سيكولوجية المماطلة

سيكولوجية المماطلة

مَن منا لم يقم في مرحلة من مراحل حياته بتأجيل مهام معيّنة، صغيرة كانت أم كبيرة، إلى وقت آخر، لتكون النتيجة معاناته من عذاب للضمير يرافقه ويعكّر عليه صفو أوقاته؟ ولكل مَن يعتقد أن التسويف أو المماطلة ظاهرة حديثة لها علاقة بمختلف أنواع اللهو والتشتت الذهني الذي يأتي مع وسائل التكنولوجيا الحديثة، فهو مخطئ، لأن المماطلة ظاهرة قديمة قِدَم البشرية، وجاء أول الاعترافات بمشكلة المماطلة من الشاعر اليوناني هسيود.

 

في قصيدته التي تحمل عنوان «العمل والأيام» التي تعود إلى حوالي عام 800 قبل الميلاد، والتي كان يخاطب فيها شقيقه بيرس، الذي بدّد ميراثه كله، وأخذ يلجأ إليه من أجل المساعدة، طالب هسيود بيرس بالتوقف عن التهرب من واجباته، وكتب يقول:
لا تؤجل عملك إلى الغد وبعده
فالعامل البطيء لا يملأ حظيرته 
ولا الشخص الذي يؤجل عمله
وفي سلسلة من الخطب الشهيرة لشيشرون، التي كانت تهدف إلى إقناع حلفائه بحمل السلاح ضد منافسه مارك أنتوني، حذّر شيشرون من أضرار التأخير، واصفًا المماطلة بالأمر «المكروه» في إدارة معظم الشؤون. كما كتب شاعر ورسام أسرة مينج الصينية، وانغ جيا، قصيدته التي تحمل عنوان «قصيدة اليوم»، تحذيرًا من تأجيل أعمال اليوم إلى الغد، فقال:
اليوم يتبع اليوم، وكم هو قليل اليوم!
إذا لم نعمل اليوم، فمتى يمكننا العمل؟!
كم عدد الأيام التي سيحظى به المرء طوال مئة عام من العمر؟
يا للأسف إذا لم يكن هناك عمل اليوم!

قرار سيئ
من ناحية تعريفها، تعني المماطلة تأجيل عمل اليوم إلى وقت آخر، وعلاوة على ذلك فإن كلمة المماطلة مرتبطة بالكلمة اليونانية القديمة Akrasia، التي تعني القيام بشيء على الرغم من الاقتناع بعدم صوابيته.
يقول أستاذ علم النفس بجامعة كالغاري في كندا، مؤلف كتاب «معادلة المماطلة... كيفية إيقاف تأجيل الأشياء والبدء في إنجاز الأمور»، د. بيرس ستيل، إن المماطلة هي «إيذاء للنفس، وإن الوعي بالذات هو جزء أساسي من سبب أن المماطلة تجعلنا نشعر بالانزعاج الشديد»، فعندما نماطل، لا نتجنب المهمة المعنية فقط، لكننا ندرك أيضًا أن القيام بذلك ربما يكون قرارًا سيئًا، ومع ذلك، فإننا نقوم بذلك على أي حال.  وتضيف أستاذة علم النفس بجامعة شيفيلد في بريطانيا، د. فوشيا سيروا، أن «المماطلة أمر غير منطقي في الأساس، إذ ليس من المنطقي أن نقوم بشيء ونحن نعلم بأنه ستكون له عواقب وخيمة». 

مشكلة إدارة الوقت أم عواطفنا؟
في الغالب، إذا سألنا أي شخص عن السبب وراء قيامه بالمماطلة، تكون الإجابة في العادة: «أنا فقط لا أعرف كيف أدير الوقت!»، لكن الأبحاث الحديثة التي بدأت في الظهور بالعقد الأول من القرن الحادي والعشرين أظهرت ارتباط المماطلة بالصحة العاطفية، حيث حددت دراسات مختلفة مشكلة المماطلة، بأنها متعلقة بإدارة العواطف أكثر من أنها مرتبطة بإدارة الوقت.
فالمهام التي نؤجلها عادة ما تجعلنا نشعر بالانزعاج بطريقة أو بأخرى من ناحية أنها مملة أو صعبة، أو أنها تعطينا إحساسًا بالقلق مخافة الفشل فيها، ومن أجل ذلك، ولتفادي تلك المشاعر السلبية، نبدأ بالتلهي بشيء آخر، مثل اللجوء إلى أي وسيلة تسلية أو القيام بعمل آخر. 
يقول أستاذ علم النفس في جامعة كارلتون بكندا، د. تيم بيتشل، إن المماطلة تنطوي على «استراتيجية تأقلم تركز على العاطفة للتعامل مع المشاعر السلبية»، حيث يحدث شيء كالتالي:
• نجلس للقيام بمهمة ما.
• نتوقع ما ستكون عليه تلك المهمة.
• نستنتج أنها لن تكون جيدة (على سبيل المثال، ستضغط علينا، وتجعلنا نشعر بالقلق، وما إلى ذلك).
• تنطلق استراتيجية التأقلم العاطفي لدينا لإبعادنا عن تلك المشاعر السيئة.
• وأخيرًا، نتجنب القيام بالمهمة.

المماطلة المزمنة
إن عدم القدرة على إدارة المشاعر السلبية المتعلقة بمهمة ما، يدفع الناس إلى الدخول في حلقة مفرغة من المماطلة المزمنة. في لغة علماء النفس، نحن نماطل لتحقيق «تحوّل ينطوي على الشعور بالمتعة» على المدى القصير على حساب تحقيق الأهداف الطويلة المدى. والارتياح اللحظي الذي نشعر به على المدى القصير هو في الواقع ما يجعل الحلقة مفرغة بشكل خاص. 
ففي العادة عندما تتم مكافأتنا على شيء ما، نميل إلى تكراره مرة أخرى. وهذا هو بالضبط السبب في أن المماطلة لا تكون سلوكًا لمرة واحدة، بل دورة تتحول بسهولة إلى عادة مزمنة.
وبمرور الوقت، لا يترتب على المماطلة المزمنة تكاليف إنتاجية فحسب، بل تكون لها آثار مدمرة على صحتنا العقلية والجسدية، بما في ذلك الإجهاد المزمن والشعور بالضيق العام وانخفاض الرضا عن الحياة، والإحساس بأعراض الاكتئاب والقلق والمعاناة من السلوكيات الصحية السيئة والأمراض المزمنة، وحتى ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والأوعية الدموية. ومما لا شك فيه أن هناك ميلًا بشريًا لإعطاء الأولوية للاحتياجات القصيرة الأجل على حساب الاحتياجات الطويلة الأجل، وفي هذا الإطار يقول أستاذ التسويق في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، عالم النفس د. هال هيرشفيلد: «إننا كبشر لسنا مخلوقين بالفعل للتفكير في المستقبل، لأننا بحاجة إلى التركيز على تأمين احتياجاتنا في الوقت الحاضر».

اختطاف اللوزتين
يضيف د. هيرشفيلد: «إننا على المستوى العصبي، لا يمكننا تصور أنفسنا في المستقبل بطريقة واقعية ولا بطريقة واضحة، ولذلك عندما نماطل، تعتقد أجزاء من أدمغتنا بالفعل أن المهام التي نؤجلها - والمشاعر السلبية المصاحبة التي تنتظرنا على الجانب الآخر- هي مشكلة شخص آخر، ومما يزيد الأمور سوءًا، أننا أقل قدرة على اتخاذ قرارات مدروسة وموجهة نحو المستقبل ونحن في حالة توتر، إذ عندما نواجه مهمة تجعلنا نشعر بالقلق أو عدم الأمان، فإن اللوزة الدماغية، التي تعمل ككاشف للتهديد في الدماغ، تتعرف على هذه المهمة على أنها تمثّل تهديدًا حقيقيًا من ناحية تقديرنا لذاتنا أو رفاهيتنا. وحتى لو أدركنا فكريًا أن تأجيل المهمة سينتج عنه المزيد من الضغوط النفسية في المستقبل، فإن أدمغتنا لا تزال مهتمة أكثر بالتخلص من التهديد في الوقت الحاضر».
يسمي الباحثون هذا الأمر بـ «اختطاف اللوزتين الدماغيتين»، وهو مصطلح ابتكره دانيال غولمان في كتابه الشهير «الذكاء العاطفي»، للتعبير عن الشعور الغريزي العميق الذي ينتج عن إفراز هرمونات التوتر، مثل الأدرنالين والكورتيزول في مختلف أنحاء الجسم، لتهيئتنا فورًا للقتال أو الهروب، وذلك أثناء المواقف التي تثير أعصابنا. وكل هذا يصعّب علينا تجنّب المماطلة، وذلك على الرغم من الانتشار الحديث للحيل التي تهدف إلى تحفيز الإنتاجية، إلا أن التركيز على مسألة كيفية إنجاز المزيد من الأعمال لا يعالج السبب الجذري للمماطلة.

مخاطر المماطلة
بغضّ النظر عن أسبابها، تسبب المماطلة مشاكل عدة على صعد مختلفة، فهناك مخاطر بالنسبة للطلاب، إذ إن التسويف يمكن أن يؤدي إلى تفويت المواعيد النهائية للواجبات، أو التأخر في الدراسة للامتحانات، مما يتسبب في الحصول على درجات سيئة، وحتى الفشل. 
وبالنسبة للموظفين، فإن المماطلة قد تؤدي إلى عدم الالتزام بالمواعيد النهائية، أو العمل غير المتقن. يقول رئيس شركة ألير للتدريب والاستشارات، مؤلف كتاب «قرّر»، ستيف ماكلاتشي، إنه «عندما تكون الجودة مهمة، لا تكون المماطلة خيارًا ذكيًا. عندما يتعين عليك القيام بمهمة ذات أولوية عليا أو إنتاج عمل عالي الجودة، أو أنها المرة الأولى التي تقوم فيها بمهمة ما، فإن الانتظار حتى اللحظة الأخيرة للقيام بذلك يحول دون قدرتك على التحكم في جودة العمل. عندها يكون التسويف قرارًا سيئًا». 
ويمكن للقيام بالأشياء في اللحظة الأخيرة أن يسبب الكثير من التوتر الذي قد يؤدي إلى حدوث مشاجرات وتدهور العلاقات بين الأطفال والآباء، وبين الأزواج والزوجات، وبين الرؤساء والمرؤوسين، وبين الأصدقاء أيضًا.
وإضافة إلى كل ذلك، وبما أن الوقت هو جانب أساسي من حياتنا، فإن أكبر مشكلة يمكن أن يولّدها التسويف هي ضياع الوقت، الذي عندما يضيع مرة واحدة يضيع إلى الأبد، ولا يمكن استعادته أبدًا. 

سارق الوقت
لذلك قيل إن «التسويف هو سارق الوقت»، وهو قول مأثور صاغه الكاتــب الإنجليزي إدوارد يونغ في قصيـدته التي تحمل عنوان «أفكــار ليلية»، حيث كان يتأمل في الموت  والحياة، ويحثّنا على «أن نكــون حكمـاء اليــوم»، ونبتعــد عن التسويف والمماطلة، إذ إن الحياة يمكنها أن تضيع في غمضة عين مع كل الفرص التي تأتي معها.
ومع كل هذه المخاطر التي تنتج عن المماطلة، لا بدّ من محاولة التخلص منها، لكن ذلك لا يعني العمل على تحسين أخلاقيات العمل أو إدارة الوقت بشكل أفضل، ولكن المطلوب، بدلًا من ذلك، التركيز على تغيير عاداتنا المتعلقة بإدارة المشاعر.
كما أن المماطلة ليست مرضًا يمكننا علاجه بشكل دائم، إذ إنه مما لا شك فيه أنه ستكون هناك دائمًا مهام غير مرغوب فيها بالنسبة لنا، حيث تستحضر لدينا مختلف المشاعر السلبية، لكن تجنّب هذه المشاعر هو تحدّ يتعين علينا إدارته بشكل حكيم، وبقدر كبير من الوعي بالذات ■