أرقام محمود المراغي

أرقام

الهجرة : مثلت الضعف والقوة
سوف يظل عام (1990) علامة في التاريخ الإسرائيلي، ففي ذلك العام استقبلت إسرائيل (270) ألفا من اليهود السوفييت، وهو أعلى معدل طوال ما يزيد على قرن من الزمان، تدفق خلاله يهود روس ويهود بولنديون وآخرون من أراض سوفييتية. في ذلك العام كان الانهيار قد بدأ في موسكو، ولعب الانهيار دورا رئيسيا في الهجرة، فقد تم الاتفاق بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في هلسنكي على السماح لليهود بالهجرة وتسهيل الانتقال لمن يرغب، لكن ذلك الاتفاق والذي تعطل سنوات لم يحقق نتائجه الواسعة غير عام 1990.

في ذلك العام، الذي استهل به العالم حقبة أخيرة من القرن العشرين، كما استقبل إرهاصات نظام دولي جديد، بلغ حجم هجرة اليهود السوفييت: (270) ضعفا لما كان عليه هذا الحجم عام 1970. وكانت الذروة لعقود من الزمان سجلها التقرير الاقتصادي العربي الموحد الذي يصدره صندوق النقد العربي بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء ومنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول.

منذ القرن الماضي

بدأ تدفق اليهود مما عرف بعد بالاتحاد السوفييتي منذ القرن الماضي، ويسجل التقرير العربي أنه خلال العشرين عاما الأخيرة من ذلك القرن هاجرت أعداد من اليهود تتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف شدوا الرحال واستوطنوا فلسطين، وفتحوا الباب لأعداد تزايدت تدريجيا فبلغت ما بين (35 - 40) ألف نسمة بين عامي 1904 و 1914، ثم تزايدت بعد وعد بلفور فسجلت أربعة أعوام فقط (19 - 1923) هجرة (35) ألف يهودي. ثم استمر التزايد فبلغ عدد المهاجرين من روسيا وبولندا (82) ألف مهاجر خلال سبع سنوات ممتدة بين عامي (24 و 1931).

وبالوقوف قليلا أمام الجدول الإحصائي الذي نشره التقرير العربي الموحد (92) نلاحظ:

أولا: أن التدفق بين وعد بلفور وقيام الدولة وسقوط الاتحاد السوفييتي كان متذبذبا.. لكن أعلى السنوات كما قلت هي عام 1990 ذلك الذي اجتمع فيه مثلث الضعف والقوة.. فبينما خفت قبضة السوفييت وأصبحوا أكثر استعدادا لقبول الطلبات الأمريكية والإسرائيلية، زاد ضغط الولايات المتحدة بالحد من هجرة اليهود إليها، وزاد إغراق إسرائيل لجذب مهاجرين جدد، ونتيجة هذه العلاقة الثلاثية بلغ التدفق مداه، ولكن لعام وأحد هو 1990. قبله كان عدد المهاجرين: (13) ألفا فقط (89)، وبعده بلغ عدد المهاجرين (يناير- أغسطس 91) ثلاثين ألفا لا غير.

ثانيا: كان أقل معدل للهجرة عام 1970، وهو ذلك العام الذي بلغت فيه حرب الاستنزاف مداها قبل أن تتوقف، وبلغ فيه التعاون بين عبد الناصر والسوفييت مداه. وتعكس الأرقام تأثير التوتر العسكري على الهجرة، فقد ظلت المعدلات (70 - 74) منخفضة، ارتفعت عندما ذهب عبد الناصر، واستمر ارتفاعها في ظل السادات وحتى عام 73، ولكن حين وقعت حرب أكتوبر تراجعت الهجرة عامي 74 و1975 الشيء نفسه حدث عام 1982، حين غزت إسرائيل لبنان، وبدت الحالة غير مستقرة فلم تتجاوز الهجرة حينذاك (2700) يهودي مقابل (51.3) ألف يهودي عام 1980.

إنه المد والجزر الذي يرتبط بالأمن والسياسة وما يتصور اليهود أنها فرص عمل.

تركيبة سكانية جديدة

الأرقام المتناثرة قد لا تفيد كثيرا، ولكن حين نعلم أن جملة أعداد المهاجرين السوفييت وأقطار تدور في فلكه قد اقتربت من المليون خلال هذا القرن، فإننا ندرك أن اليهود القادمين من الشرق الأوربي يمثلون أهمية نسبية عالية في التركيبة السكانية الإسرائيلية، وأن التطورات التي حدثت مع سقوط الاتحاد السوفييتي سوف تؤثر على التقديرات التي كانت تقول إن المستقبل للفلسطينيين الذين تتزايد نسبتهم مع وجود أسرة عربية كبيرة بالقياس للأسرة الإسرائيلية.

الآن، تختل المعادلة، والسبب: يهود قادمون من الاتحاد السوفييتي.

لكنها ليست المعادلة الوحيدة التي تختل، فالهجرة قد خلقت مجموعة خطيرة من النتائج، فالمهاجرون الجدد يضمون 53% من أعدادهم كقوى عاملة جاهزة للإنتاج، ومهاجرو 1990 لهم تركيبة خاصة:

* 39% منهم من فئة العلماء والأكاديميين والفنيين كالمهندسين والأطباء وعلماء الطبيعة.

* و 4, 34% منهم ممرضون وممرضات.

* و 8, 6% عمال بيع وخدمات.

* و 12,8% عمل مهرة في الصناعة.

وذلك بالإضافة إلى نسبة غير قليلة من المديرين هذا التركيب المهني يعكس نفسه على سوق العمل واندماج المهاجرين في اقتصاد الكيان الصهيوني، وقد يؤثر على فرص العمل المتاحة للفلسطينيين الموجودين في الأرض المحتلة.

من جانب آخر فإن متطلبات الهجرة معروفة: فرصة عمل، وقطعة أرض، وقدر من الماء والغذاء، لذا فقد استولت سلطات الاحتلال على 54./. من أراضي الضفة الغربية و 40% من أراضي غزة.

وبطبيعة الحال فإن مشكلة الماء أكثر تعقيدا، وقد تدخلت السلطات الإسرائيلية منذ احتلال 1967 بتقنين التصرفات في كل أنواع المياه بما فيها المياه الجوفية، وبات الفلسطيني لا يستطيع أن يحفر بئرا في الضفة أو القطاع دون إذن سابق، وبات الإذن محفوفا بالاحتمالات، فالقرار الإسرائيلي هو الاستيلاء على أكبر قسط من الماء وبما يعكس نفسه على الجانبين: جانب الوفاء بحاجات إسرائيل، وجانب إضعاف الاقتصاد الفلسطيني الذي يعتمد في جزء كبير منه على الزراعة. و.. طبقا للتقرير العربي الموحد (92) فإن إسرائيل، وفي ظل تدفق المهاجرين، أكملت استيلاءها على مياه الضفة الغربية فبلغ ما أخذته من الموارد المائية ثمانين في المائة!

وتمتد الآثار، فالهجرة بحاجة لموارد مالية وأقرب المصادر ضرائب جديدة يؤديها الفلسطينيون.

ولكن، وعلى الجانب الآخر فإن المهاجرين يمثلون عمالة رخيصة نسبيا، وبما يعني فرصة تصديرية أوسع لسلع إسرائيلية انخفضت تكلفتها نتيجة لتراجع نسبة الأجور في التكلفة.

* السؤال: هل ينجح كل ذلك في خلق مجتمع إسرائيلي متجانس؟.. وهل يستمر استقرار المهاجرين؟ أم أن عوامل الطرد تجذبهم للخارج مرة أخرى؟

التطورات السياسية تحكم ذلك. فالهجرة هي جرعة الدم الصناعي التي تدخل إلى الجسد فيمتصها أو يلفظها ويموت المريض.

وحتى الآن، ما زالت كل الاحتمالات مفتوحة، والصراع يدور بين مجتمع يهودي غير متجانس، ومجتمع فلسطيني أكثر تجانسا واتحادا، لكن الأول توافرت له عناصر أكثر للقوة. و.. تلك هي المعضلة.

 

محمود المراغي