عن العربي
اتصل بنا
قصص على الهواء
مشروع التحالف الصليبي - المغولي وأسباب فشله
يُشكّل مشروع التحالف بين القوى الصليبية – ممثلة بالبابوية والملك الفرنسي لويس التاسع – والمغول، في القرن الثالث عشر، فصلا مهمًا في تاريخ العلاقات بين الشرق الأقصى والغرب الأوربي في العصور الوسطى. ورغم أن هذا المشروع ظل حلمًا يراود مخيلة أصحابه فإن أهميته لا تكمن فيما دار من مفاوضات بين الأطراف فحسب، وإنما أيضًا في دوافعه والعوامل التي أدت إلى فشله.
إن الدارس لتاريخ الحركة الصليبية يتبين له أن هذه الحركة كانت قد لقيت ذ عند انطلاقها في أواخر القرن الحادي عشر ذ حماسًا كبيرًا في أوساط الشعوب الأوربية وحكامها، بل شكّلت في القرن الثاني عشر حجر الزاوية في سياسات القوى الأوربية وفي الوعي الشعبي الأوربي. ولكن هذا الحماس أخذ في الفتور، منذ بدايات القرن الثالث عشر، وذلك لأسباب عدة، نذكر منها: 1 ــ الفشل المتكرر لعدد من الحملات الصليبية في تحقيق أهدافها مثل الحملة الصليبية الثانية عام 1147 ذ 1149م والحملة الخامسة عام 1218م والحملة السابعة عام 1248م.
2 ــ الاستياء العام في الغرب الأوربي من استخدام بعض الحملات الصليبية ضد قوى مسيحية، مثل الحملة الصليبية الرابعة التي تحولت ضد البيزنطيين المسيحيين عام 1204م بدلًا من التوجه لمحاربة المسلمين.
3 ــ تذمر الشعوب الأوربية من الضرائب المالية الباهظة التي كانت تدفعها لتغطية نفقات الحملات الصليبية ومساعدة الصليبيين في الشام، مثل الضريبة التي عُرفت باسم «عشور صلاح الدين» والتي فُرضت على الشعوب الأوربية بعد فتح صلاح الدين لبيت المقدس عام 1187م.
وفي ضوء ما تقدم أدركت القوى الصليبية في الغرب أن حماية المدن الصليبية في الشام لا تتم بترميم أسوارها وقلاعها فحسب، وإنما بالبحث عن حلفاء أقوياء لمحاربة المسلمين. وشاءت الظروف أن يتزامن ذلك مع ظهور المغول كقوة جديدة في الشرق الأقصى، حيث استطاع جنكيز خان وأبناؤه وأحفاده، خلال القرن الثالث عشر، إقامة إمبراطورية امتدت من الصين شرقًا إلى الفرات غربًا.
مجمع ليون 1245م والمسألة المغولية
دعا البابا أنوسنت الرابع إلى عقد مجمع كنسي في مدينة ليون الفرنسية عام 1245. وكان الهدف الأول منه هو معالجة الخطر المغولي على العالم المسيحي، حيث قامت قوة مغولية عام 1240 - 1241م باجتياح بلدان أوربا الشرقية المسيحية مثل بولندا وهنغاريا، وألحقت فيها الخراب والدمار وارتكبت الكثير من المجازر، ولهذا غدت مسألة إنقاذ العالم المسيحي من هذا الخطر أولى اهتمامات البابوية. أما الهدف الآخر فهو الدعوة إلى حملة صليبية جديدة لاسترداد بيت المقدس من الأيوبيين. وكانت المفاجأة أن وفدًا مغوليًا وصل آنذاك إلى مدينة ليون يطلب التحالف مع القوى الصليبية ضد المسلمين. حيث كان المغول يخططون لمهاجمة الخلافة العباسية، ولهذا كانوا يرغبون في أن يقوم الصليبيون بمهاجمة المسلمين في مصر والشام لإعاقتهم عن مساعدة العباسيين أثناء هجوم هولاكو عليهم.
السفارة البابوية إلى البلاط المغولي
شكّل البابا أنوسنت الرابع وفدًا للسفر إلى البلاط المغولي يحمل رؤية البابوية لمشروع التحالف معهم. وقد حددت البابوية أهدافها من هذا المشروع، وكان منها: 1 - إنقاذ أوربا من الخطر المغولي، لاسيما وقد تجلى هذا الخطر عندما اجتاح هؤلاء بلدان أوربا الشرقية. 2 - استمالة المغول إلى المسيحية الكاثوليكية والاعتراف بسيادة البابا وتأمين الحماية للبعثات التبشيرية. 3 - التعاون مع المغول لمحاربة المسلمين واسترداد بيت المقدس.
وكان الوفد الرئيس الذي بعث به البابا إلى البلاط المغولي قد غادر ليون عام 1245، وكان برئاسة الراهب يوحنا كاربيني. وأمضى الوفد خمسة عشر شهرًا في اجتياز روسيا وآسيا الوسطى، ووصل إلى مقر الخان الأعظم كيوك في مدينة قراقورم عام 1246م. وكان كاربيني يحمل معه للخان رسالتين، الأولى تشتمل على عرض للعقيدة المسيحية ودعوة للمغول لاعتناقها وقبول السيادة البابوية عليهم. أما الرسالة الثانية فقد اشتملت على احتجاج البابوية على ما فعله المغول في بلدان أوربا الشرقية، وتطلب عدم تكرارها. وعندما سمع الخان الرسالة الأولى أمر بكتابة جواب عليها يتضمن: 1 - أن المغول لا يتخلون عن عقائدهم. 2 - ينبغي على البابا نفسه أن يعترف بسيادة الخان الأعظم على البابوية. 3 - أن المغول يرحبون بقدوم البابا وملوك أوربا إلى بلاط الخان لتقديم فروض الولاء والطاعة. 4 - يجب على ملوك أوربا دفع جزية سنوية للخان الأعظم.
عاد الوفد البابوي إلى روما عام 1247م، وسلّم البابا خطاب الخان المخيب للآمال، وأرفق كاربيني معه تقريرًا عن رحلته، أشار فيه إلى أن هدف المغول إخضاع العالم كله تحت سيطرتهم. وهكذا خابت مساعي البابا وفشلت هذه السفارة كما فشلت السفارات البابوية التي جاءت بعدها.
سفارة لويس التاسع إلى البلاط المغولي
أما السفارة الرئيسة التي بعث بها الملك الفرنسي لويس التاسع فقد كانت عام 1252، حيث وصل إلى مسامعه آنذاك أن أميرًا مغوليًا يقيم على نهر الفولجا قد اعتنق المسيحية، فأسرع لويس بإرسال وفد برئاسة الراهب وليم روبروك إلى مقر هذا الأمير، بهدف طلب معونة حربية مغولية لمساعدة إخوانه الصليبيين في الشام ضد المسلمين. وغادر الوفد فلسطين في ذلك العام. وعندما وصل إلى مقر الأمير اكتشف أنه لم يكن مسيحيًا وإنما كان متسامحًا مع الأديان كافة، وأنه لا يملك من السلطات ما يسمح له بعقد حلف دون موافقة الخان الأعظم منكوخان المقيم في قراقورم. ولذا تابع الوفد طريقه إلى بلاط منكوخان، حيث وصل قراقورم في أواخر عام 1253م. ويقول إنه التقى في البلاط المغولي بسفراء من بيزنطة والخليفة العباسي وروسيا وغيرهم، وأن هؤلاء جاءوا لخطب ود منكوخان. وعندما قابل روبروك الخان أخبره بأن الهدف من مهمته هو التحالف مع المغول ضد المسلمين. ويقول روبروك: ومع أن الخان أظهر تعاطفه مع المسيحيين في صراعهم مع المسلمين، إلا أنه كشف أن رؤيته للعالم تختلف عن رؤية الملك الفرنسي. فالخان الأعظم لا يقبل أن يكون في العالم سيد سواه، وسياسة منكوخان كانت تعتبر الأصدقاء أتباعًا له والأعداء ينبغي القضاء عليهم أو إخضاعهم ليكونوا أتباعًا. أي أن منكوخان لا يعترف بالملك بأنه يقف على قدم المساواة معه، بل هو تابع لا يحق له عقد حلف معه. وكل ما استطاع روبروك الحصول عليه من الخان هو وعد بتقديم المساعدة ضد المسلمين إذا جاء الملك لويس وقدم له فروض الولاء والطاعة. غادر الوفد الفرنسي العاصمة المغولية عام 1254م عائدًا إلى عكا لتبليغ الملك بنتيجة مهمته التي لم تحقق شيئًا.
وهكذا باء مشروع التحالف بين القوى الصليبية والمغول بالفشل. حقيقة لقد تم تعاون بين المغول، بعد احتلال هولاكو بغداد عام 1258م، وبين كل من هيثوم ملك أرمينيا وبوهيموند السادس أمير أنطاكية الصليبي، حيث قدما لهولاكو فروض الولاء والطاعة، ورافقا الجيش المغولي عندما زحف من حلب إلى دمشق، إلا أن هذا التعاون كان بين سادة وأتباع وليس بين حلفاء أنداد.
أسباب فشل مشروع التحالف
تعددت آراء الباحثين حول هذه المسألة، ونذكر منها:
1 - تناقض في الرؤية: كان خان المغول ينظر إلى نفسه على أنه إمبراطور الأباطرة وأنه سيد العالم دون منازع وأن ملوك الأرض جميعًا هم أتباع له وأن سلطته مستمدة من السماء. وهذه الرؤية تتناقض مع رؤية البابا الذي كان يعتبر نفسه صاحب السلطة الروحية التي هي فوق أي سلطة وبيده سلطة العقد والحل وسلطة الحرمان والغفران وهو صاحب الحق في تتويج الملوك وعزلهم.
2 - تناقض في الأهداف: حيث كان من أهداف الخان إقامة إمبراطورية عالمية تدين شعوبها وحكامها له بالولاء والطاعة. في حين كان من أهداف البابا نشر المسيحية الكاثوليكية في الصين وغيرها من بلدان الشرق الأقصى، والاعتراف بسيادة البابا الروحية. وكان تنصير المغول الخطوة الأولى في هذا السبيل.
3 - صور الماضي: لعبت الصور القاتمة التي توارثتها شعوب الغرب عن وحشية المغول دورًا في نفورها من مشروع التحالف معهم، فالشعوب لم تنس ما فعله الغازي المغولي أتيلا، في القرن الخامس الميلادي، والذي أعمل السيف في رقاب الشعوب التي كانت تقطن ما بين هنغاريا شرقًا وغاليا (فرنسا) غربًا. كما لم تنس هذه الشعوب المجازر التي ارتكبها المغول في بلدان أوربا الشرقية قبل سنوات.
4 - دور النساطرة: يبدو أن المسيحيين النساطرة العاملين في البلاط المغولي آنذاك لعبوا دورًا في إفشال مشروع التحالف، حيث خشي هؤلاء أن ينافسهم الكاثوليك على الامتيازات التي تحققت لهم في بلاط خانات المغول. وقدم روبروك وصفًا سلبيًا عن النساطرة الذين قابلهم في رحلته إلى بلاد المغول، مؤكداً شدة تعصبهم في تعاملهم مع المبشرين الكاثوليك الذين وفدوا على الصين في القرن الثالث عشر. كما قال رحالة أوربيون آخرون: لو تعاون النساطرة مع الرهبان الكاثوليك والطوائف المسيحية الأخرى في بلاد المغول لكان هناك احتمال كبير أن يتحول الشعب الصيني وحكامه المغول إلى المسيحية.
وهكذا باء المشروع بالفشل، لكن هناك حقيقة ينبغي التأكيد عليها وهي أن المفاوضات التي دارت بين الطرفين، والتي استغرقت نحو عقد من الزمن، شكلت خطوة مهمة لفتح مغاليق بلدان الشرق الأقصى أمام أوربا، حيث تدفقت عليها في أعقاب ذلك حشود من التجار والمبشرين والرهبان والرحالة الأوربيين، والذين لم ينقلوا العقائد والمتاجر فحسب، وإنما نقلوا أيضًا الثقافات بين شطري العالم القديم .