هندسة طفولية

هندسة طفولية

لا أدري ما الذي أعاد ذاكرتي إلى أيام الطفولة قبل خمسين عامًا، عندما كنت وأترابي نصنع مختلف أنواع السيارات من الأسلاك؛ شاحنات، وحافلات، وسيارات صغيرة، وتراكتورات، وقلّابات، ودراجات، وبأشكال وأحجام مختلفة.
نصنع لها عجلات من الأسلاك أو البطاريات الجافة التالفة، ونزيّنها بشرائط القماش والخيوط الملونة والخرز وأغطية زجاجات المشروبات الغازية آنذاك، مثل الـ «آرسي كولا»، والـ «كراش» وغيرها، ونملأ الشاحنات وعربات التراكتورات بصناديق من عُلب السردين الفارغة.
نعم، كنا نصنع سيارات لها مقود للتحكم، تمشي على عجلات، تسرع وتتوقف، وتدور وتعود للوراء بكل سلاسة ومرونة، نعدّ لها الطرق والمواقف، ونحرص على صيانتها كلما ألمَّ بها خطب، وخاصة الاصطدام بحجر على جانب الطريق، نتنافس في الجودة والحجم والشكل الأجمل.
وتطورت مهاراتنا؛ وصنعنا سيارات بطوابق، وخاصة الحافلات والشاحنات، ومن علب السردين الفارغة صنعنا قاطرات، يقودها رأس قطار من حزمة من البطاريات الجافة، نملأ القاطرات بالحجارة الصغيرة والتراب، وأحيانًا بالأعشاب الجافة والعيدان الصغيرة، ونمارس عمليات النقل والتجارة، ونفتعل المشكلات والصعوبات؛ لنتغلب عليها.
كنا أطفالًا نمارس الصناعة على بساطتها، نتقن مهارات التصميم والهندسة والميكانيك وحلّ المشكلات التي تواجه صناعتنا الثقيلة، نعيد تدوير المواد المتوافرة في بيئتنا الريفية المشبعة بالبساطة؛ نملأ الأرض فرحًا وسرورًا كلما انتهينا من صناعة شيء جديد وتجربته بنجاح. نتبادل الخبرات، ونتشارك العمل، ونأخذ باقتراحات بعضنا بعضًا، ونتقبل بصدر رحب إضافة هنا ولمسة هناك، ونتبادل القيادة والاستخدام.
كنا مهندسين صغارًا، يدفعنا الشغف وحب الحياة واستثمار المُتاح. وأدري أن مكاننا الأنسب يومئذ مهندسين في مصانع «فورد» أو «مرسيدس»، أو على الأقل «تويوتا»!
وعلى الرغم من شظف العيش، وقلة الموارد، وقسوة الظروف التي عشناها، فإنني أحزن على أطفال اليوم؛ أسرى الأجهزة والألعاب الإلكترونية، سجناء أَسِرَّتُهم وغرفهم الضيقة، الذين لم يعرفوا لذة التشكيل اليدوي، وفرحة الإنجاز، والحلم بالمختلف في كل يوم جديد، لكننا نجد لهم العذر، فلم يسمعوا بمهاراتنا الرفيعة، ولم تصلهم أخبارنا المذهلة آنذاك، ويكفيهم خسارة عبقريتنا الفذة، وإبداعنا منقطع النظير، والحمد لله على كل حال ■