المحيطة والمناخ المحلي والإقليمي والتأثير العرضي للكوارث الطبيعية، مثل الانفجارات البركانية. هذه القوالب هي عبارة عن نوع من الرواسب أو التربة. وهي تختلف في تأثيرها على المواد العضوية، فالجير على سبيل المثال يحافظ على العظام البشرية، والحيوانية بشكل جيد، كما أن التربة الحمضية تدمّر العظام والخشب في غضون سنوات قليلة، لكنها تترك تغيرًا في اللون كدليل على وجود تلك الأشياء.
  فالعلامات البنية أو السوداء تدوم في التربة الرملية، مثل الصور الظليّة الداكنة التي تشير للهياكل العظمية. كما أن الرواسب يمكن أن تكون عنصرًا إضافيًّا للحفاظ على المواد العضوية، مثل المعادن والملح والنفط، ويساعد النحاس في المحافظة على البقايا العضوية، وذلك عن طريق منع نشاط الكائنات الحية الدقيقة المدمرة، فمناجم النحاس في وسط وجنوب شرق أوربا التي ترجع لعصور ما قبل التاريخ بها العديد من بقايا الخشب والجلود والمنسوجات. 
وقد ساعدت مناجم الملح في هالشتات بالنمسا في الحفاظ على المكتشفات العضوية. كما ساعد التداخل بين النفط والملح في الحفاظ على وحيد القرن الصوفي بمنطقة سترونيا في بولندا، أما منطقة لابريا في لوس أنجلوس فيوجد في حفريات القار (النفط) فبها كميات هائلة من الهياكل العظمية لحيوانات وطيور تعود إلى حقبة ما قبل التاريخ.
  كما يلعب المناخ دورًا مهمًا في الحفاظ على البقايا العضوية، فالكهوف عبارة عن أماكن طبيعية تحافظ على ما بداخلها من التأثيرات المناخية الخارجية، حيث تساعد الكهوف الجيرية على حفظ المواد القلوية بشكل ممتاز، ويمكن أن تساهم الفيضانات وآثار أقدام الحيوانات والبشر في حفظ العظام، والبقايا الهشة مثل بصمات الأقدام والألياف، مثل الحبل القصير الذي وُجد في كهف مزخرف يرجع إلى العصر الحجري في لاسكو بفرنسا، ومع ذلك يجب ملاحظة أن أي مناخ يختص بإقليمه، فالمناخ المداري أكثر تدميرًا؛ ذلك لأنه يجمع بين الأمطار الغزيرة، والتربة الحمضية، ودرجات الحرارة الدافئة، والرطوبة العالية، والنحت، والغطاء النباتي، والحشرات.

حالة كيميائية غير عادية
  تغطي الغابات الاستوائية المطيرة موقعًا بسرعة ملحوظة، حيث تقوم الجذور بطرد الأحجار، وإتلاف أجزاء المباني، وتتسبب الأمطار الغزيرة تدريجيًّا في تدمير الطلاء، وأعمال الجبس، وتصيب المشغولات الخشبية بالعفن التام. 
  وبالرغم من هذا، يصارع علماء الآثار من أجل الحفاظ على الغابات، كما هي الحال في جنوب المكسيك، إذ تشكّل عائقًا أمام لصوص الآثار للوصول إلى المواقع الأثرية داخلها.
  وهناك قاعدة بأن المناخات المعتدلة، كما هي الحال في الكثير من دول أوربا وأمريكا الشمالية ليست مفيدة للمواد العضوية، فهي دافئة نسبيًّا، لكن درجات حرارتها متغيرة، ونسبة أمطارها متقلبة، مما يؤدي إلى سرعة عمليات التحلل. ومع ذلك يمكن للظروف المحلية مواجهة هذه العمليات في بعض الحالات، فقد عثر روبن بيرلي على أكثر من 1300 رسالة ووثيقة مكتوبة بالحبر على ورق من شجر البتولا، أو خشب الألدر بالحصن الروماني في فيند ولاندا بالقرب من جدار هادريان في شمال إنجلترا، واستطاعت الأجزاء، التي يرجع تاريخها إلى حوالي عام 100 للميلاد، البقاء بسبب حالة كيميائية غير عادية للتربة، فالطين المضغوط بين الطبقات في موقع ما أنشأ جيوبًا خالية من الأكسجين، الذي يعتبر استبعاده أمرًا حيويًّا في الحفاظ على المواد العضوية، وأنتج نبات السرخس والعظام، وغيرها من البقايا الفعالة، مواد كيميائية جعلت الأرض خالية من أشكال الحياة ■

 

بين مدخل متحف التماسيح وشط نهر النيل، كشف أثري لصناعة الفخار في الدولة القديمة، فترة بناة الأهرامات، الأسرة الرابعة المصرية