اليمن في الذاكرة الفرنسية
«العربية السعيدة» اسم أطلقه اليونان والرومان على بلاد جنوب الجزيرة العربية، واستمر متداولاً حتى مطلع العصر الحديث، حيث نجد الرحالة الإيطالي لودوفيكو فارتيما (1470 – 1517)، الذي زار الجزيرة العربية في مطلع القرن السادس عشر يخصص فصلين ضمن رحلاته؛ الأول بعنوان «بلاد العرب الصحراوية»، والثاني «بلاد العربية السعيدة».
كان للإشارات والحكايات التي تضمنها العهد القديم والمصادر الكلاسيكية عن العربية السعيدة دورها في استمرار النظر إليها، بوصفها مكانًا سحريًا وعجيبًا يثير خيال القراء والمستمعين حتى بدايات العصر الحديث.
وترجع أقدم هذه الإشارات إلى المؤرخ اليوناني هيرودوت عند محاولته التعريف بهذه المنطقة الغنية من العالم في إنتاج الطيوب واللبان وتجارة التوابل، فعدّها آخر الأراضي المأهولة، وقدّم وصفًا لحيواناتها وأشجارها وعمليات استخراج الطيوب منها، جاء في صيغة عجائبية أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع؛ فهو يذكر، على سبيل المثال، أن أشجار البخور تحرسها ثعابين صغيرة مجنّحة ذات ألوان زاهية، ويتم إبعادها عند استخراج البخور بواسطة الدخان الناتج عن حرق صمغ الاصطرك.
ولا شك في أن هذه الحكايات الغامضة ولّدت لدى المؤرخين اللاحقين الرغبة في تتبّع المعلومات وجمعها لتكوين صورة واضحة عن بلاد جنوب الجزيرة العربية.
ومع ذلك، فحتى بُعيد النهضة الأوربية وحركة الكشوف الجغرافية كان اليمن لا يزال بلدًا مجهولاً بالنسبة إلى أوربا، إذ لم تكن تتوافر معرفة دقيقة بطبيعتها الجغرافية والإثنوغرافية سوى المعلومات الواردة في المصادر الكلاسيكية التي لم يكن يعرف مدى صحتها؛ وهو ما دفع العلماء آنذاك لإرسال المستكشفين للتحقق منها، وتقديم دراسة دقيقة لبلاد جنوب الجزيرة العربية، وفي الوقت نفسه كانت الحكومات الاستعمارية تسعى إلى إنشاء أرشيف معرفي حديث بالعالم الإسلامي في إطار استعدادها لمواجهته.
وتعدّ البعثة الدنماركية (1761 - 1767) بقيادة الألماني كارستن نيبور أول بعثة علمية إلى اليمن، غير أنها لم تكن أول اتصال للأوربيين باليمن، فقد سبقتها رحلات وحملات عسكرية وتجارية، بدءًا بمحاولة البرتغاليين السيطرة على الشواطئ اليمنية مطلع القرن السادس عشر، ومرورًا بمجيء الهولنديين والإنجليز والفرنسيين وتأسيس وكالات تجارية لهم في الشِّحْر والمخا وبيت الفقيه، وانتهاء باحتلال الإنجليز لعدن عام 1839.
البن اليمني
تزامن هذا الاهتمام الأوربي مع ظهور البن اليمني في القرن السادس عشر، وانتشار استخدامه في مختلف مناطق العالم، وتحوله إلى سلعة تجارية فتحت شهية الدول والشركات الاستعمارية للتحكم بهذه التجارة، نظرًا لما كانت تدره من فائض ربحي مهم يضارع الأهمية التي يحتلها النفط اليوم كعنصر أساسي في حركة الاقتصاد.
وبفضل حبوب البن تحولت مدينة المخا اليمنية إلى قبلة للشرق والغرب، ومحطة يتزود منها العالم بما يحتاج إليه من البن، وكما تذكر الباحثة الأمريكية جين هاثواي، «بحلول القرن الثامن عشر، انتشرت القهوة انتشارًا واسعًا، لدرجة أنها جعلت اليمن بلدًا مشهورًا كالشهرة التي تحظى بها ولاية واشنطن اليوم؛ فالقهوة كانت في كل مكان».
ضمن مدى هذين البعدين؛ العلمي والاقتصادي، يدور كتاب د. حميد عمر «اليمن في الذاكرة الفرنسية» (مكتبة الآداب، القاهرة، 2017)، الذي عاد مؤلفه إلى الأرشيف الفرنسي مترجمًا، وقدَّم جانبًا مهمًا من وثائق التاريخ المشترك بين اليمن وفرنسا، تضمن الكتاب ستة أبواب تناولت ستة محاور: الحملة الفرنسية الأولى، الحملة الفرنسية الثانية، العدوان على مدينة المخا، قضية منطقة الشيخ سعيد، الفنارات البحرية، تقارير الرحالة الفرنسيين.
الحملة الفرنسية الأولى والثانية
عند منتصف القرن السادس عشر كانت القهوة اليمنية قد وصلت إلى مصر عن طريق الحجاز، ثم انتقلت بسرعة إلى سورية وإسطنبول، ومن هناك عرفت طريقها إلى إيطاليا وبقية الدول الأوربية. وكان الفرنسيون يحصلون عليها عن طريق الإنجليز والهولنديين الذين كانوا يجنون أرباحًا طائلة من تجارتها، وهو ما دفع الفرنسيين إلى الاتصال بالمصدر مباشرة، فقامت شركة الهند الشرقية الفرنسية بإرسال حملة مكونة من سفينتين حربيتين انطلقت مطلع عام 1708 ووصلت إلى ميناء المخا في الثالث من يناير 1709.
وبمجرد وصول الفرنسيين شرعوا في إجراء مفاوضات مع حاكم مدينة المخا دامت أسبوعًا، وأسفرت عن إبرام اتفاق ينظم العلاقة التجارية بينهما، حصل الفرنسيون بموجبه على تسهيلات وامتيازات وإعفاء من الجمارك لذلك العام كنوع من الحفاوة وإبداء حُسن النية، إضافة إلى تأسيس وكالتين تجاريتين في المخا وبيت الفقيه لشراء البن ونقله.
ويعتمد المؤلف في البابين، الأول والثاني، على وثائق البحرية الفرنسية، وفي الأول منهما يركّز بشكل خاص على يوميات القبطان دولا ميرفاي، أحد قائدي الحملة، التي تضمنت مشاهداته وانطباعاته ومسار المفاوضات، ووصف المدن والجزر اليمنية التي مروا بها، وحظيت مدينة المخا باهتمام أكبر في التعريف بجغرافيتها ومبانيها وتكوينها الديمغرافي، ومنها الإشارة إلى حالة الانضباط التي تسود المدينة ودقة نظامها، ليس فيما يتعلق بإدارة النشاط التجاري فحسب، بل أيضًا فيما يتصل بالحياة الاجتماعية للسكان من حيث المحافظة على النظام وتطبيق القانون، على نحو ما تلخصه عبارة ميرفاي الموجزة: «في هذه المدينة ليس هناك مجال لإشاعة الفوضى وإقلاق السكينة العامة» (اليمن في الذاكرة الفرنسية، ص30). وقد حققت هذه الحملة - وفق تسمية الوثائق وترجمة المؤلف - أرباحًا وفيرة للفرنسيين أغرتهم بإرسال حملة أخرى عام 1711، وإذا كان الفرنسيون في حملتهم الأولى لم يذهبوا أبعد من مدينتي المخا وبيت الفقيه، فقد وصلوا هذه المرة إلى مقر إقامة حاكم اليمن، الإمام المهدي، في منطقة المواهب شرق مدينة ذمار، مرورًا بمدن تعز وجبلة وإب وذمار، استجابة لدعوة وجهها وزير الإمام، طالبًا منهم اصطحاب طبيب الحملة لمداواة الإمام من عارض مرضي.
وقد تضمنت تقارير الحملة الثانية وصفًا للمناطق التي مر بها الفريق، بما فيها منطقة المواهب وطبيعة الحياة اليومية التي يحياها حاكم اليمن فيما يتصل بالحكم وممارسة السلطة السياسية.
العدوان الفرنسي على مدينة المخا
صيغت بنود المعاهدة بين الفرنسيين وحاكم المخا بشكل يفتقر إلى الدقة والتحديد، فضلاً عن أنها مجحفة بحق اليمنيين، إذ تم الاتفاق على أن يدفع الفرنسيون 2.25 في المئة جمارك على بضائعهم، بينما كان رعايا الدول الأخرى يدفعون نسبة تتراوح بين 5 و10 في المئة.
وبطبيعة الحال فقد أغرق الفرنسيون المدينة بالبضائع، مما أدى إلى حالة من الركود، ومن ثم دبّ الخلاف بين الوكالة الفرنسية وحاكم المخا في تفسير الاتفاقية، فالحاكم رأى أن النسبة المتفق عليها خاصة بالبضائع الفرنسية فقط، ولا تشمل البضائع القادمة من المستعمرات الفرنسية، وفَرَضَ زيادةً على بضائع المستعمرات، فأوغر بذلك صدور الفرنسيين.
وهنا لجأت الشركة الفرنسية إلى القوة وراحت تعد لحملةٍ عسكرية تعيد الأمور إلى نصابها، فجهزت أسطولاً مكونًا من أربع سفن و290 جنديًا بقيادة القبطان دولاجارد جازييه، الذي وصل إلى شواطئ المخا في 25 يناير 1737، وكانت السفن محملة بالبضائع أيضًا، لأن الهدف من الحملة لم يكن عملاً عسكريًّا بحتًا، وإنما كان عملاً خفيفًا يعمد إلى استعراض القوة والتخويف، فقد أعطيت الأوامر لقائد الحملة بتجنب ضرب المدينة وتخريبها، فالغاية هي استعادة الامتيازات وفرض شروط جديدة تحفظ لفرنسا مكانتها كقوة امبراطورية واقتصادية.
وكان للفرنسيين ما أرادوا، بعد مواجهات سيطروا خلالها على القلعة الجنوبية للمدينة، بخسارة أربعة من جنودهم، بينما قاربت خسائر اليمنيين على الثمانين جنديًا، فضلاً عن المصابين، واستعاد الفرنسيون ما أُخذ منهم من زيادة ضريبة، وفرضوا اتفاقية جديدة أكثر إجحافًا من الأولى.
وأورد المؤلف ترجمة كاملة للاتفاقية والرسائل المتبادلة بين قائد الحملة ومسؤولي المدينة، اشتملت على معلومات وتفاصيل دقيقة عن المواجهة وسير المعركة بين الطرفين. ومما تضمنه هذا الباب أيضًا ترجمة رسالة القبطان جازييه إلى الأسقف ديفونتين، الذي كتب مذكراته، وهي رسالة تكشف عن تناقض دال بين رؤية القبطان لهذا الشعب العربي وموقفه الفعلي منه كقائد يعمل على ترسيخ هيمنة الشركة الفرنسية وتحقيق أطماعها ومصالحها.
وقد عبَّر جازييه في رسالته عن دهشته وإعجابه بمستوى الدقة التي بدت عليها السجلات التجارية لمدينة المخا عندما أُعيدت الزيادة التي كان حاكم المدينة قد فرضها على الوكالة الفرنسية. ويصف جازييه اليمنيين بالنبل والصدق، مثنيًا على تعاونهم وعدم استغلالهم للموقف والتراجع عن المعاهدة الجديدة، بعد أن اتضح لهم وهن الفرنسيين وضعفهم ووجود أكثر من 200 جندي فرنسي تحت قبضتهم في منازل استأجروها للعلاج والتعافي، بعد انتشار الأمراض المعدية على متن السفن.
يقول جازييه: «باستثناء بعض الغوغائيين الذي يتصفون بالفجاجة والوحشية، يتسم هذا الشعب بكثير من النبل والصدق وبما ينافي إضفاءنا في فرنسا صفة «العربي» على الشخص اللئيم، الفج، القاسي، الظالم» (ص 99).
كما تكشف الرسالة عن الأهمية التي كان يعلّقها الفرنسيون على هذه الحملة في توطيد سمعتهم كقوة امبراطورية وتجارية ليس في المخا فحسب، بل في عُمان وفارس وبلاد الهند، فقد كان اقتصادهم في مستعمرة بونديشيري بالهند يعتمد كليًا على تجارتهم في البحر الأحمر، وكما يذكر جازييه في رسالته، فإن الحملة رفعت من قدر الفرنسيين في جميع أنحاء الهند، وأصبحت الرغبة في الحصول على الجواز الفرنسي مطلب كثير من التجار (ص101).
منطقة الشيخ سعيد والفنارات البحرية
تكشف وثائق البابين الرابع والخامس عن اشتداد الصراع بين الفرنسيين والإنجليز على مناطق النفوذ في بلدان الشرق العربي التي كانت واقعة تحت سيطرة الدولة العثمانية، وكان هذا يتم من خلال احتلال تلك المناطق، أو تحت غطاء الاتفاقيات السياسية والتجارية مع الدولة العثمانية.
فالفرنسيون كانوا يرون أن تأمين طريق البحر الأحمر أمر حيوي للحفاظ على ازدهار مستعمراتهم في الهند وإفريقيا، ولذلك سعوا بعد نجاح ثورتهم إلى غزو مصر عام 1798، وتحويلها إلى مستعمرة فرنسية، نظرًا إلى موقعها في هذا الطريق الحيوي وللخصوبة التي تتميز بها أرضها في زراعة المحاصيل.
ويذكر المؤرخون أن فكرة شق قناة السويس كانت مدرجة ضمن المشاريع التي تنوي الحملة الفرنسية إقامتها في مصر، إلا أن المشروع تبخّر نتيجة المقاومة الباسلة التي أبداها المصريون لإفشال الحملة. لكن الفكرة ظلت قائمة إلى حين نجح المهندس الفرنسي دليسبس في إقناع سعيد باشا بتنفيذ المشروع والحصول على موافقة السلطان العثماني.
ومع استمرار العمل على شق قناة السويس (1859 – 1869) بدأ القناصل الفرنسيون يفكرون في وجود مناطق مشاطئة للبحر الأحمر على الساحل اليمني لتعزيز وجودهم، ولإقامة مستودعات للفحم ومراسٍ بحرية، إضافة إلى إنشاء فنارات بحرية لتسهيل مرور السفن وحماية حركتها.
وفيما يتعلق بموضوع الفنارات البحرية قدّم المؤلف عرضًا تاريخيًّا لإنشاء إدارة فنارات الامبراطورية العثمانية، استنادًا إلى ما أوردته الوثائق الفرنسية من أن السلطان العثماني أصدر فرمانًا عام 1855 بتعيين القبطان الفرنسي بلايز ميشل مديرًا عامًا للفنارات، وقد تحولت إدارة المشروع بعد خمس سنوات إلى حق امتياز للشركة التي أسسها ميشل مع كولاس بمباركة الحكومة الفرنسية.
وفي عام 1860 تم منح شركة «كولاس – ميشل» حق الامتياز لإنشاء عشرات الفنارات البحرية في الموانئ والجزر التابعة للدولة العثمانية، كما تم عام 1899 التوقيع على اتفاقية بين الشركة والحكومة العثمانية على إنشاء 4 فنارات على الشواطئ اليمنية غير الخاضعة للسيطرة البريطانية (في جبل الطير، وجبل الزبير، وأبو علي، والمخا)، وأنشئت في مدة وجيزة ودخلت حيز التشغيل الفعلي عام 1903.
لكن بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وتفكك امبراطوريتها، دب الخلاف بين الفرنسيين والبريطانيين حول مسألة السيادة على هذه الفنارات، إذ قام البريطانيون مطلع عام 1915 بالاستيلاء على ثلاثة فنارات وإخضاعها لنفوذ البحرية البريطانية، ويورد المؤلف ترجمة لعدد من الرسائل المتبادلة بين الشركة والحكومتين الفرنسية والبريطانية، وقد استمرت المفاوضات بين الجانبين حتى تصفية إدارة الفنارات في 4 سبتمبر 1959.
تقارير ورحلات إلى اليمن
قام المؤلف في الباب السادس بترجمة خمسة من تقارير الرحالة الفرنسيين، وفي معظم هذه التقارير لجأ إلى التصرف تلخيصًا واختصارًا، ولم ينج من ذلك سوى تقرير بول بوتا. صحيح أن هدف الكتاب كان تقديم محطات تاريخية من واقع الوثائق الفرنسية لا ترجمة كاملة للتقارير، فبعضها كان كتبًا ضخمة ككتابي ألبير ديفلرز وجوزيف هاليفي (ترجم جزءًا من الأخير ونشر عام 2011)، إلا أن التصرف في النهاية لا يخضع إلا لوجهة نظر المترجم فيما هو مهم وأولى بالنقل. والجديد الذي تضمنه هذا الباب هو الترجمة الكاملة لكتاب الإيطالي بوتا «رحلة إلى اليمن» (1841، 69 صفحة) وهي رحلة مهمة تحتاج إلى وقفة خاصة بالنظر إلى ما تضمنته من رصد لأحوال المجتمع اليمني الذي كان يعيش تحت وطأة صراع أهلي استمر عقودًا عدة، إضافة إلى تلخيص يوميات ديفلرز (1889) الذي تضمن تعريفًا بالكتاب وجهود ديفلرز التي جاءت مكملة لعمل بوتا في مسح الغطاء النباتي لمناطق اليمن الوسطى والجنوبية التي لم يتهيأ لبوتا زيارتها.
جمع كتاب «اليمن في الذاكرة الفرنسية» بين السرد التاريخي وترجمة الوثائق وقدر معيّن من التحليل، وهو جمع يعبّر عن طموح مؤلفه ليقول الكثير في حيّز محدود، فغامت أحيانًا الحدود بين السرد والوثيقة والرأي، وهذا أمر طبيعي في كتاب يتقصد الكشف عن وثائق ظلت بعيدة عن المتناول، وربما لم يطلع عليها سوى قلة من الباحثين، وقد أتيح للمؤلف الوصول إليها وترجمتها بفضل عمله مستشارًا سياسيًا بالسفارة اليمنية في باريس.
أتصور هذا الكتاب كمقدمة تعريفية بهذه المحطات التاريخية، ولاستكمال هذا الجهد العلمي أرى أن يعمد المترجم عند إعادة طباعته إلى إتمام ترجمة بعض الوثائق التي أورد أجزاء منها، وترجمة كتاب ديفلرز وإفراده، إضافة إلى رحلة بوتا في كتابين منفصلين لكي يسهل الرجوع إليهما واستفادة الباحثين منهما .