الشعر الجاهلي ونظرته إلى الموت

الشعر الجاهلي  ونظرته إلى الموت

منذ وُجد الإنسان احتج على الموت، رغم يقينه بعدم جدوى دفع الموت عن أيّة نسمة حياة، ومع ذلك ظل الإنسان الكائن الأوعى في المخلوقات يسعى لكيلا يموت، ولعل ملحمة جلجامش كانت المحاولة الإنسانية الأبرز في الأدب القديم للحصول على عشبة الحياة والرقص على جدث الموت، والدخول في محفل الآلهة التي كتبت الخلود لنفسها والموت لبني البشر. وفي حوار عميق بين شاماش (إله الشمس) وجلجامش يسأل شاماش الأخير: لماذا تحاول المستحيل؟ ويجيبه جلجامش: إذا كان عليَّ ألّا أحاول، فلماذا خلقتَ فيّ هذه الرغبة القلقة؟

في هذا الحوار يبدو احتجاج جلجامش على قدرية الموت واضحًا، ويزيد الاحتجاج قلقًا وتوترًا ما يعانيه جلجامش الذي يفكر في ماهية الموت ويقلق منه وهو في الحياة، ولعل غموض ما وراء الموت يملأ من يفكر به بالخوف والعجز والتعب، وقد أوضح المتنبي ذلك عندما قال:
ومن تفكّر في الدنيا ومهجتهِ
أقامَهُ الفِكرُ بين العجزِ والتعب

ولهذا كانت فكرة الخلود عند الإنسان تعني إنقاذًا من هذا القلق وطمأنة للروح والجسد في آن. جلجامش بعد موت صديقه أنكيدو امتلأ رعبًا، وراح يبحث عن دواء ينقذه من الموت، ويريد أن يعرف أين ذهب صديقه.
  وراحت تسيطر عليه فكرة الخلاص من الموت، وراح يبحث عن عشبة الحياة بعدما دلَّه على مكانها في أعماق مياه الموت «أتونباشتم» المستثنى من الموت، والناجي من الطوفان. 
   لقد استطاع جلجامش أن ينال عشبة الحياة من أعماق البحار، لكنّ الأفعى سرقتها منه وغاصت في البئر مخلّفة له إهابها. وهكذا كان الخوف من الموت من أهم أعضاء الموت الذي يخيف الأحياء قبل موتهم. إنه يتهم الآلهة بالظلم. إذ ربما يصبح الموت أسهل لولا وجود هذه الرغبة القلقة لدفع الموت. لم يقبل الإنسان أن يموت، وهو يدري أنه سيموت؛ سواءٌ احتجّ أم لم يَحْتَج. وهنا تكمن مأسوية الإنسان المنهزم أمام الموت الذي يأتي غير مبالٍ بما نقول ونفعل. 
  وحب الخلود وكراهية الموت موجودة حتى في الأنبياء، وقبل هبوط آدم وخروجه من جنة الخلد، ولذا حاول الشيطان أن يغري آدم بالخلود وقد كانت محاولته هي الأسبق في كشفها رغبة المخلوق بالخلود، وقبل الهبوط إلى الحياة الدنيا.
  لقد أغوى الشيطان آدم بتبشيره بالخلود إذا أكل من الشجرة التي أشار إليها الشيطان. وقد جاء في سورة الأعراف (الآية 20): «فوسوسَ لهما الشيطان ليبديَ لهما ما وُورِيَ عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا مَلَكَيْن أو تكونا من الخالدين». 
  لقد أغراهما بالخلود، فقد كان يدري ما يعني الخلود وعدم الموت حتى لآدم نفسه. إن تلك الشجرة تشبه عشبة الحياة في ملحمة جلجامش، وهي تعني التخلص من الموت، وتعني الخلود في الحياة. 

تحايل على الموت
لقد محا حضور الموت الدائم في الأشياء كلها فكرة التخلص منه، ومشت الكائنات في موكب الموت خافضة أعمارها للموت الذي كان كما يقول طرفة بن العبد: «لكالطِوَلِ المُرْخى وثِنْياهُ باليد». 
 وقد أدرك الأمي كالمتعلم والجاهل كالفَطِن حتمية الموت، وإن كان الطمع لم يبرح النفس الإنسانية بالتحايل على الموت بالتمائم والأدعية، يقول أبو ذؤيب الهذلي:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارَها   
ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ

إن قسوة الموت طوّرت العلوم ضده في الطب لتجَنُّب دواعيه، لكن الوسائل كلها تظل تحت سيطرة الموت. وكانت الغاية من هذا التطوير تأجيل الموت، مع الإقرار المضمر والمعلن بحتمية وصوله، فالطب محاولة لإطالة أمد الحياة، لا لإلغائها. استسلم الجاهليون منذ البدء لحتمية الموت، بمنأى عن أساطير وخرافات كان يخترعها العقل الإنساني للثورة على الموت بالخلود. ووقف الإنسان في عصره الجاهلي أمام الموت كما سنقف نحن أمامه بعد تطور العلم، وظل الاعتقاد قائمًا على اليقين بأن راعي الضأن في جهله سيموت كما يموت جالينوس في طبّه. وذلك بسبب عدم عودة أحد من عالم الموت ليخبرنا ما نجهله. 
 وعبّر الشعر الجاهلي عن الموت وانعكاساته على الأحياء من دون الغوص في غيبياته، وكان كلامهم على الموت ينحو مناحيَ شتّى، وأبرز هذه المناحي الإقرار بحتمية الموت وعدم القدرة على الإفلات منه، يقول زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنَهُ   
وإن يرْقَ أسبابَ السماء بسُلَّمِ

ويقول طرفة بن العبد منتزعًا صورة للموت من حياة البداوة، فهو كالحبل في عنق الدابة يشدُّها إليه متى شاء:
لعمرُكَ إنّ الموتَ ما أخطأ الفتى   
لَكَالطِّوَلِ المُرْخى وثِنْياهُ باليدِ

كيف تعامل الجاهليون مع الموت؟
كان إقدام الإنسان الجاهلي على الموت في الجاهلية أحيانًا كثيرة يقوده إلى الحرب بسبب قساوة الحياة ومتطلباتها، وكانت الصحراء بقساوتها تساوي بين الموت والحياة في السعي إلى تأمين القوت، وانعكست قساوة الحياة في الصحراء وجفاف عطائها على قبول فكرة الموت. فهذه أمّ الشاعر الصعلوك تبين لنا سبب موته، فقد خرج باحثًا عمّا يأكله فكان الجوع سبب قتله، حيث تقول:
طاف يبغي نجْوةً  
من هلاكٍ فهلكْ
والمنايا رُصَّدٌ    
للفتى حيث سلَكْ

إن اضطرار الجاهلي للحياة جعله يقدم على الموت اختيارًا، لأنه يحمل معنى الحياة سمعةً ونجاة من قساوة حياة انعكست في فكرة الصراع من أجل الحياة، ولو بالموت، في الشعر الجاهلي، الحياة والموت جاران «دارُهما العمرُ». وفي دلالة عميقة على هذا الجوار قول الحُصَيْن بن الحمام المرّي:
تأخرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجدْ   
لنفسي حياةً مثلَ أنْ أتقدّما

طبعًا، كان لضراوة الحياة دخلٌ في هذا، واستحال هذا خُلُقًا ومروءة فيما بعد في سلوكهم، فقد غدا الفرار من الموت سُبةً، وقد قبل المتنبي هذا وعقلنه حين أكد أخلاقية الموت الذي لا مفر منه، وإذا كان الموت حتمية وجودنا «فمن العار أن تموت جبانًا»، ولذا فرّق الشعر الجاهلي بين الموت والقتل، مفضّلين القتل على الموت، على الرغم من كون كلَيْهما موتًا، وفي هذا التفضيل يقول السموءل بن عادياء:
وما ماتَ منّا سيِّدٌ حتفَ أنفهِ   
ولا طُلَّ منّا حيثُ كان قتيلُ
تسيلُ على حدِّ الظُباتِ نفوسُنا   
وليست على غير الظُباتِ تسيلُ

كان القتل ذودًا عن المحارم وحاجات العيش عملًا أخلاقيًا متقدمًا في الشعر الجاهلي، وقد ربط الشاعر الجاهلي بين الحبيبة والذود عن القبيلة بحس الافتخار والتسامي، فقد كانت عبلة حاضرة في وجدان عنترة «وبيضُ الهند تقطر من دمي». وكان يلومها حين كانت تخوّفه من الموت، لأنه سيموت إنْ لم يُقتل في النهاية:
بكَرتْ تُخَوّفني الحُتوفَ كأنني   
أصبحتُ عن عرَضِ الحتوف بمعزلِ
فأجبتُها إنّ المنية منهلٌ       
لا بدّ أن أُسقَى بكأس المنهلِ
فاقني حياءكِ لا أبا لكِ واعلمي   
أنّي امرؤٌ سأموتُ إن لم أُقتَلِ

عالَم مُغلق
لقد ظلّ عالم ما بعد الموت مغلقًا في العقل الإنساني كافة، وكان العقل الجاهلي امتدادًا لهذا الانغلاق، ولكن بعض الشعر الجاهلي آمن بالانبعاث والحساب متأثرًا بالفكر الديني نتيجة للإيمان بالحنفية والديانات الأخرى، ونرى هذا في شعر زهير بن أبي سلمى، وهو يخاطب المتصارعين في داحسَ والغبراء:
فلا تكْتُمُنَّ اللهَ ما في نفوسكمْ   
ليخفى ومهما يُكْتَمِ اللهُ يعلمِ
يؤخَّرْ فيوضعْ في كتابٍ مُؤجَّلٍ  
ليومِ الحسابِ أو يُعجَّلْ فيَنقمِ

أما طرفة بن العبد فقد نظر إلى الموت نظرة وجودية غير مبالية بما يكون بعد الموت، واعتقاده هذا جعله يؤمن بالامتلاء من الدنيا قبل مجيء الموت، فدعا بوجودية عميقة إلى الامتلاء بالحياة قبل رحيله عنها، وكان هذا الاتجاه باديًا بوضوح على شعراء آمنوا بعقلية طرفة، ومنهم الحسن بن هانئ (أبو نواس)، وعمر الخيام، يقول طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أحضرَ الوغى   
وأن أشهدَ اللذاتِ هل أنت مُخْلِدي
فإن كنتَ لا تسطيعُ دفع منيّتي    
فدعني أبادرْها بما ملكت يدي
ولولا ثلاثٌ هنّ من عيشة الفتى  
وجدِّكَ لم أحفلْ متى قام عُوَّدي

والأشياء الثلاثة التي يريد الامتلاء بها قبل مغادرة هذه الحياة هي «سبقي العاذلات بشربة»، «وتقصير يوم الدجن والدجن معجبٌ ببَهْكَنَةٍ»، «وكرّي إذا نادى المضاف مُجنَّبًا». أي شرب الراح ومعاشرة فتاة شابة وإغاثة من يطلب نجدته. إنها اللذة المتاحة التي يستطيع الإنسان اقتناصها قبل مواجهة الموت.

كنز ناقص
 أما عمر الإنسان فإن طرفة يراه «كنزًا ناقصًا كلّ ليلةٍ»، وهو يستهزئ بالذي يحرص على الحياة منصرفًا عن اقتناص ملذاتها قبل فوات الأوان: «ستعلمُ إنْ متنا غدًا أيُّنا الصَّدي». ويرى أن الموت لا يترك للموتى سوى تشابه القبور الدارسة، وإذا كان الموت هكذا يفعل بالموتى، فماذا يجدي الحرص على متاعها الفاني؟
 يقول طرفة:
أرى قبرَ نحّامٍ بخيلٍ بمالهِ      
كقبرِ غَوِيٍّ في البطالةِ مُفْسِدِ
ترى جُثْوتيْنِ من ترابٍ عليهما   
صفائحُ صُمٌّ من صفيحٍ مُنَضَّدِ 

ورغم الإقبال الاختياري على الموت، فقد كان الرثاء من أعلى الأغراض الشعرية، وأكثرها ملامسةً للنفوس وتأثيرًا فيها، لأن باعثه كبير وآثاره تغوص عمقًا في شعاب النفس البشرية، فقد سئل أعرابيٌّ: «لِمَ مراثيكم أجملُ شعركم؟ فقال: لأننا نقولها، وقلوبنا محترقة». 
 لقد ترك الموت فجيعة في المتلقي، ولمّا يزلْ، وسيبقى، لأنه غياب أزليٌّ عمّن تحبُّ، فقد كان المَرثي يحضر في كلِّ شيء أمام الراثي، ولنستمع لهذا الشعر الممتلئ بحضور الفقيد في قول متمم بن نويرة، وهو يرثي أخاه مالكًا الذي قتِل في حرب الردّة:
وقالوا: أتبكي كلَّ قبرٍ رأيتَهُ     
لقبرٍ ثوى بين اللوى فالدكادكِ
فقلتُ لهم: إنَّ الأسى يبعث الأسى
دعوني، فهذا كلُّهُ قبرُ مالكِ

هذا الحضور الوجداني المذهل والرائع في هذا الشعر يجعل الرثاء في أعلى مواقع الشعر العربي، مع استثناء الرثاء المأجور الذي يُقصَد به الزلفى والتكسب. 
 والرثاء في حقيقته هو استدعاء للميت وعدم اقتناع بغيابه، لأن ما يضمره القلب يعاند العقل أحيانًا كثيرة. ولشدة تأثير الرثاء في الشاعر تحسُّ الحضور والغياب متنافسيْن باستمرار على تناوب الوجود، يقول متمم بن نويرة في أخيه مالك:
فلمّا تفرقنا كأني ومالكًا 
لطول اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا

رغم تماثل الأحاسيس الإنسانية في كل العصور، فــــإن الإحســـاس في الشعر الجاهلي كان أعمق، ربــما لقــلة العدد والحاجة إلى النصير، ولانْحصار الفكر في عالم قاحلٍ إلا من فيض الأحاسيـس، وعدم انشغــــاله بتعقـــيدات الفكر المعاصر التي تصـرف الإنسان عن التحديق في الموت وحده. 

الخنساء وصخر
لقد قضت الخنساء عمرها في رثاء أخيها صخر، وظلت تبكيه لشدة حضوره في ذاتها، حتى ملامسة اللذات الحياتية المتعلقة بما كان يتركه من أُنس في حياتها كما تقول هي:
فقد ودّعتُ يوم فراقِ صخرٍ   
أبي حسّانَ، لذّاتي، وأُنسي

هذه الباكية المعوال على صخر لم تحزن كحزنها عليه في مقتل أبنائها الأربعة في «القادسية»، فالإسلام لم يستطع إلغاء الحزن من النفس الباكية، لكنه خفف أحيانًا من وطأة هذا الحزن بموعد اللقاء في عالم آخر وبنعيم الإيمان.
فقد رويَ أن الخليفة عمر بن الخطاب ] عنه زجر متمم بن نويرة وهو يلقي شعره بالمسجد في رثاء أخيه مالك، وقال له: أمس مات أخي ولم ترني باكيًا عليه، فقال له متمم: والله يا أمير المؤمنين لو مات أخي على ما مات عليه أخوك لما بكيته أبدًا. فقال عمر: والله ما عزّاني أحد بمثل هذه التعزية. والقصد أنّ مالكًا مات في الردّة، بينما مات أخو عمر مسلمًا.
شعر الموت في الشعر الجاهلي يقف مذعورًا أمام الموت، ولذا يأتي ملتهبًا، ومتفجر الأحاسيس وعميق الأسى، ومع ذلك حاول الشعر الجاهلي أن يلغي آثار الموت من النفس الإنسانية بتعداد مآثر الفقيد، حتى لكأنه في الحياة ثانيةً، فشعر الخنساء كله رغم أساه يقوم على تمجيد مآثر فقيدها، فهي تقول في أخيها صخر مادحةً وباعثة الحياة فيه:
هبّاطُ أوديةٍ حمّالُ ألويةٍ
شهّادُ أنديةٍ للجيش جرّارُ

وتقول مادحة أكثر من الرثاء:
طويلُ النجادِ رفيعُ العمادِ     
كثيرُ الرمادِ إذا ما شتا

ويقول دريد بن الصمة مُحْيِيًا أخاه عبدالله بعد مقتله في المعركة:
تنادَوا فقالوا أردتِ الخيلُ فارسًا   
فقلتُ أَعبْدُ اللَّهِ ذلكمُ الرَّدي
فجئتُ إليه والرماحُ تنوشه     
كوقعِ الصياصي في النسيج المُمَدَّدِ
فإن يكُ عبدُاللهِ خلّى مكانَهُ    
فما كان وقّافًا ولا طائشَ اليدِ

لقد وضع شعراء الجاهلية كل المعاني الإنسانية الخالدة في مراثيهم، وحتى في أعدائهم إذا كانوا رجالًا، كما قال عنترة في رثاء من قتله:
فشككتُ بالرُّمحِ الأصمِّ ثيابَه   
ليس الكريمُ على القَنَا بمحرَّمِ