في أهميّة استثمار ذكاء الطفل

في أهميّة استثمار ذكاء الطفل

ينظر‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬الطفل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬قيمةٌ‭ ‬صامتة،‭ ‬أو‭ ‬صفحةٌ‭ ‬بيضاء‭ ‬محايدة،‭ ‬علامُتها‭ ‬الأولى‭ ‬البراءة‭ ‬والعفوية،‭ ‬وغياب‭ ‬القصد‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬والقول‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الباعث‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التوصيف‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬إمكانية‭ ‬توجيه‭ ‬الطفل‭ ‬وجهةً‭ ‬معيّنة‭ ‬وفق‭ ‬ثقافة‭ ‬معيّنة‭ ‬ومعتقدات‭ ‬مرسومة‭ ‬سلفًا،‭ ‬وهذا‭ ‬وجهٌ‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لنكرانه،‭ ‬والتشغيبِ‭ ‬على‭ ‬مَن‭ ‬يقولون‭ ‬به،‭ ‬ويؤمنون‭ ‬بأنه‭ ‬حقيقة‭ ‬ثابتة‭. ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬مَن‭ ‬يذهبون‭ ‬هذا‭ ‬المذهب،‭ ‬ويرون‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬توصيف‭ ‬كُنه‭ ‬الطفل‭ ‬وحقيقته،‭ ‬ينسون،‭ ‬أو‭ ‬يتجاهلون،‭ ‬الوجه‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬الطفل؛‭ ‬والمفارقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬نابعٌ‭ ‬من‭ ‬التوصيف‭ ‬الذي‭ ‬أثبتناه‭ ‬قبل‭ ‬قليلٍ،‭ ‬وقلنا‭ ‬إنه‭ ‬يمثّل‭ ‬الوجه‭ ‬الأول‭ ‬لحقيقة‭ ‬الطفل،‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬البراءة‭ ‬والعفوية‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬والسلوك‭ ‬والتصرف‭. ‬

الوجه‭ ‬الثاني‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬نقصده،‭ ‬يتمثلُ‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الخِلال‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬التوصيفُ‭ ‬المذكور‭ ‬هي‭ ‬مصدر‭ ‬ثرٌّ‭ ‬للكبار،‭ ‬يمكنُ‭ ‬أن‭ ‬يتعلموا‭ ‬منه‭ ‬الكثيرَ‭ ‬من‭ ‬المسالك‭ ‬والخِلال‭ ‬الحسنة،‭ ‬لاسيما‭ ‬صفة‭ ‬الصدق،‭ ‬فالطفل‭ ‬مدرسة‭ ‬لتعلّم‭ ‬هذه‭ ‬القيمة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬النبيلة،‭ ‬الضرورية‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬الناس‭ ‬بعضهم‭ ‬ببعض‭.. ‬ولعل‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬جزءٌ‭ ‬ممّا‭ ‬عناه‭ ‬الفيلسوف‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ (‬1712‭ ‬ــ‭ ‬1778م‭) ‬بقوله‭ ‬المأثور‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الطبيعة‭ ‬تودّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الطفل‭ ‬طفلًا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصير‭ ‬رجلًا‮»‬‭.‬

إذ‭ ‬لا‭ ‬يعيش‭ ‬الطفلُ‭ ‬طبيعته‭ ‬الجِبليّة‭ ‬التي‭ ‬فُطر‭ ‬عليها،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تُبرزُ‭ ‬سلوكياته‭ ‬مثلَ‭ ‬هذه‭ ‬الخلال‭ ‬الجميلة‭ ‬الموشّاة‭ ‬ببهاء‭ ‬البراءة‭ ‬وألقها‭ ‬الأخاذ‭. ‬

‭ ‬

الأطفال‭ ‬مصدر‭ ‬لتعلّم‭ ‬الكبار‭ ‬

ينبغي‭ ‬على‭ ‬المربّين‭ ‬والموجّهين‭ ‬والمرشدين‭ ‬مراعاةُ‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬الفطري‭ ‬وتنميته‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬الطفل،‭ ‬أما‭ ‬تلقين‭ ‬الطفل‭ ‬بعض‭ ‬أنماط‭ ‬السلوك‭ ‬غير‭ ‬المناسبة‭ ‬لسنّه‭ ‬ومرحلته‭ ‬العُمرية،‭ ‬فهو‭ ‬الباب‭ ‬الذي‭ ‬يلج‭ ‬منه‭ ‬الطفلُ‭ ‬إلى‭ ‬التصنّع‭ ‬والتكلّف،‭ ‬ومنه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الكذب،‭ ‬أي‭ ‬الدّوس‭ ‬على‭ ‬أهمّ‭ ‬وأثمن‭ ‬صفة‭ ‬في‭ ‬صفحة‭ ‬فطرته‭ ‬الأولى‭.‬

وصدق‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬‮«‬كانْت‮»‬‭ (‬1724‭ - ‬1804م‭) ‬عندما‭ ‬كتب‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬منبّهًا‭ ‬المربين‭ ‬والمرشدين‭ ‬التربويين‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يتعلم‭ ‬الأطفال‭ ‬إلّا‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬تناسب‭ ‬سنهم،‭ ‬إن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الآباء‭ ‬يفرحون‭ ‬فرحًا‭ ‬عظيمًا‭ ‬إذا‭ ‬رأوا‭ ‬أطفالهم‭ ‬ينطقون‭ ‬بحكمة‭ ‬الشيوخ،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬يَحْسُنُ‭ ‬بهم‭ ‬ألا‭ ‬يتحلوا‭ ‬إلّا‭ ‬بفطنة‭ ‬الطفولة‭ ‬فقط،‭ ‬وألا‭ ‬يكونوا‭ ‬عُميًا‭ ‬مقلِّدين،‭ ‬إن‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬يتصف‭ ‬برزانة‭ ‬الرجال‭ ‬وعقلهم،‭ ‬ويسعى‭ ‬كي‭ ‬ينبُغ‭ ‬بسرعة‭ ‬هو‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬مجرد‭ ‬قرد،‭ ‬محرومًا‭ ‬من‭ ‬الثقافة،‭ ‬وسلامة‭ ‬الذهن‮»‬‭.‬

إن‭ ‬فهم‭ ‬عالم‭ ‬الطفل‭ ‬يقتضي‭ ‬التوفّر‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬ثقافية‭ ‬معيّنة،‭ ‬هي‭ ‬مزيجٌ‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬النفسية‭ ‬والأنثروبولوجية‭ (‬علم‭ ‬التعرّف‭ ‬على‭ ‬طبائع‭ ‬الإنسان‭ ‬وأحواله‭ ‬ومستنبطاته‭) ‬المتعلقة‭ ‬بهذه‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭.‬

وإذا‭ ‬أمكن‭ ‬فهمُ‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬وإدراكُ‭ ‬قيمتها‭ ‬الحقيقية‭ ‬على‭ ‬الوجه‭ ‬الصحيح،‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬فرصة‭ ‬حسنة‭ ‬سانحة‭ ‬يهتبلها‭ ‬الكبار‭ ‬ليتعلّموا‭ ‬منها،‭ ‬ويسترجعوا‭ ‬بصيصًا‭ ‬من‭ ‬ألق‭ ‬فطرتهم‭ ‬الطفولية‭ ‬الأولى‭. ‬

العقاد‭ ‬والأطفال

ولقد‭ ‬انتبه‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬التربوي‭ ‬الجميل‭ ‬أديب‭ ‬فذٌّ‭ ‬وعالم‭ ‬متبحّر‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬إحاطته‭ ‬المقدورة‭ ‬بقضايا‭ ‬الأدب‭ ‬والفلسفة‭ ‬والأخلاق‭ ‬والتاريخ‭ ‬والاجتماع،‭ ‬هو‭ ‬الأستاذ‭ ‬الكبير‭ ‬المفكر‭ ‬عباس‭ ‬محمود‭ ‬العقاد‭ (‬1889‭ - ‬1964م‭) ‬فكتب‭ ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬الأطفال،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مقامه‭ ‬الأدبي‭ ‬والعلمي‭ ‬السامق،‭ ‬المعلوم‭ ‬لدى‭ ‬كلّ‭ ‬أهل‭ ‬العلم‭ ‬والثقافة‭ ‬والمطالعة‭: ‬‮«‬إنهم‭ ‬معلمون‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الأول،‭ ‬لأن‭ ‬أخلاق‭ ‬الإنسانية‭ ‬مكتوبةٌ‭ ‬في‭ ‬نفوسهم‭ ‬بالخطّ‭ ‬البارز‭ ‬الذي‭ ‬تقرأه‭ ‬لأول‭ ‬نظرة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الكبار‭ ‬ضامرة‭ ‬أو‭ ‬مصحّفة‭ ‬أو‭ ‬ملتبسة‭ ‬بوشي‭ ‬الرياء‭ ‬وزركشة‭ ‬العُرف‭ ‬وزخارف‭ ‬التكلّف‭ ‬والتمويه‭. ‬

إن‭ ‬معلمينا‭ ‬الصغار‭ ‬لا‭ ‬يكتمون‭ ‬شيئًا،‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬كتموه‭ ‬أبرزوه‭ ‬وضاعفوا‭ ‬إبرازه،‭ ‬فمَن‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ ‬حقائق‭ ‬الضمير‭ ‬الإنساني‭ ‬من‭ ‬الطفل،‭ ‬فما‭ ‬هو‭ ‬بمستفيد‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬الكبار،‭ ‬ولو‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬العلماء‮»‬‭.‬

فلا‭ ‬يعتقد‭ ‬الكبار‭ ‬بأنهم‭ ‬وحدهم،‭ ‬مصدر‭ ‬تربية‭ ‬الصغار،‭ ‬وأنهم‭ ‬لكبر‭ ‬سنّهم‭ ‬ليسوا‭ ‬بحاجةٍ‭ ‬إلى‭ ‬أحبتنا‭ ‬الصغار؛‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬أطفالًا‭ ‬أم‭ ‬يافعين،‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتعلّم‭ ‬بعضِ‭ ‬الخصال‭ ‬والقيم‭ ‬والشمائل،‭ ‬فهذا‭ ‬وهمٌ‭ ‬أو‭ ‬خطأ‭ ‬يقع‭ ‬فيه‭ ‬كثيرُ‭ ‬من‭ ‬الكبار،‭ ‬والغريب‭ ‬أن‭ ‬مبعث‭ ‬هذا‭ ‬الخطأ‭ - ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬فيه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكبار‭ - ‬نابع‭ ‬من‭ ‬إحساسهم‭ ‬بكونهم‭ ‬كبارًا،‭ ‬وكأن‭ ‬العمر‭ ‬الزمني‭ (‬السن‭ ‬بالمعنى‭ ‬البيولوجي‭) ‬هو‭ ‬معيارُ‭ ‬إدراك‭ ‬الحقيقة‭ ‬ووزنها،‭ ‬وليس‭ ‬العقل‭ ‬والتجربة،‭ ‬والملاحظة‭ ‬الحصيفة‭ ‬الدقيقة‭. ‬

وقد‭ ‬أكّد‭ ‬المختصّون‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬نفس‭ ‬الطفولة،‭ ‬أن‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬طفولته‭ ‬المبكّرة‭ ‬يكون‭ ‬مزودًا‭ ‬بقوى‭ ‬فطرية،‭ ‬تنعكس‭ ‬على‭ ‬سلوكه‭ ‬منذ‭ ‬الأشهر‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬ولعلّ‭ ‬هذا‭ ‬الملمح‭ ‬إحدى‭ ‬العلامات‭ ‬أو‭ ‬الأمارات‭ ‬التي‭ ‬نفسّر‭ ‬بها‭ ‬قوة‭ ‬الذكاء‭ ‬وسرعة‭ ‬البديهة‭ ‬وحضور‭ ‬التركيز‭ ‬لدى‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الأطفال،‭ ‬ممن‭ ‬يميلون‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬بعض‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬يعجز‭ ‬تجاهها‭ ‬الكبار،‭ ‬وعدم‭ ‬الاهتداء‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬تبرير‭ ‬منطقي‭ ‬علمي‭ ‬لأجوبتهم‭ ‬وردودهم‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة‭ ‬القوية‭ ‬المباغتة‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الثامنة‭ ‬فتبدأ‭ ‬ميول‭ ‬الأطفال‭ ‬تنحو‭ ‬باتجاهٍ‭ ‬أكثر‭ ‬تخصصًا‭ ‬وأكثر‭ ‬موضوعية،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬بعض‭ ‬الأطفال‭ ‬يميلون‭ ‬مثلاً‭ ‬إلى‭ ‬الألعاب‭ ‬العملية‭ ‬التي‭ ‬تناسب‭ ‬حدود‭ ‬إمكاناتهم‭ ‬وخبراتهم‭ ‬ومهاراتهم‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭.‬

 

أهمية‭ ‬استثمار‭ ‬ذكاء‭ ‬الطفل

ومما‭ ‬تقدم‭ ‬ذكره‭ ‬يصح‭ ‬القولُ‭ ‬بأنه‭ ‬ينبغي‭ ‬على‭ ‬الكبار‭ ‬والمربين‭ ‬والموجّهين‭ ‬مراعاةُ‭ ‬خصائص‭ ‬مراحل‭ ‬التحوّل‭ ‬والنمو‭ ‬العقلي‭ ‬لدى‭ ‬الطفل،‭ ‬وتقديرُ‭ ‬أثر‭ ‬ما‭ ‬يترتب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تغيّرات‭ ‬وتحوّلات‭ ‬تطول‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الكبار‭ ‬والصغار،‭ ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬أيضًا‭ ‬التفطنُ‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬إمكانيةِ‭ ‬وواقعية‭ ‬استثمار‭ ‬ذكاء‭ ‬الطفل‭ ‬والإفادة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المجالات‭ ‬المهمة،‭ ‬كالمجال‭ ‬التربوي‭ / ‬البيداغوجي‭.‬

ولا‭ ‬بأس‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أسوق‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬الطريفة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬بإحدى‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة،‭ ‬وهي‭ ‬تبيّن‭ ‬بعض‭ ‬جوانب‭ ‬المقصد‭ ‬الذي‭ ‬يرومه‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ / ‬الفكري‭ / ‬البيداغوجي‭ ‬لعالم‭ ‬الطفل‭.‬

فقد‭ ‬حدث‭ ‬يومًا‭ ‬أن‭ ‬تأخر‭ ‬تلميذان‭ ‬عن‭ ‬الوقت‭ ‬المحدّد‭ ‬لدخول‭ ‬المدرسة‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬دقيقة،‭ ‬فقرر‭ ‬المدير‭ ‬إخضاعهما‭ ‬للمساءلة‭ ‬بسبب‭ ‬هذا‭ ‬التأخر،‭ ‬ثمّ‭ ‬قبولهما‭ ‬في‭ ‬صفهما‭ ‬دون‭ ‬توبيخ‭ ‬وعقاب،‭ ‬إذا‭ ‬أبديا‭ ‬عذرًا‭ ‬صحيحًا‭ ‬منطقيًا‭ ‬مقنعًا‭.‬

وكان‭ ‬هذا‭ ‬المدير‭ ‬يتميز‭ ‬باطّلاعه‭ ‬الجيد‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬نفس‭ ‬الطفولة،‭ ‬لذلك‭ ‬قرر‭ ‬إحالة‭ ‬قبول‭ ‬العذر‭ ‬أو‭ ‬ردّه‭ ‬إلى‭ ‬محكمةٍ‭ ‬مكوّنةٍ‭ ‬من‭ ‬مجموعةٍ‭ ‬من‭ ‬التلاميذ‭.‬

وعندما‭ ‬مَثُل‭ ‬الصغيران‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬المحكمة‭ ‬اعتذرا‭ ‬عن‭ ‬تأخرهما‭ ‬بأنهما‭ ‬صادفا‭ ‬وهما‭ ‬في‭ ‬طريقهما‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬دودةً‭ ‬غليظةً‭ ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬قد‭ ‬رأيا‭ ‬لها‭ ‬نظيرًا‭ ‬في‭ ‬حياتهما،‭ ‬فراعهما‭ ‬منظرها،‭ ‬وأخذهما‭ ‬العجب‭ ‬والدهشة،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الحشرة‭ ‬كانت‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬وأوضاع‭ ‬غير‭ ‬معهودة‭ ‬أو‭ ‬مألوفة‭ ‬لهما،‭ ‬فكانت‭ ‬تارة‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬ذنبها‭ ‬وطورًا‭ ‬تمتدّ‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وأنهما‭ ‬كانا‭ ‬يصرفان‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬مشاهدتها،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تنساب‭ ‬حتى‭ ‬بلغت‭ ‬عوسجا‭ (‬نبات‭ ‬ذو‭ ‬أشواك‭ ‬يكثر‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأراضي‭ ‬الجافة،‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الرطوبة‭)‬،‭ ‬فغاب‭ ‬عنهما‭ ‬أثرها‭ ‬فيه‭.‬

ولما‭ ‬كان‭ ‬المدير‭ ‬حاضرًا‭ ‬يتابع‭ ‬فصول‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمة‭ ‬الطريفة،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يتمالك‭ ‬أمره،‭ ‬فتدخل‭ ‬سائلًا،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يمهل‭ ‬التلميذين‭ ‬ليتمّما‭ ‬قصتهما‭ ‬الممتعة‭:‬

ــ‭ ‬لكن‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تقتلا‭ ‬هذه‭ ‬الدودة؟

فحدّق‭ ‬التلميذان‭ ‬فيه‭ ‬دون‭ ‬الاهتداء‭ ‬إلى‭ ‬جواب،‭ ‬فاهتبل‭ ‬الفرصةَ‭ ‬لمتابعة‭ ‬السؤال‭:‬

ــ‭ ‬أما‭ ‬كان‭ ‬لديكما‭ ‬من‭ ‬الوسائل‭ ‬ما‭ ‬يعينكما‭ ‬على‭ ‬قتلها؟‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬إبطائكما‭ ‬وتأخركما‭ ‬عن‭ ‬موعد‭ ‬الحصة‭ ‬الدراسية؟‭ ‬

فنطق‭ ‬أحدهما‭ ‬قائلاً‭ ‬بهدوء‭ ‬وثقة‭ ‬بالنفس‭: ‬

‭- ‬بلى‭... ‬كنا‭ ‬قادريْن‭ ‬على‭ ‬قتلها‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬شكّ،‭ ‬ولكنا‭ ‬لو‭ ‬فعلنا‭ ‬ذلك‭ ‬حقًّا،‭ ‬لكان‭ ‬ذلك‭ ‬منّا‭ ‬شرًا‭ ‬وقسوةً‭ ‬ضد‭ ‬حشرة‭ ‬صغيرة‭ ‬لا‭ ‬تقوى‭ ‬على‭ ‬مجابهة‭ ‬مهاجميها‭. ‬

فنالت‭ ‬هذه‭ ‬الإجابة‭ ‬إعجاب‭ ‬أعضاء‭ ‬المحاكمة،‭ ‬وجوبهت‭ ‬بالتحبيذ‭ ‬والاستحسان،‭ ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬هي‭ ‬الحكم‭ ‬ببراءتهما‭ ‬من‭ ‬التقصير‭ ‬غير‭ ‬المقصود‭.‬

 

إجابة‭ ‬مقنعة

المفارقة‭ ‬أن‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة‭ ‬غدا‭ ‬مُحرجًا،‭ ‬بتورطه‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬أسئلة‭ ‬كانت‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬أحد‭ ‬التلميذين‭ ‬المستجوبَيْن‭ ‬إجابة‭ ‬مقنعة‭ ‬نالت‭ ‬رضا‭ ‬هيئة‭ ‬قُضاة‭ ‬المحكمة‭ ‬التي‭ ‬اختار‭ ‬السيد‭ ‬المدير‭ ‬أعضاءَها‭ ‬بنفسه‭. ‬

ولا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الأصوب‭ ‬والأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الحكمة‭ ‬هو‭ ‬عدمُ‭ ‬تدخّله‭ ‬في‭ ‬المقاضاة،‭ ‬وتركُ‭ ‬ما‭ ‬ستسفر‭ ‬عنه‭ ‬مجرياتُ‭ ‬المحاكمة،‭ ‬وفق‭ ‬تقديرات‭ ‬القضاة‭ ‬الصغار،‭ ‬فإن‭ ‬طرائق‭ ‬تفكيرنا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬طرائق‭ ‬تفكيرهم،‭ ‬بحكم‭ ‬تمتّع‭ ‬الأطفال‭ ‬برصيد‭ ‬الفطرة‭ ‬والبراءة‭ ‬والنحيزة‭ ‬الأولى‭ (‬أي‭ ‬السليقة‭ ‬الصافية‭).‬

إذْ‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬أهمّ‭ ‬أهداف‭ ‬التربية‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬فطرة‭ ‬الناشئة‭ ‬ورعايتها‭ ‬وصقلها،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬المواهب‭ ‬والاستعدادات،‭ ‬لتوجيهها‭ ‬الوجهة‭ ‬الصحيحة‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬كيْ‭ ‬تُثمر‭ ‬خيرًا‭ ‬وبركة‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬وعلاقاته‭ ‬العامة‭ ‬وحركة‭ ‬الحياة‭ ‬والحضارة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬فمَنْ‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬الأطفال‭ ‬ليسوا‭ ‬مصدرًا‭ ‬مهمًا‭ ‬لتعلّم‭ ‬الكبار؟‭ ‬

وقد‭ ‬بدأ‭ ‬لفيف‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬التربية‭ ‬والاجتماع‭ ‬يُلفتون‭ ‬الأنظار‭ ‬إلى‭ ‬أهميّة‭ ‬استثمار‭ ‬ذكاء‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬البيداغوجية‭ ‬والتربوية‭ ‬والنفسية،‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬الإيمان‭ ‬بما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬الفطرة‭ ‬البشرية‭ ‬البريئة‭ ‬من‭ ‬توجيهات‭ ‬ومعالجات،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الاهتداءُ‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬هذا‭ ‬المصدر‭ ‬الإنساني‭ ‬الرائق‭ ‬الصافي‭ ‬‭.