غذاء بطيء

بعد مرور نحو ثلاثة عقود على تأسيس حركة وجمعية «غذاء بطيء»، Slow Food، الاجتماعية الدولية غير الهادفة للربح، لاتزال تساهم بصورة مؤثرة في تعزيز أساليب الحياة المستدامة والاستهلاك المعتدل، وحماية اقتصاديات الغذاء المحلي كنوع من المعارضة لأساليب الحياة المتسارعة وممارسات مطاعم الوجبات السريعة وسلوكيات الإفراط في الاستهلاك، والمعايير الموحدة التي جلبتها العولمة؛ وذلك عبر نشر فلسفتها وأنشطتها التوعوية فيما يزيد على 150 دولة حول العالم. ويبحث مؤسسها الإيطالي كارلو بيتريني اليوم مع عشرات الآلاف من المناصرين في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، مستقبل الغذاء في عالم يعاني فيه ملايين البشر سوء التغذية والسمنة.
إذا كان بيتريني مؤسس حركة الغذاء البطيء، فإن أليس وترس هي الأم الحديثة، فهي ناشطة في مجال الغذاء وطاهية، ألفت عديدًا من الكتب لنشر التوعية الغذائية وطبقت مبادئ الغذاء الصحي في مطعم تملكه في كاليفورنيا، ودرست الصغار في المدارس كيف يزرعون غذاءهم الصحي في ساحة المدرسة، وكيف يطبخونه ويستمتعون بتناوله، وأدركت أن تربية بيئيين وطهاة ومحبين للخضراوات بأدوات بسيطة كالمجرفة والتربة والبذور والماء أمر ممكن، ليتحول وقت راحة الغذاء إلى درس عملي في الحياة.
جامعة التذوق
ألهم بيتريني الكثيرين وقدم عددًا من المؤلفات حول الغذاء البطيء، شرح فيها لماذا يجب أن يكون غذاؤنا جيدًا ونظيفًا وبسعر عادل، طارحًا نموذجًا إيكولوجيًا لفنون وعلوم التذوق وتناول الطعام، مما يشجع على تكامل معرفة العلوم والمعرفة التقليدية فيما يتعلق بتحضير الغذاء وتناوله.
وفي عام 2004 أسست جمعية غذاء بطيء جامعة لعلوم التذوق في إيطاليا كوسيلة لفهم تعقيد قضية الغذاء واستعادة قيمته الحقيقية والاحترام لمصنعيه ممن يعملون بانسجام مع البيئة والنظم الإيكولوجية، وإيمانًا بأهمية التعليم في هذا المجال بالنسبة للأجيال الجديدة. واعتبرت هذه الجامعة أول مؤسسة أكاديمية من نوعها في العالم وحصلت أخيرًا على اعتراف رسمي من وزارة التعليم الإيطالية.
ومن أهداف هذه الجامعة - البالغ عدد طلابها 2500 - إنشاء مركز بحثي وتعليمي يخدم من يعملون على تجديد طرق الفلاحة، وحماية التنوع الحيوي، وبناء علاقة عضوية بين علوم التذوق والطهي وعلوم الزراعة، وذلك عبر درجات علمية تمنح في تخصصات كعلوم التذوق والثقافات؛ والتجديد الغذائي والإدارة؛ وثقافة الغذاء والتواصل والتسويق؛ والتذوق والإبداع والإيكولوجيا والتعليم؛ والتذوق وثقافات العالم.
رفض الصيغ الجاهزة
رغم الواقع المجتمعي المفكك، وانشغال الأجيال الجديدة بالتكنولوجيا ووسائل الإعلام الجديدة؛ يرى بيتريني أن هناك من يرفض الصيغ الجاهزة ويفضل أن يكون ناشطًا ومعارضًا على طريقته؛ وهو ما ساهم في السعي لتجاوز عوائق البيروقراطية وفتح الأبواب لاستقبال الأفكار الجديدة ورعايتها لتكون الدافع المحرك للعمل الجماعي ولتحقيق الانتصارات المرجوة. فالحرية مكفولة لفروع جمعية «غذاء بطيء» في كل مكان للعمل وفقًا للسياقات المحلية، سواء للترويج للأطباق والمكونات المحلية وأساليب الطبخ والزراعة الحيوية والتجارة العادلة ورفع الوعي الغذائي وترشيد استخدام الموارد والحفاظ البيئي أو لمناهضة العولمة التي توحد المعايير وتتجاهل الخصوصية والتقاليد. فنجد، على سبيل المثال، فرع القاهرة يعلن على صفحته الرسمية في «فيسبوك» عن تنظيم أسبوع لفنون الطهي باستخدام مكونات موسمية محلية، وافتتاح مطعم يطبق من خلاله مبادئ الحركة ويدعو للمشاركة في فعاليات عالمية.
في ضوء حقيقة أن الطرق غير المستدامة لإنتاج الغذاء وتوزيعه واستهلاكه من العوامل المتسببة في التغييرات المناخية - وإن كان الغذاء ضحية لهذه التغيرات في الوقت نفسه - يصبح تغيير نظام الغذاء غير السليم، التحدي الأكبر الذي ينبغي على البشرية مواجهته مجتمعة. وحتى لو كان التقدم نحو هذا الهدف بطيئًا ومتواضعًا، تستطيع الإنجازات الصغيرة في خاتمة المطاف أن تحدث تغيرات كبيرة فيما يتعلق بتحقيق مبادئ الغذاء البطيء. فمبدأ الجودة، مثلاً، يعني طعامًا طازجًا ومغذيًا وحسن المذاق وموسميًا وجزءًا من الثقافة المحلية؛ ويتضمن مبدأ النظافة عمليات إنتاج واستهلاك لا تضر البيئة ولا تؤذي الحيوان ولا تعبث بصحة الإنسان؛ ومبدأ السعر العادل يعني أن يحصل كل من المستهلك والمصنع على ما يستحق من خدمات أو مقابل مادي.
الغرب المسؤول الأكبر
ما يؤكد وجود علاقة وثيقة بين الغذاء والتغيير المناخي، أن التقليل من تناول اللحوم والأسماك في مقابل زيادة نصيب الحبوب والخضراوات في الوجبات وتشجيع نماذج الإيكولوجية الزراعية واحترام البيئة تخفض من الآثار السلبية للتغيرات المناخية، لاسيما مع توقعات بارتفاع درجة الحرارة بنحو درجة ونصف الدرجة مئوية - مع حلول الخمسينيات القادمة - وفقًا لتقرير اللجنة الدولية للتغيرات المناخية - وأربع درجات مئوية مع حلول 2100، مما يؤدي إلى مزيد من التصحر، وسوى ذلك من مظاهر التطرف المناخي حتى يبقى مليار شخص بدون ماء ويعاني مليارا إنسان الجوع وينخفض إنتاج الذرة والأرز والقمح بنسبة 2 في المئة كل عشرة أعوام، ويجبر 187 مليون شخص على ترك منازلهم على إثر ارتفاع منسوب البحر.
وتشير التقديرات أيضًا إلى أن 21 في المئة تقريباً من انبعاثات الكربون تأتي نتيجة لطرق إنتاج الغذاء غير المستدامة، ورغم ذلك لا تحظى طرق الزراعة العضوية إلا بـ 3 في المئة فقط من الموارد المخصصة لدعم الزراعة في أوربا، بينما يخصص الباقي للزراعة التقليدية التي تستخدم المبيدات الكيماوية الضارة - وفقًا لتقرير صادر عن صندوق الحفاظ البيئي 2018 - وأن استهلاك اللحوم مسؤول عن 14.5 في المئة من الانبعاثات، والغرب المسؤول الأكبر، نظرًا لارتفاع معدل استهلاك المواطن الأوربي الذي يتناول في المتوسط 80.6 كيلوجرامًا سنوياً، بينما يكفيه 25 كيلوجرامًا، حسب ما توصي به منظمة الصحة العالمية. وفي المقابل، لا يستهلك المواطن الإفريقي سوى 17 في المئة من المستوى الآمن للبروتين الحيواني. كما تتسبب مخلفات الغذاء التي تقدر بمليارات الأطنان في مزيد من الاحتباس الحراري.
وفي محاولة جمعية «غذاء بطيء» لتغيير العادات الغذائية من أجل التقليل من الآثار السلبية للتغير المناخي، تنظم فعاليات وتحديات تشجع من خلالها المناصرين على تغيير الواقع. ومن هذه التحديات الالتزام باستخدام مكونات محلية في تحضير الوجبات والتوقف عن استهلاك اللحوم أثناء الحملات الترويجية مع تفادي إنتاج المخلفات، على أن تحسب البصمة الكربونية بعد ذلك لمعرفة مقدار المساهمة في خفض انبعاثات الكربون.
الغذاء من أجل التغيير
تنطلق من تحت مظلة جمعية «غذاء بطيء» آلاف المبادرات والأنشطة والمشروعات والفعاليات على المستويات المحلية والإقليمية والدولية سنوًيا. ويشارك آلاف من المنتجين الصغار في مئات المشروعات والمعارض التي تروج لمنتجات معرضة لخطر الانقراض، دعماً للتنوع الحيوي في العالم؛ وإلى جانب ذلك هناك أنشطة تعليمية متعلقة بالغذاء، كتلك التي تسعى لتوعية المستهلك والحفاظ على الأغذية التقليدية والتراث الزراعي، وأنشطة أخرى كزراعة حدائق مدارس في أكثر من مئة دولة.
وهكذا، أصبحت مهرجانات «غذاء بطيء» التي تحتفي بالأطباق المحلية والدولية وتروج لفلسفة هذا النوع من الغذاء في مختلف أنحاء العالم، فعاليات سياحية منتظمة قادرة على جذب المشاركين لتناول وجبات صحية طبيعية طازجة. ومن الفعاليات العالمية المهمة التي تنظمها الجمعية اجتماع «تيرا ما دري» بمدينة تورينو الإيطالية الذي يعقد بالتعاون مع وزارة الزراعة الإيطالية؛ ويشارك فيه ناشطون وأكاديميون ومهتمون بشؤون الطبخ للنقاش والحوار حول شعار أو قضية؛ كشعار «الغذاء من أجل التغيير» الذي طرح بآخر اللقاءات المنعقدة في سبتمبر 2018.
تنمية السياحة المستدامة
بينت دراسة أجريت على مرتادي مهرجان «التذوق البطيء» في أستراليا أن لمثل هذه الفعاليات وسواها تأثيرًا إيجابيًا على سلوك المشاركين المتعلق باستهلاك الغذاء من ناحية، وتعزيز مجتمع الحركة ومبادئها الأخلاقية بكسب مناصرين جدد من ناحية أخرى. كما خلصت دراسة أخرى أجريت في بريطانيا، إلى أن أعضاء حركة الغذاء البطيء قد حققوا من انضمامهم للجمعية منافع اقتصادية واجتماعية وشخصية، وخبروا سرور المشاركة في تناول وجبات لذيذة وصديقة للبيئة، واتباع أساليب حياة صحية؛ كما ساهمت الحركة في تنمية السياحة المستدامة وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص التي تعتبر مفتاحاً من مفاتيح النجاح .