الإرث الثقيل

من يسعَ خلف الكتب والمجلات القديمة سيدرك تماما ما سأقوله عن هذا الموضوع، لقد تكرر على سمعي هذا الحوار «والدي توفي ونريد التخلص من محتويات مكتبته» ومن الطبيعي أن أفرح لأن مصائب قوم عند قوم فوائد، ولكن أي مصيبة وقعت – غير وفاة صاحب المنزل والمكتبة – حتى أكون المستفيد منها؟ أعتقد أنها في مكان آخر.
إنها حقا مصيبة إذا رأيناها كشمعة أنارت العقول لسنوات ثم أطفئت عن عمد، ولكن من يفكر اليوم بهذه الطريقة؟، لقد عايشت لسنوات طويلة واقعا داخل الصحافة اليومية ملخصه أن صفحة الثقافة هي الضحية الأولى أمام الإعلان التجاري لأنها بلا سند جماهيري، ويبدو أن هذا الواقع يتكرر في المنازل التي يرحل كبارها فلا يبقى غير الورثة الذين يبحثون في أحسن الأحوال عن مساحة إضافية على حساب مكتبة المنزل، أما السائد فهو بيع المنزل بكامل محتوياته وتوزيع أمواله على الورثة، والمكتبة ليست سوى هم صغير في هذه العملية.
يضم هذا الواقع حزنا عميقا بداخله إذا فكرنا من زاوية الأب الذي عجز عن نقل محبة القراءة والكتب لذريته، والذرية قد تمتد للأحفاد، لأن هذا النوع من المحبة قد يكون وراثيا ويتخطى جيلا ليستقر في الجيل التالي، أما إذا فكرنا في أن هذه العلة تشمل مجتمعا كاملا ونمط حياة ليس فيه للقراءة حيز، فلا يمكن أن نتصور غير مستقبل بائس يعمه الجهل والتخلف.
لقد تعاملت مع نماذج متعددة ممن يريدون التخلص من المكتبات الشخصية ولم أجد فيهم من يريد مواصلة القراءة عن طريق الحواضن الرقمية أو تريث في البحث عمن يحفظ لهم كتب المرحوم أو التبرع بها لمكتبة تملكها الدولة، بل بعضهم لا يريد حتى المفاصلة في السعر!! فقط شيل!!
نعم أنا أعلم أن بعض الظروف مثل تزايد أعداد أفراد الأسرة يتطلب استغلال المزيد من المساحات، وأعلم أن ضغط الظروف المعيشية يبسط قواعد جديدة لم تكن بالحسبان، مثل بيت المنزل الذي ولد فيه جميع الأبناء وجدرانه عابقة بمئات الذكريات التي لا تمحى، ولكن ماذا عمن ليسوا بحاجة إلى مساحة أو أموال لما هذه النزعة المتأججة للتخلص من محتويات مكتبة والدهم؟
لقد وفر كثير من الدول فرصا حضارية بإفساح مساحات واسعة للمكتبات الشخصية، كما وفرت بعض الجمعيات الأهلية وبعض المبادرات المجتمعية غير الربحية إمكانيات لإعادة استعمال الكتب المستعملة وتوزيعها عمن هم بأمس الحاجة إليها سواء داخل المدن أو المناطق النائية وحتى في بلدان أخرى، كل ما هو مطلوب - وهذا الأسلم برأيي الشخصي - أن يختار أصحاب المكتبات الخاصة وهم على قيد الحياة المكان الثاني الذي ستؤول إليه مكتباتهم في حال لم يتلمسوا همّا أو اهتماما بما لديهم من ولد أو حفيد .