رواية «النباتية» الإغراق في المحلية وسؤال العالمية

رواية «النباتية» الإغراق في المحلية وسؤال العالمية

تجارب قليلة اختارت أن تولي عناية بالشرق الأقصى في الترجمة، وخصوصًا الترجمات الأدبية؛ ولعل هذه المنطقة تعاني شيئًا من الإهمال، وربما الاستعلاء الذي يمنعنا من الاعتراف بأنها أكثر مناطق العالم تطورًا من جهة، وأصالة من جهة أخرى.
حين فازت الكورية هان كانغ بجائزة البوكر عن روايتها «النباتية» استخدمت رئيسة لجنة تحكيم الجائزة الكبيرة هذا اللفظ (أصالة) تحديدًا. ربما كانت أحكام القيمة سوءة مشينة، لكن الأمر ليس على إطلاقه.

 

 لن تستطيع أن تتفاعل مع كثير من «معطيات» الرواية بعيدًا عن «فقه مرجعيّتها» الثقافية؛ فمن العسير أن تفهم وأنت قارئ عربي تأثير فكرة الصورة، ومدى الرعب الذي يعتري البطلة، وزوجة أختها، وربما جميع الشخصيات ما لم تكن تدرك أهمية صورة الكوري وطلّته، والتباري في أن تكون إطلالة الفرد عندهم لافتة وباهرة؛ فالكوري لا يترك مرآة دون مطالعة وجهه فيها، طال مقامه أمامها أو قصر، حتى وإن كان لثوانٍ في مرآة المصعد.
الأمر عند الكوري مردود إلى ولعهم بالصورة التي تعكسها طلّته، ومدى تأثيرها في الآخرين. الآخرون دائمًا مدار الأمر ومنتهاه عندهم، ولعل شيئًا من براعتهم في التجميل، وفي الطب، والصناعة، وأدوات التجميل، مردود - نفسيًا - لذلك الاهتمام الآسر. أبطال الرواية لا يعنيهم تدهور صحة البطلة بعد عزوفها عن تناول اللحوم، قدر ما يعنيهم انطفاء صورتها، وتراجع طلعتها أمام الآخرين.
لا يبتعد ذلك عن الإلحاح على تفاصيل الطعام، وطرق إعداده، ولوازمه، وقدر الإضافات وتنوعها، وتجهيز الأكل وطقوسه، كل ذلك الذي قد تراه إسهابًا من الرواية في وصفه هو عند الكوريين نوع من اللغة العادية، أو لوازم الوصف. 
ولعل براعة الرواية في الخيط الرفيع بين العزف على ملامح كورية خاصة من ناحية، ومحاولة اللعب بالمشترك الإنساني من جهة أخرى ينسيك تفاصيلها بالقدر الذي تنسى معه متطلبات ثقافتك وتندمج في كون الرواية عن لغة أخرى. 
ثمة تفاصيل مغرقة في المحلية والوقوع على ملامح محلية وتحويلها للعالمية يستلزم أن تقع في منظور إنساني، حيث يمكن للأدب ساعتها أن يكون مقروءًا.
إن ترجمة شعر يقوم على إكرام الضيف غالبًا لن يجد تلقيًا مناسبًا؛ إذ الجهة منفكة بين تقليد عربي راسخ، تصبح معه محاولة نقله إلى الأغيار مغامرة في المعنى، وهكذا؛ فسرد الأمور المغرقة في المحلية ليس طريقًا للعالمية، كما قد يظن الكثيرون، ما لم تقع تلك المحليات على الأمور الإنسانية العامة؛ فليس البحث عن الخصوصية الثقافية سبيلًا للتميز إذا استغرق جهده في الأمور شديدة التقليدية، أو التي تظل بحاجة إلى شرح وتفسير عميقين لأولئك البعيدين عن المجال الثقافي الذي صدر فيه العمل الأدبي.

استهلال بارع
في أحداث «النباتية»، وعبر استهلال بارع يتولى تأكيد أنها زوجة عادية للغاية تفاجئك الرواية بقرار الزوجة - العادية من وجهة نظر زوجها - بقرار امتناعها عن تناول اللحوم، وطبخها، بسبب حلم تتضح تفاصيله للقارئ فيما بعد؛ حيث ترى الدماء تلطخ فمها وثيابها ووجهها في بركة دم ممتدة، وتقطع إصبعها بسكين، فجأة - هكذا - تربط كل تلك المشاهد بتناول اللحوم، فتبتعد عنها، وتقرر ألا تقترب من الجنس. لا تبدو مسألة التحول للنظام النباتي خروجًا على الطبيعة أو الحالة العادية، وإنما هو دليل على الإصرار على الاختلاف، واتخاذه سبيلًا للتعامل الحياتي.
صحيح أن ذلك يبدو غير مؤسَّس دراميًا بشكل جيد، غير أن هذه القفزة لا تمنعنا من الإشادة بالبناء الذي يأتي عبر ثلاث وجهات للنظر؛ فالجزء الأول بلسان الزوجة، والثاني بلسان زوج الأخت والثالث بلسان الأخت. وهو تقسيم لا يضيف أحداثًا جديدة، أو - بمعنى أوضح - لا يقدّم انتقالات مفاجئة، وإنما يقدم منظورات مختلفة للسرد، والرواية في النهاية تنتظم في إطار يشبه قطع «البازل»؛ وعليه، تتباين السرود من الزوجة في القسم الأول إلى زوج شقيقة البطلة «يونغ - هاي» في الجزء الثاني، وهو فنان الفيديو الذي يأتي بلا اسم، يعادي الخضوع للتقاليد ويبحث عن مغامرة جنسية أو غير جنسية، فرعًا عن ولعه بالحياة بكل ظواهرها ورغباتها.

اعتبارات نباتية
 مع اقتراب الرواية من نهايتها تزداد تلميحاتها إلى صدق «النباتية» في مقابل تراجع الآخرين عند اختبار معتقداتهم الشخصية؛ فالمنطقية التي تتسم بها أختها لا يبدو لها حضور حين تلوم نفسها على زواجها من شخص سطحي تافه، لا يتسق وحقيقة داخلها، والفن الذي يتعلل به زوج أختها لم يشفع له في السمو بنفسه والتحليق إلى فضاءات أخرى «ومع أن أعماله التصويرية قد تضمنت العديد والعديد من المشاهد عن الطيران، بيد أنه عندما كان في حاجة ماسة إلى الطيران، لم تواته الجرأة».
جاءت الحملة المجتمعية لتؤكد قلة اكتراث تجاه انفراد «النباتية» بالقرار، أو أن تكون قائدة لأمورها الخاصة. لا يبتعد ذلك عن بعض أزمات النسويين في مجتمعنا، برغم اختلاف هامش الحرية بيننا وبين الكوريين. إنها المسألة ذاتها التي تأخذ بتلابيب بعض المتحزبين ضد توجهات الحملة النسائية. لا ملامة على الرجل في الرواية برغم عنفه أحيانًا، ولا مجال لمراجعة الزوج بعد هربه من زوجته المريضة عقب دخولها المستشفى، ولا تثريب على زوج الكبرى حين تكتشف خيانته لها مع أخته الصغرى النباتية المريضة. 
وخلال محاولتها الانفراد بالقرار لم يدعمها سوى زوج الأخت، ربما بفضل جنوحه الفني ونزعة الفن المتمردة داخله، فضلًا عما يدعم ذلك من انحياز الجيل القديم تمامًا ضد البطلة. ذات المواءمات الفنية التي لا تجهر بمخاصمة المجتمع حتى نهاية الشوط، والشرق الذي يعاني قدر ما يحاول الخروج من عنق زجاجة الحرية والوعي المجتمعي الكامل.
تمتص الرواية متن المحلي في المجتمع الكوري، وحسنا فعل د. محمود عبدالغفار حين ترجمها ليسد النقص في التواصل مع الأدب الكوري، ويختار- بعد ترجمات شعرية عديدة - هذا العمل الممتزج برائحة كوريا التي أقام فيها سنوات عديدة، والامتنان الكبير لمن زاد اتصالنا بالآداب الغريبة عنا ■