قصة التعب وتطوره خلال العصور

قصة التعب وتطوره  خلال العصور

غالبا ما يُقرأ التعب على قسمات الوجوه المرهقة، إما بسبب الإفراط في العمل، وإما لعلّة مَرَضية، وإما لأسباب نفسية يقضي المرء في تحمّلها أوقاتًا عصيبة، فمجالات الحياة المتنوعة لا تفتأ تبدي مزيدًا من علامات التعب والإرهاق التي يعيشها الفرد في فترات يشوبها كثير من التعقيد والتوتر.
وإذ يبلغ التعب في كثير من الأحيان أبعاده القصوى، فيضاعف من معاناة الوصول، ويقف حاجزًا أمام بلوغ المرء ملاذات الطمأنينة النفسية ونيله نصيبًا من الراحة، فإنه يظل مؤشرًا دالًا على الاقتراب من شيخوخة مبكرة، لأنه يدفعنا وراء الحدود المعتادة، حيث يطوّق الجسد ويفرّغ طاقاته، وأحيانًا يشل حركته ويجعله يوشك على الانطفاء. 

 

 لازم التعب الإنسانية منذ القديم، وما يزال إلى الآن ظاهرة غنية بالتحولات والمفاجآت، جديرة بالدراسة والتحليل، لما تحمله بين طياتها من الإثارة والغرابة والتشويق.
وعند هذا المدى، يذهب المؤرّخ جورج فيغاريلو في رحلة طويلة لطالما احتفظ فيها التعب بذخيرته التي تتعدد وتتمدد في الزمان والمكان، من خلال دراسة مستفيضة، اشتملت على 1000 صفحة تقريبًا، تتبع فيها الكاتب أشكال التعب ومظاهره وتطوّره وتوسّعه من العصور الوسطى إلى أيامنا هذه. ويظهر ذلك جليًا في كتابه «تاريخ التعَب... من العصور الوسطى إلى اليوم»، الصادر عن دار سوي في باريس هذا العام.
يتناول هذا الكتاب الفريد من نوعه قصة لم تنل حظها الكافي من الدراسة منذ القديم، وحتى الآن. إنها قصة التعب، في تاريخه الطويل، من العصور الوسطى، وصولًا إلى أيامنا هذه، ويميط اللثام عن أشكال التعب المتميزة التي تحشد ردود الفعل المختلفة، والتي يوليها الجميع أولوية خاصة.
فمع مـرور الوقت، تتغير أعــراض التعب، كما أن مصطلحاته لا تفتأ تتوالد وتتجدد، ومنها على سبيـــل التمثيـــل: الخمـــول، والذبـــول، والمشقة، والعياء، والإنهاك، والفتور، والكلل... مع ما يواكبها من تفسيرات جديــدة، بدرجات أكثر وضوحًا. وبهذا الصدد، أثبتت آخر الإحصاءات أن ما يقرب من 8 أشخاص نشيطين من أصل 10 يستخدمون كلمة «الإجهاد» لوصف عملهم. وقد صرح أكثر من ثلث الموظفين في عام 2017 بأنهم أصيبوا بحالة من الاحتراق المهني. يُضاف إلى ذلك الكمّ المتوالي من أوجه الضعف، والهشاشة، والتفاوتات الطبقية المؤلمة، وما يترتب عن ذلك كله من مظاهر الإنهاك وفتور الهمة، فضلًا عن الشعور بالاستياء وعدم الرضا عن الوضع في شموليته. لا يمكن للتعب إذن إلا أن يتضاعف، وأن ينتشر في صمت، وأن يلاحق اللحظات عادية كانت أم غير متوقعة، ويبرز جوانبها الداخلية. وهكذا، يذهب الكاتب إلى أن التعب يفرض نفسه في الفضاء العام، وفي العمل، وفي الفضاء الخاص، ويهيمن على علاقاتنا مع أحبائنا، بل ويؤثر في علاقتنا مع أنفسنا.

الجذور الأولى
بالعودة إلى الجذور الأولى للفظة «التعب»، يتبيّن أنها مشتقة من لفظتيْ Fatigatio أوDefatigatio عن الأصل اللاتيني القديم جدًا. وتشير هاتان اللفظتان إلى وجود صلة قوية ومباشرة بين أمس واليوم، وإلى أن التعب والإرهاق ملازمان للإنسان، مكتوبان بمداد راسخ على صفحات التاريخ. فالتعب يقع في صميم الطبيعة البشرية، إنه استنزاف لا يمكن تفاديه، وقد يبلغ حده الأقصى، تمامًا مثل المرض، والشيخوخة والموت. كما يرمز إلى هشاشة البشر، وافتقارهم، ويقيم عقبة مزدوجة على نطاق واسع؛ عقبة داخلية تنبع من حدود الذات المتعبة، وأخرى خارجية تفد من العالم، ومن قيوده، ومعارضاته. 
ومع ذلك، فإن تتبّع تاريخ التعب يكشف عن مسار غني بالتحولات، وعن قصة شائقة، هي أكثر تعقيدًا مما يبدو وأجدر بأن يُتعمق في أغوارها، وأن يُلتفت إليها في سياق العناصر الفاعلة والثقافات والمجتمعات. فمثلًا، في سياق التاريخ الغربي، يختلف إدراك التعب من حقبة إلى أخرى، كما يتغير تقييمه وتختلف أعراضه، وتتجدد كلماته، وتتضاعف تفسيراته. 
يستجيب التعب لترتيبات اجتماعية، ويشير إلى أنماط وجود جماعية. ففي العصور الوسطى، كان تعب المقاتل الذي يهب حياته دفاعًا عن وطنه أمرًا مركزيًا، في حضارة جسّد فيها الجندي القيمة الأولى. فتعب الجندي المقاتل في تلك الفترة كان يحظى بالاعتراف والتقدير. بل كان التعب أيضًا يؤخذ بعين الاعتبار في المبارزات التي شهدها القرن الخامس عشر، حيث تتضاعف قيمة الفائز تبعًا لكمية الضربات التي تلقاها الخصم في أثناء المبارزة.  
وقد شهد المجتمع الكلاسيكي أشكالًا متنوعة من التعب، لعل أبرزها تعب الرجل الذي يرتدي بالضرورة لباس العمل، حيث تحتل أنشطة الإدارة والوزارة مكانة خاصة.
لكن كل شيء سيتغير بظهور التعب المواكب لأنشطة العمال في القرن التاسع عشر، عندما فرض الإنتاج قوّته ونجاحاته ومخاطره؛ فقد سادت تمظهرات مختلفة من الضعف والوهن، وساور النفوسَ مزيدٌ من القلق والتوتر، وأعيد ترتيب الحسابات لتحقيق دمج أفضل بين الإنتاجية والاقتصاد والفعالية.
 أما في المجتمعات الغربية الحديثة التي انتشرت فيها أجهزة الكمبيوتر والمكاتب، فالمرجّح أن يتجه الفرد فيها نحو المزيد من التعب وبأنماط غير مسبوقة وغير مرئية، بحيث يحل العبء المعلوماتي محل العبء الجسدي، ويبرز قطع العلاقات الشخصية أو الجماعية، وذلك بعد رحلة طويلة من المعاناة الخفية.

أعراض جديدة 
   بحلول عصر الأنوار، لم يعد التعب يستمد معناه من تقلبات الأمزجة وحدها، لكنه صار يستلهم مغزاه أيضًا من الألياف، والشبكات، و«التيارات»، والأعصاب، حيث بدأت تظهر أعراض جديدة للتعب، كما أخذت سمات أخرى في الاعتبار؛ الإرهاق المرتبط بحماسة زائدة يصعب تجاوزها، والضعف الذي يتولد من التوترات المتكررة والمستمرة، وغياب عنصر التحفيز. وهنا ظهرت المنبهات والمنشطات كشكل من أشكال التعويض عن غياب التحفيز وفتور الرغبة في العمل، بسبب تراكم أعباء التعب.
وسيأخذ التعب منحى آخر، وفقًا للنموذج الميكانيكي في القرن التاسع عشر، وذلك بالنظر إلى طاقات الجسد، فعلامات التعب أصبحت ترتبط بحالات الجسد، من خلال قياس كمية السعرات الحرارية، وكمية الطاقة، وتخلص الجسم من بقية النفايات الكيميائية العضوية. ومن هنا صار من اللازم السعي للحصول على احتياطيات الطاقة، والبحث عن السعرات الحرارية، والقضاء على السموم والأضرار.
واليوم، ينظر إلى التعب اليوم في سياق لغة رقمية، تعلي من شأن الرسائل الإلكترونية والأحاسيس والاتصال بالإنترنت وانقطاع الاتصال بها. وما يواكب ذلك من الترفيه والراحة والاسترخاء. ومن هذه الزاوية برز التركيز غير المسبوق على النواحي النفسية، ومحاولة إنشاء علاقات جديدة، تقوم على التفاعل وتبادل الأحاسيس وتجديد نمط الحياة الرتيب.
وقد عرف التعب في القرنين العشرين والواحد والعشرين انتشارًا واسع النطاق، تجسّد في مظاهر شتى منها: التوتر، والضغط النفسي، والاحتراق المهني، والجهد الذهني، والقلق، وعدم الراحة، وعدم القدرة على تحقيق الذات... ويزداد التعب تمددًا وتوسعًا في أمكنة العمل، وفي المنزل، وفي أوقات الفراغ وفي مختلف سلوكياتنا اليومية، وكلها أراضٍ خصبة لضغوط نفسية مكثفة تولدت من التعب، وأثرت سلبًا في السلوكيات والحساسيات، وأفرزت اختلافات غير مسبوقة. وهكذا أضيفَ إلى التعب المتولد من مقاومة الأشياء تعب آخر ناجم عن مقاومة الذات. ففي دواخل كل شخص تنشأ قيود وعراقيل تعترض سبيل كل إنجاز، وخارج الذات تتكشف نقاط الضعف والانهيارات تحول دون حصول المرء على مبتغاه. وبين هذا وذاك ظهرت أشكال جديدة من التعب داخل أروقة الإدارات تميل إلى إهمال القيم الفردية لمصلحة الأرباح الفورية، وتعمل على توليد عدم الاستقرار، وتنامي الهشاشة، والتنقل بين الوظائف بشكل غير مرغوب فيه.

تعب «كورونا»
  ويتناول آخر فصل من فصول الكتاب وضع التعب في سياق الفهم المعاصر للأحداث الأخيرة التي شهدتها البشرية هذا العام، أي بالبحث في تطورات وباء Covid-19، الذي نشأ في نهاية العام الماضي، وامتدت آثاره على مدار عامنا الحالي، وما خلّفه من أشكال متنوعة من التعب في نفوس المُصابين والأطر الطبية على حد سواء.
  فقد غيّر انتشار هذا الوباء في فترة انتشاره السلوكَ اليومي، مثلما غيّر جذريًا عادات الناس باستناده إلى عدد من الإجراءات الضرورية، ومن بينها: الحجْر الصحي الذي فُرض على سكان العالم، وتعليق أنشطة لا حصر لها، وفرض القيود التجارية، والاستثمارات الضخمة لحماية الجميع. 
وقد ترتب عن كل ما سبق عواقب وخيمة كان لها بالغ الأثر في تغيير خريطة التعب؛ ومن ذلك مثلًا ظهور أشكال جديدة من الإرهاق، وتماهٍ مستمر بين الإنهاك والتوجس، وحتى الخوف، وافتقاد تصرفات متعارف عليها، وظهور أخرى بديلة أكثر تقييدًا، بما في ذلك مسافة الأمان الواجب احترامها، إضافة إلى التدابير الوقائية اللازمة للحماية من الوباء. 
أخيرًا، يمثل طرح هذا الكتاب رحلة مثيرة يتقاطع فيها تاريخ الجسد بالحساسيات، والبنيات الاجتماعية وهياكل العمل، والحرب والرياضة، وصولًا إلى تاريخ حميميتنا، حيث يؤكد التعب عمقه وتعدده، ويبسط نفوذه على جميع مجالات الوجود ويخترق الأزمنة والأمكنة على السواء، ليثبت رسوخه أيضًا على مر القرون، في ضمائر الناس وعقولهم، وفي النظم الاجتماعية وتمثيلاتها، حتى يصل إلى ذروته ويتغلغل في الأعماق.
وبظهور وباء Covid-19، تغيرت بلا شك سياقات التعــب وملابســاتــه وأشكالـه وتمظهراته، وتغيرت معها التمثلات والرؤى التي رُسمتْ عنه في العقود الأخيرة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يتأكد أن العبور من البوابة الرئيسة للوباء في مرحلة زمنية انتقالية تتسم بالطول نسبيًا، في كوكبنا الفسيح، قد أيقظ المخاوف المنسية، حيث أصبح التعب اليوم مرافقًا مألوفًا، ومقاومًا داخليًا وثابتًا في كل واحد منا ■