«نيوروبكس» تمارين الدماغ الواجبة

«نيوروبكس» تمارين الدماغ الواجبة

يوصينا أستاذ علم الأعصاب السابق بجامعة ديوك الأمريكية، د. لاورينس كاتز، بممارسة الـ «نيوروبكس» (أيروبكس الخلايا العصبية) للحفاظ على أدمغتنا نشيطة وفي صحة جيدة. ويؤكد في كتابه «حافظ على دماغك حيًّا» أن كثيرًا من خرافات شيخوخة الدماغ بلا دليل علمي، وأعيد النظر فيها مع التقدم التكنولوجي، وأن هناك دليلًا الآن على أنه ينبغي ألا يحدث التدهور السريع مع تقدّمنا في العمر. 

 

أثبتت دراسات أجريت في نهاية تسعينيات القرن الماضي في أمريكا والسويد، إنتاج الدماغ خلايا جديدة في أدمغة مسنيّن، أعمارهم بين الخامسة والخمسين والسبعين، وثبت أن التدهور الذهني ليس بسبب موت الخلايا العصبية المستمر، كما ترى النظرية القديمة، لكن بسبب تراجع تفريعات الخلايا العصبية، أو ما يعرف بالزوائد الشجرية المسؤولة عن نقل الإشارة الكهربائية من الخلايا العصبية الأخرى وإليها، والتي تشكّل قاعدة الذاكرة.  
ونظرًا إلى أن الزائدة الشجرية تتلقى المعلومات عبر روابط تسمى التشابك العصبي، فإن فشل هذه الروابط في العمل بصورة منتظمة يؤدي إلى ضمور الزوائد الشجرية، مما يقلل من قدرة الدماغ على وضع معلومات جديدة في الذاكرة واستدعاء معلومات قديمة. 
وعلى هذا، تساهم تمارين الدماغ «النيوروبكس» في تحفيز النشاط العصبي الذي يخلق مزيدًا من الروابط بين مناطق الدماغ المختلفة، وتجعل الخلايا العصبية تنتج مزيدًا من مغذيات الدماغ الطبيعية التي تزيد من حجم الزوائد الشجرية في الخلية العصبية وتعقيدها، وتقوي محيط الخلايا، وتعزز من مقاومة آثار الشيخوخة. 

كسر الروتين
تعتمد تمرينات النيوروبكس على كسر الروتين اليومي، لأنّ الروتين مميت للدماغ، وكل ما يعمل عليه من تسهيل أداء المهمات مع التكرار، يأتي على حساب صحة الدماغ. فالسلوك الروتيني يتم بلا وعي، وبأقل قدر من المجهود، مما لا يساعد على تكوين روابط جديدة.
وفي المقابل، يؤدي القيام بنشاط غير روتيني إلى تحفيز عمل الدماغ، كما يعد التفاعل الاجتماعي من مفاتيح النيوروبكس الاستراتيجية، لأن التفاعلات الاجتماعية غير روتينية، وغير مُتنبأ بها في الغالب، وهو ما يفسر تراجع الأداء الذهني لدى المسنيــن أو الأشخاص المعزولين الذين لا تتوافر لهم فرص هذا النوع من التفاعل، مع تقلص الدوائر الاجتماعية. 
ومن التمارين المهمة في كسر الروتين اليومي، تحديات عدم الاعتماد على حاستي البصر والسمع - التي نلجأ إليها عادة لنعرف ما يجري حولنا بسرعة وسهولة - وتشجيع استخدام حواس أخرى كالشمّ واللمس والتذوق، لتلعب أدوارًا أكبر في الأنشطة اليومية، مما يزيد من المرونة الذهنية.
فإذا حاولنا، مثلًا، فتح قفل الباب بعيون العقل، بدلًا من عيون الوجه، فيمكن لهذا الفعل غير الروتيني تنشيط الروابط العصبية التي نادرًا ما تُستخدم. كما يساهم انتقالنا من غرفة إلى أخرى في الظلام والوصول إلى هدفنا معتمدين علــــى خـــرائطنــا الذهنيـة للمكـــان، أو لمس الجـــدران وقطع الأثاث فــــي تنشيط خلايانا العصبية.
وقـــــد يؤدي تأملنا وردة وشمّهـــــا ولمــــسها إلى تنشيط مناطق الرؤية والشم واللمس في الدماغ، وإثارة مشاعر وأحاسيس تذكّرنا بأشخاص قدّموا لنا وردًا ذات يوم، أو مناسبات تلقينا فيها مثل هذه الوردة، فنحفز الذاكرة.
وحتى لو لم تنجح ممارسة الـ «نيوروبكس» في إرجاع أدمغتنا لعمر العشرين، فهي تساعد - من غير شك - على الوصول إلى ذكريات ذلك العمر وعيشها ببساطة.

أسلوب حياة
مثلما ينصح أطباء التخسيس بتغيير أسلوب الحياة كخيار أنجع من الحرمان الشديد من الطعام لفترة قصيرة، تقتضي ممارسة تمارين الـ «نيوروبكس» إحداث تغييرات بسيطة في عادتنا اليومية. فالكتابة أو تفريش الأسنان أو تسريح الشعر باليد اليسرى بدلًا من اليمنى، كمثال، كفيلة بتنشيط مناطق من الدماغ عندما تواجه أدمغتنا فجأة بمهمات جديدة وتحديات لم تعتد عليها.
كما يفيد الدماغ إشراك حاسة أو أكثر في سياق جديد وغير متوقع، كالاستماع للموسيقى مع شم مستخلصات عطرية، أو الاستحمام على ضوء شموع باستخدام صابون مختلف الرائحة، أو السير في طريق جديد للوصول إلى العمل، أو تغيير مكان المكتب، وقلب ما عليه من صور، أو التسوق في مزرعة بدلًا من ارتياد سوبر ماركت.
هذا إلى جانب الحد من استخدام الحاسة التي نعتمد عليها في أغلب الأحيان، وإجبار أنفسنا على الاعتماد على حواس أخرى لعمل مهمة عادية، كاختيار الملابس وارتدائها بعيون مغلقة اعتمادًا على حاسة اللمس، أو تغيير مكان الجلوس، أو تناولنا الطعام مع أفراد الأسرة في صمت. ومن المهم أيضًا تغيير هذه التمارين وتنويعها، حتى لا تتحول إلى روتين فتفقد قيمتها.  

شبكة الربط 
لمواجهة مشكلة نسيان الأسماء، يقترح د.كاتز، الذي لقّب بـ «أبي النيوروبكس»، تعمُّد خلق روابط باستخدام الحواس وبعض الإشارات الانفعالية والاجتماعية، كربط الاسم بمدخلات حسية، مثل لمسة اليد، أو نغمة الصوت والرائحة، إلى جانب المظهر الخارجي المرئي.
ويرفع ربطنا الاسم بأربع حواس، مثلًا، من فرص تذكره، فإذا أخفقت حاسة ستجد أخرى سبيلًا للتذكر، وهكذا يصبح اتباع استراتيجيات عمل أكثر من رابط كبناء سدّ ضد بعض الفقدان الحتمي، وكلما اتسعت شبكة الربط، تستطيع أن تظل صامدة حتى لو انهارت بعض خيوطها. 
ويمكننا التعلم من طفل وجد «شخشيخة» فنظر إليها، ثم التقطها ولمسها بأصابعه، وهزها، واستمتع بالصوت الذي تحدثه، ثم وضعها في فمه، فلمسها بلسانه وشفتيه، فصنع بذلك شبكة من الروابط القادرة على وضع الشخشيخة في الذاكرة.  
تجدر الإشارة إلى أنه يمكن تحسين تدهور الذاكرة بنسبة تتراوح بين 30 و50 في المئة فور أداء تمارين الدماغ التي تدعم قدرة التعرف إلى الأشياء، وابتداع طرق عصبية تتوافق مع التغيير لمقابلة الحاجات، وفقًا لدراسات أجريت في جامعة ستانفورد الأمريكية.  

مواقع وتطبيقات 
لقد ألهم كتاب د. كاتز، المشار إليه، وما فيه من مقترحات، كثيرين ممن وضعوا تطبيقات وأسسوا مواقع إلكترونية لممارسة «النيوروبكس». ومن محتويات هذه المواقع اختبار لقياس تأثير أسلوب الحياة على صحة الدماغ، يتضمن أسئلة مثل: ما مدى تسوقك من المزارع؟ وهل تسلك دائمًا الطريق نفسه للعمل؟ وهل تفضل مشاهدة التلفزيون ليلًا على تناول الطعام مع صديق؟ وهل تتبع الروتين نفسه عند استيقاظك كل يوم؟ وهل تأخذ حمامًا في وقت محدد؟ وهل تميل لقضاء الإجازة بالطريقة نفسها كل عام؟ وهل تجرب أطباقًا مختلفة من الطعام في المنزل أو المطعم؟ وهل تكرر محاولة تجربة أشياء جديدة كزيارة المتاحف ومشاهدة الأفلام وغير ذلك؟ وهل تحاول التفاعل اجتماعيًا مع الآخرين؟ وهل تعتقد أنك تستخدم جميع حواسك: الشم، والبصر، والتذوق، واللمس، والسمع؟ حيث تكون الإجابة على مدرج يبدأ من لا، وينتهي بـ «دائمًا»، مرورًا بـ «أحياناً وكثيرًا». وبعد حساب درجة الاختبار تقدّم نصائح مثل: «تحتاج إلى بعض التغيير في عادات تمــــرين دماغـك»، أو «الوقت ليس متأخــرًا لتبــدأ في تمريـن دماغــك». كـــــمـــــا يــــعــد موقع وتطبيـــق BrainHQ المتخصص في تدريب الدماغ - عبر برامج متعددة وألعاب تخـاطب جــــوانـــب مختلـــفة كالانتباه، وسرعة عمل الدماغ، والذاكرة، والمهارات، والذكاء - من المواقع والتطبيقات المبنية على دراسات علمية يقف وراءها الأستاذ بجامعة كاليفورنيا، المتخصص في إعادة تشكيل الدماغ، د. مايكل ميرزينك، الذي ينادي، عبر عديد من المقابلات والأحاديث على «يوتيوب»، بضرورة مقاومة أسلوب حياتنا السهل الرتيب بتعلّم مستمر وتمرينات توفر قدرًا من التحديات والدهشة المغذية للدماغ. ويؤكد أن تدريب الدماغ لبضع ساعات يمكن أن يحفزه لسنوات، وينصح بالعودة إلى الطبيعية في التفاعل الاجتماعي المباشر، والتعامل مع البيئة المحيطة بكل ما فيها من تفاصيل ومفاجآت ■