القاعات البيزنطية كنوز القصور الملكية المصرية

القاعات البيزنطية كنوز القصور الملكية المصرية

تصنع المصادفات في بعض الأحيان صروحًا من الجمال والإبداع، وفي واحدة من المصادفات التاريخية، التقى الملك المصري فؤاد الأول عام 1917 عرّافة كانت مشهورة في ذلك الوقت، وخضع لحظات لكشفها تفاصيل حظه وطالعه النجمي، وقد أبهره ما كشفت له من بعض أسرار في حياته، ولذلك عندما طلبت منه تنفيذ أمرين تطالبه بهما النجوم والطالع، وافق على الفور. كان الطلب الأول أن تبدأ أسماء سلالته بحرف «ف»، واستجاب الملك، وظل هذا الحرف يتداول حتى أحفاده... وكان الطلب الثاني للعرافة أن تكون الفنون القبطية ضمن فنون تشييد القصور الملكية في البلاد.

كانت البداية التنفيذية لتعليمات العرّافة أن أطلق اسم فاروق على ولي العهد، ثم رزق بأربع فتيات حملن أيضًا الحرف نفسه؛ الأميرة فوزية التي تزوجت شاه إيران، والأميرات فايزة وفتحية وفايقة.
وعندما تزوج ولي العهد فاروق، تم تغيير اسم العروسة من صافيناز إلى الملكة فريدة، لتحمل بدورها حرف الفاء. ما لبث الملك فؤاد الذي حكم مصر (1917 - 1936) أن شرع في تنفيذ المطلب الثاني للعرّافة، وتم إخلاء القاعتين؛ إحداهما في قصر رأس التين بالإسكندرية، والثانية هي الأكبر بقصر عابدين، قصر الحكم في ذلك الزمن. 

الفن البيزنطي
كانت الفنون السائدة في ذلك العصر، والتي تركت آثارًا شاهدة حتى الآن، هي الفن الإغريقي، والبيزنطي، والإسلامي، والمصري القديم، وكان الفن البيزنطي قد بدأ في الظهور بالقرن الرابع الميلادي مرتبطًا بنشأة القسطنطينية. والتقت فيه الحضارات الشرقية من فارس وسورية ومصر. 
واختار الملك تصميم القاعتين في القصور الملكية بالفن البيزنطي، حيث كان هذا الفن في بدايته فنًا مسيحيًا، أي أنه بطابع ديني بحت، ثم ما لبث أن تأثر بالحضارات الشرقية، فأخذ من الإسكندرية طابع الخيال على الجداريات، كما أخذ منها فن البورتريهات التي اشتهرت بها الفيوم (إحدى محافظات مصر)، والتي أخذ منها فن الأيقونات.
كما أدت النظرة الجديدة التي جاءت مع المسيحية إلى الميل لاستعمال الرموز لتوضيح الدين والاضطهادات الدينية من جانب السلطات الرومانية في بداية العصر المسيحي، ومحاربتها للمسيحية في كل مكان، فلجأ الفنان إلى الجبل واستعمال الرموز لتوضيح الدين الجديد، فنجد مثلًا أنه رسم الصليب شعارًا للمسيحية، والحمام رمز السلام، والسفينة ترمز إلى الكنيسة التي تنقل المؤمنين بسلام إلى دار الخلود، وسعف النخيل الذي يذكّر الناس باستقبال المسيح عند دخوله أورشليم، والسمكة التي وجد الناس أن الكلمة اليونانية لها تحتوي على الحروف الأولى من كلمات يسوع المسيح. 

الفسيفساء والفريسكو
كما عرف الفن البيزنطي القباب المبنية على قواعد مربعة، وركز أيضًا على التأثيرات الحسية مثل الألوان، وغلب عليه الواقعية التصويرية، إلا أن ذلك لم يستمر طويلًا، إذ تحول الفن البيزنطي من الطابع الديني التمجيدي إلى الطابع الروحي والتأملي، كما ساد فيه الفن التشخيصي في آخر الأمر.
وتنوعت الفنون البيزنطية بين العمارة والنحت والتصوير والنسيج والطباعة... وما بين الفسيفساء والفريسكو، وكان التركيز على العمارة يتجه نحو بناء الكنائس ببهو مربع، والنحت الذي يظهر صورة الجسم من الأمام، والفسيفساء التي تتكون من قطع مربعة من الرخام ذات ألوان عدة، كما شمل أيضًا استخدام العاج في اللوحات المزينة للكنائس، والتي تحكي قصصًا دينية مسيحية وتصميم كراسي الأسقف.

آيا صوفيا
ويعتبر مبنى «أيا صوفيا» التي بناها الإمبراطور الروماني جستنيان عام 538م، في تركيا من أجمل وأضخم وأدق ما تركه البيزنطيون من آثار فنية غاية في الدقة والفخامة، وكانت كاتدرائية قبل أن يحوّلها السلطان محمد الفاتح إلى مسجد، ثم أخيرًا تحولت إلى متحف في عصر الرئيس التركي أتاتورك عام 1934، وأعادتها الحكومة التركية الحالية في يوليو الماضي مسجدًا مرة أخرى.

قـصر رأس التين
ويعود بناء المقام إلى تفاصيل زيارة القاعات البيزنطية داخل القصور الملكية المصرية... والأولى أقيمت بقصر رأس التين الذي شيّده محمد علي باشا عام 1934 بالإسكندرية، والذي بناه فوق أرض كانت تشغلها أشجار التين، وأصبح المقر الصيفي لحكم هذه الأسرة. وهذا القصر الفاخر مُقام فوق ستة أعمدة جرانيتية تعلوها تيجان تحمل لوحات كتب بداخلها كلمات عن العدل منها: «العدل ميزان الأمن»، و«أحسن العدل أمن الملوك»، وأيضًا «العدل باب كل خير»، وأخيرًا ا«عدلوا هو أقرب للتقوى»، ويكتنف هذا العتب تمثالا أسدين ونسران متقابلان.

قصر عابدين
ثم كان إنشاء القاعة الثانية الأكبر حجمًا والأعظم تصميمًا بقصر عابدين، جوهرة القصور الملكية والمقر الرئيس لحكم البلاد، والذي بناه الخديوي إسماعيل عام 1874 في توقيت حفر قناة السويس، ويحتوي على 500 غرفة وقاعة، ويعتبر أغنى قصور العالم باللوحات القيمة، وأهم ما يميزه قاعات العرس ومكتب الملك للعائلات الملكية، وجناح الحرملك، ثم القاعة البيزنطية، فاكهة القصر وعروس القاعات.
وقد حقق الملك فؤاد حلمه بإنشاء هاتين القاعتين، ولم يطُل به العمر لتنفيذ هذا الفن في بقية القصور الملكية. إذ رحل عام 1936، ليتولى نجله الملك فاروق عرش مصر، الذي شهد عصره قيام ثورة 23 يوليو، والتحول إلى النظام الجمهوري.

رحلة العمـر
 عندما يسعدك الحظ بزيارة هذه القاعات، فإن الطريق إليها بعد ممرات ومحتويات هذه القصور يدهشك بالإبهار، لكن عندما تقف داخل القاعة البيزنطية، تكتشف أنك وسط مهرجان من الفنون والإبداع، فتحتاج إلى خبرة مختص.
ويسترسل خبير القصور الملكية، د. محمود عباس، في شرح مقتنيات القاعة قائلًا:  تعد القاعة البيزنطية من أبهى وأجمل وأبدع وأفخم القاعات في العالم على الإطلاق، وسميت بالبيزنطية لاحتوائها على رسومات جدارية بديعة من الفن البيزنطي، وقد شيدها الملك فؤاد لتضم سرايا عابدين كافة الفنون بجميع أنواعها، وجاءت إضافة الفن البيزنطي والقبطي نتيجة استجابة الملك فؤاد لإحدى العرّافات التي أقنعته بأن تبدأ سلالته بحرف الفاء، وأن تكون الفنون القبطية ضمن فنون القصور الملكية.
القاعة البيزنطية بديعة ذات فخامة وروعة في التخطيط والفنون، فهي ذات جدران مرمرية مزخرفة بالنقوش الذهبية والفسيفساء والبلاطات الموزاييك، المعروفة باسم بلاط الخردة، لتنتج عنها رسومات غاية في الروعة والإبداع.
القاعة مفروشة بالرخام المرمر، أما السقف فهو من الخشب المزخرف بزخارف بارزة مطعمة بالصّدف والأبنوس، ويتوسط القاعة فسقية من الرخام الألباستر تنساب المياه من نافورة في وسطها.
القاعة مستطيلة الشكل جدار واجهتها مزخرف بالفسيفساء التي تشكل رسومات راقصات يرقصن حول شجرة تتدلى من أغصانها الزهور.
ويوجد في هذه القاعة باب على اليمين يدخل منه إلى الجناح البلجيكي.

أشكال هندسية دقيقة
ويوجد بالقاعة مقاعد من الخشب المكسو بالحرير، وتنتهي يد كل مقعد برأس أسد، وأمام هذه المقاعد مناضد من الرخام المزخرف على جانبي جدران القاعة، مقسمة إلى ثلاثة مستويات؛ المستوى الأول متناظرة ومتماثلة، فمن أسفل عبارة عن أشكال مستطيلة طولية معقودة، ومن أعلى مزخرفة بزخارف دقيقة. المستوى الثاني عبارة عن أشكال آدمية تمثّل راقصات يرقصن حول شجرة يلحق فروعها وأغصانها الورد والزهور. أما المستوى الثالث وهو الأعلى والأخير فعبارة عن أشكال هندسية دقيقة، وأما أرضية القاعة فهي من الرخام المرمر عبارة عن أشكال هندسية لأشكال مستطيلات ومعيّنات ومربعات ومثلثات مختلفة الأحجام متداخلة ذات ألوان زاهية فائقة الجمال.

ثريـّات مذهّبـة
أما سقف القاعة فهو من الخشب المزخرف ومقسم وبه أشكال هندسية بارزة مذهبة وغائرة متتالية متداخلة داخل بعضها البعض، ويتدلى من وسط السقف ثلاث ثريّات مذهّبة أكبرها الوسطى، وهي مزخرفة بزخارف هندسية دقيقة ومفرّغة، ويتدلى من كل واحدة دلايات عبارة عن أشرطة طولية متعددة.
تنقسم القاعة إلى مستويين بواسطة درجين من السلّم وبائكة مكونة من ثلاثة عقود نصف دائرية، أوسطها هو الأكبر يرتكز على أربعة أعمدة مستديرة، اثنين مدمجين بالجدار واثنين يتقدمان النافورة بالمستوى الثاني من القاعة، ويزخرف بدن الأعمدة المستديرة زخارف زجزاجية مذهّبة غاية من الجمال، ويزخرف كوشتَي العقد من أعلى زخارف هندسية دقيقة ذات ألوان داكنة رائعة الجمال ■

القاعة البيزنطية تحتوي على رسومات جدارية بديعة من الفن البيزنطي وتعد من أبهى وأجمل وأبدع وأفخم القاعات في العالم

آيا صوفيا» في تركيا