المدينة بين التاريخ وعلم الاجتماع

المدينة بين التاريخ  وعلم الاجتماع

أثارت الــــمـــــدن اهـــتـــمـــام الـــمـــؤرخين والباحثين قديمًا وحديثًا، وفي كتب التراث العربي تتوزع أخبار المدن ما بين مؤلفات المؤرخين وتقارير الرحالة ومصنفات الجغرافيين وكتب الخراج. وقد اعتنى الفقهاء بتقديم مواصفات المدينة النموذجية. وحسب الماوردي: «وأما الأمصار فهي الأوطان الجامعة والمقصود بها خمسة أمور: أحدها أن يستوطنها أهلها طلبًا للسكون والراحة، والثاني: حفظ الأموال فيها من استهلاك وضياع، والثالث: صيانة الحريم والحرم من انتهاك ومذلة، والرابع: التماس ما تدعو إليه الحاجة من قناع وصناعة، والخامس: التعرض للكسب، وطلب المادة».

 

عند‭ ‬الماوردي‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬مُنشئ‭ ‬المصر‭ ‬في‭ ‬حقوق‭ ‬ساكنيه‭ ‬ثمانية‭ ‬شروط،‭ ‬أن‭ ‬يسوق‭ ‬إليه‭ ‬ماء‭ ‬السارية‭ ‬إن‭ ‬بعدت‭ ‬أطرافه،‭ ‬إما‭ ‬من‭ ‬أنهار‭ ‬جارية‭ ‬وإما‭ ‬من‭ ‬حياض‭ ‬سائلة‭ ‬ليسهل‭ ‬الوقوف‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تعسيف،‭ ‬والثاني‭ ‬في‭ ‬تقدير‭ ‬طرقه‭ ‬وشوارعه‭ ‬حتى‭ ‬تتناسب‭ ‬ولا‭ ‬تضيق‭ ‬بأهلها‭. ‬والثالث‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬جامعًا‭ ‬للصلوات‭ ‬في‭ ‬وسطه‭ ‬ليقرب‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬أهله‭ ‬ويعمم‭ ‬شوارعه‭ ‬بمساجده،‭ ‬والرابع‭ ‬أن‭ ‬يقدر‭ ‬أسواقه‭ ‬بحسب‭ ‬كفايته‭ ‬وفي‭ ‬مواضع‭ ‬حاجته،‭ ‬والخامس‭ ‬أن‭ ‬يميز‭ ‬خطط‭ ‬أهله‭ ‬وقبائل‭ ‬ساكنيه‭ ‬ولا‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬أضداد‭ ‬ومتنافرين‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬أجناس‭ ‬مختلفين،‭ ‬والسادس‭ ‬إن‭ ‬أراد‭ ‬الملك‭ ‬أن‭ ‬يستوطنه‭ ‬سكن‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬أفسح‭ ‬أطرافه‭... ‬والسابع‭ ‬أن‭ ‬يحوطهم‭ ‬بسور،‭ ‬والثامن‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬أهل‭ ‬العلوم‭ ‬والصنائع‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬حتى‭ ‬يكتفوا‭ ‬بهم‭ ‬ويستغنوا‭ ‬عن‭ ‬غيرهم‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬اعتنى‭ ‬الفقهاء‭ ‬بمسائل‭ ‬العمران،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬ما‭ ‬تعلق‭ ‬منها‭ ‬بحقوق‭ ‬الأفراد‭ ‬والمصلحة‭ ‬العامة‭. ‬مثل‭ ‬حق‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬الاستطراق،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬داره‭ ‬دون‭ ‬مانع‭ ‬أو‭ ‬عائق،‭ ‬ومثل‭ ‬المصلحة‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬إزالة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمنع‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬سلوك‭ ‬الطريق‭ ‬العام‭ ‬والسوق‭ ‬وإزالة‭ ‬التعديات‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الفقيه‭ ‬ابن‭ ‬الرامي‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬الإعلان‭ ‬بأحكام‭ ‬البنيان‮»‬‭ ‬أبرز‭ ‬فيه‭ ‬حقوق‭ ‬المالكين‭ ‬للمساكن‭ ‬المتجاورة‭. ‬كذلك‭ ‬فقد‭ ‬اعتنى‭ ‬الفقهاء‭ ‬بأحكام‭ ‬السوق،‭ ‬وما‭ ‬عرف‭ ‬أيضًا‭ ‬باسم‭ ‬الحسبة‭ ‬العملية،‭ ‬ونجد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬مثل‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬في‭ ‬آداب‭ ‬الحسبة‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬محمد‭ ‬السقطي‭. ‬و«معالم‭ ‬القربة‭ ‬في‭ ‬أحكام‭ ‬الحسبة‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬الإخوة‭. ‬و«أحكام‭ ‬السوق‮»‬‭ ‬ليحيى‭ ‬بن‭ ‬عمر‭. ‬و«نهاية‭ ‬الرتبة‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬الحسبة‮»‬‭ ‬للشيرزي،‭ ‬ومطالعة‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬تقودنا‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬أهمية‭ ‬الحسبة‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬أحكام‭ ‬الشريعة‭ ‬وخصوصًا‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬وأسواقها‭ ‬ومرافقها‭ ‬العامة‭. ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬تطبيق‭ ‬لمبدأ‭ ‬الأمر‭ ‬بالمعروف‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬المنكر‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬يقول‭ ‬الإمام‭ ‬الغزالي‭: ‬‮«‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬بالمعروف‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬المنكر‭ ‬هو‭ ‬القطب‭ ‬الأعظم‭ ‬في‭ ‬الدين‮»‬‭. ‬ويقوم‭ ‬بمهام‭ ‬الحسبة‭ ‬موظف‭ ‬يعينه‭ ‬القاضي‭ ‬عادة‭ ‬يُعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬المحتسب‮»‬‭ ‬وحسب‭ ‬الشيرزي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭  ‬‮«‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فقيهًا‭ ‬عارفًا‭ ‬بأحكام‭ ‬الشريعة‭ ‬ليعلم‭ ‬ما‭ ‬يأمر‭ ‬به‭ ‬وينهى‭ ‬عنه‮»‬‭. ‬أما‭ ‬مجالات‭ ‬عمل‭ ‬المحتسب‭ ‬فتشمل‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬الحياة‭ ‬المدينية‭ ‬دون‭ ‬استثناء‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬طابعها‭ ‬أخلاقيًا‭ ‬أو‭ ‬اقتصاديًا‭ ‬أو‭ ‬اجتماعيًا‭. ‬ويشمل‭ ‬عمل‭ ‬المحتسب‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬الأخلاق‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬والمرافق‭ ‬العامة‭ ‬مثل‭ ‬المساجد‭ ‬والحمامات‭.‬

 

مجرد‭ ‬أطلال

وفي‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬اهتم‭ ‬علماء‭ ‬الآثار‭ ‬بالتنقيب‭ ‬عن‭ ‬المدن‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عامرة‭ ‬بالمعالم‭ ‬والصروح‭ ‬والأبراج،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الاكتشافات‭ ‬الأثرية‭ ‬أثارت‭ ‬اهتمام‭ ‬المؤرخين‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬تمثله‭ ‬هذه‭ ‬المدن‭ ‬من‭ ‬عظمة‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬وتحولت‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬إلى‭ ‬أطلال‭ ‬في‭ ‬مجرد‭ ‬بلدات‭ ‬صغيرة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اندثرت‭ ‬معالمها‭ ‬تحت‭ ‬غبار‭ ‬العصور‭.‬

أتاحت‭ ‬هذه‭ ‬الاكتشافات‭ ‬الأثرية‭ ‬التعرف‭ ‬إلى‭ ‬حضارات‭ ‬قديمة‭ ‬مثل‭ ‬بابل‭ ‬وأشور‭ ‬والفراعنة‭ ‬والفينيقيين،‭ ‬وكان‭ ‬لهذا‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ‭ ‬القومي،‭ ‬وربط‭ ‬الحاضر‭ ‬بالماضي‭ ‬عبر‭ ‬تصورات‭ ‬فكرية‭ ‬تفيد‭ ‬بأن‭ ‬الدول‭ ‬الراهنة‭ ‬هي‭ ‬استمرار‭ ‬للدول‭ ‬والحضارات‭ ‬القديمة‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬كثرت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬الدراسات‭ ‬حول‭ ‬المدن‭ / ‬الممالك‭ ‬أو‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عواصم‭ ‬الحضارات‭ ‬السالفة،‭ ‬واحتلت‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬وازدهرت‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬الإسلام‭ ‬نصيبها‭ ‬من‭ ‬الدراسة،‭ ‬مثل‭ ‬بغداد‭ ‬ودمشق‭ ‬والقاهرة‭ ‬وحلب‭ ‬والقيروان‭ ‬وفاس‭ ‬وغيرها‭. ‬وانتقل‭ ‬الشغف‭ ‬من‭ ‬المؤرخين‭ ‬إلى‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬الذين‭ ‬تغنوا‭ ‬بالأمجاد‭ ‬السالفة‭.‬

لكن‭ ‬الدراسات‭ ‬التاريخية‭ ‬والآثارية‭ ‬إنما‭ ‬تخبرنا‭ ‬عن‭ ‬الماضي‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تخبرنا‭ ‬عن‭ ‬الحاضر،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬آثار‭ ‬الماضي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قائمة‭ ‬وظاهرة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المدن،‭ ‬فإنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تشكل‭ ‬سوى‭ ‬حيّز‭ ‬صغير‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬الاتساع‭ ‬الذي‭ ‬أحرزته‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فهذا‭ ‬الاتساع‭ ‬امتد‭ ‬بالعمران‭ ‬وفق‭ ‬شروط‭ ‬وأسباب‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬ازدهارها‭ ‬في‭ ‬الماضي‭.‬

 

التأثير‭ ‬الأوربي

فقد‭ ‬تعرضت‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬للتحديث‭ ‬منذ‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬بفضل‭ ‬التأثير‭ ‬الأوربي‭. ‬وحين‭ ‬وصل‭ ‬رفاعة‭ ‬الطهطاوي‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬عام‭ ‬1826،‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬‮«‬تخليص‭ ‬الإبريز‭ ‬في‭ ‬تلخيص‭ ‬باريز‮»‬‭:  ‬‮«‬غير‭ ‬أنه‭ ‬ظهر‭ ‬لي‭ ‬أنها‭ - ‬الإسكندرية‭ - ‬قريبة‭ ‬الميل‭ ‬في‭ ‬وصفها‭ ‬وحالها‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الإفرنج،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬وقتئذ‭ ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الإفرنج‭ ‬أصلاً،‭ ‬وإنما‭ ‬فهمت‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬رأيته‭ ‬فيها‭ ‬دون‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬مصر،‭ ‬ولكثرة‭ ‬الإفرنج‭ ‬بها،‭ ‬ويكون‭ ‬أغلب‭ ‬السوقة‭ ‬يتكلم‭ ‬ببعض‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬الطليانية،‭ ‬ونحو‭ ‬ذلك،‭ ‬وتحقق‭ ‬ذلك‭ ‬عندي‭ ‬بعد‭ ‬وصولي‭ ‬إلى‭ ‬مرسيلية،‭ ‬فإن‭ ‬اسكندرية‭ ‬عينة‭ ‬مرسيلية‭ ‬وأنموذجها‮»‬‭.‬‭ ‬وأضاف‭ ‬الطهطاوي‭ ‬في‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1849‭ ‬العبارة‭ ‬التالية‭: ‬‮«‬ولما‭ ‬ذهبت‭ ‬إليها‭ ‬عام‭ (‬1262هـ‭ - ‬1846م‭) ‬وجدتها‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬أوربا‮»‬‭.‬

كانت‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أولى‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬التحديث‭ ‬على‭ ‬النمط‭ ‬الأوربي،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬الإصلاحات‭ ‬التي‭ ‬أجراها‭ ‬حاكم‭ ‬مصر‭ ‬آنذاك‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا‭ ‬الذي‭ ‬أراد‭ ‬تحديثًا‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬قوة‭ ‬عسكرية‭ ‬واقتصادية،‭ ‬وأولى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬اهتمامه‭ ‬لكونها‭ ‬مرفأًً‭ ‬يؤمن‭ ‬التجارة‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭. ‬وكانت‭ ‬بيروت‭ ‬قد‭ ‬عرفت‭ ‬أيضًا‭ ‬تحديثًا‭ ‬مماثلاً‭ ‬لكونها‭ ‬مرفأً‭ ‬نشطًا،‭ ‬فأولاها‭ ‬إبراهيم‭ ‬باشا‭ ‬اهتمامه‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الحملة‭ ‬المصرية‭ ‬على‭ ‬لبنان‭ ‬وسورية‭.‬

وقد‭ ‬شهد‭ ‬تحديث‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬ثلاث‭ ‬مراحل،‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬مرحلة‭ ‬الحكام‭ ‬المصلحين،‭ ‬الذين‭ ‬رأوا‭ ‬أن‭ ‬الحاجة‭ ‬ملحة‭ ‬للقيام‭ ‬بإصلاحات‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬عديدة‭ ‬كالإدارة‭ ‬والتعليم‭ ‬والجيش‭ ‬والمرافق‭ ‬العامة‭ ‬وبناء‭ ‬المنشآت‭ ‬على‭ ‬النمط‭ ‬الغربي،‭ ‬وتعرف‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬التنظيمات‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬المحيط‭ ‬العربي‭ ‬تعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬النهضة‮»‬‭ ‬أي‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬المدن‭ ‬تتخذ‭ ‬مظهرًا‭ ‬حديثًا‭ ‬إثر‭ ‬شق‭ ‬الطرقات‭ ‬العريضة‭ ‬المستقيمة‭ ‬وبناء‭ ‬السرايات‭ ‬والثكنات‭ ‬والمدارس،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬انتشار‭ ‬المقاهي‭ ‬والمسارح‭. ‬وكان‭ ‬الخديوي‭ ‬إسماعيل‭ ‬حاكم‭ ‬مصر‭ (‬1863‭-‬1879‭)‬،‭ ‬أظهر‭ ‬إرادة‭ ‬وتصميمًا‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬القاهرة‭ ‬باريس‭ ‬صغرى،‭ ‬واستعان‭ ‬بمهندسين‭ ‬من‭ ‬أوربا‭ ‬لرسم‭ ‬الحدائق‭ ‬والساحات‭ ‬العامة‭ ‬وبناء‭ ‬القصور‭ ‬والشوارع،‭ ‬وبالفعل‭ ‬فإن‭ ‬القاهرة‭ ‬ازدادت‭ ‬اتساعًا‭ ‬بفعل‭ ‬بناء‭ ‬أحياء‭ ‬جديدة‭ ‬زودت‭ ‬بخدمات‭ ‬المياه‭ ‬والصرف‭ ‬الصحي‭ ‬ووسائل‭ ‬النقل‭. ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬نمت‭ ‬مدينة‭ ‬بيروت‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عام‭ ‬1800‭ ‬مجرد‭ ‬بلدة‭ ‬صغيرة‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬عدد‭ ‬سكانها‭ ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬نسمة،‭ ‬فأصبحت‭ ‬قبل‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬مدينة‭ ‬تجارية‭ ‬ومرفأ‭ ‬رئيسيا‭ ‬على‭ ‬الساحل‭ ‬الشرقي‭ ‬للبحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬وقد‭ ‬توسعت‭ ‬وبنيت‭ ‬فيها‭ ‬السرايات‭ ‬والفنادق‭ ‬وشقت‭ ‬الشوارع،‭ ‬وأصبحت‭ ‬المواد‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬تأتيها‭ ‬من‭ ‬أوربا،‭ ‬كما‭ ‬اكتسبت‭ ‬عادات‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬اللباس‭ ‬والطعام‭ ‬والترفيه‭.‬

 

المرحلة‭ ‬الاستعمارية

أما‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬فهي‭ ‬المرحلة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬مبكرة‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬عام‭ ‬1830،‭ ‬ثم‭ ‬مصر‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإنجليزي‭ ‬عام‭ ‬1882،‭ ‬وتونس‭ ‬في‭ ‬التوقيت‭ ‬نفسه‭. ‬وتتميز‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬بإيجاد‭ ‬أحياء‭ ‬للجاليات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬وتطبيق‭ ‬القوانين‭ ‬الغربية‭ ‬الفرنسية‭ ‬أو‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬البلدية‭ ‬والحكومية،‭ ‬وإيجاد‭ ‬المصالح‭ ‬التجارية‭ ‬والثقافية‭ ‬للبلدان‭ ‬المستعمرة‭. ‬وقد‭ ‬وقع‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬تحت‭ ‬الاستعمار‭ ‬إثر‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬وتوسعت‭ ‬خلاله‭ ‬المدن،‭ ‬واكتسبت‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬الغربية،‭ ‬وانقسمت‭ ‬كل‭ ‬مدينة‭ ‬إلى‭ ‬حيز‭ ‬قديم‭ ‬وحيز‭ ‬حديث‭. ‬أما‭ ‬المرحلة‭ ‬الثالثة‭ ‬فهي‭ ‬مرحلة‭ ‬الاستقلال،‭ ‬واستتباب‭ ‬الحكومات‭ ‬الوطنية‭. ‬وقد‭ ‬اهتمت‭ ‬خلالها‭ ‬الإدارات‭ ‬بخطط‭ ‬التنمية‭ ‬نظرًا‭ ‬للنمو‭ ‬الديمغرافي‭ ‬والهجرة‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬إلى‭ ‬المدينة،‭ ‬وانهمكت‭ ‬بوضع‭ ‬تصاميم‭ ‬التخطيط‭ ‬المديني‭ ‬بسبب‭ ‬تزايد‭ ‬أعداد‭ ‬سكان‭ ‬المدن‭ ‬وخصوصًا‭ ‬العواصم‭. ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬ظهرت‭ ‬الضواحي‭ ‬الفقيرة‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬المدن‭ ‬والتي‭ ‬تُعرف‭ ‬بالعشوائيات‭.‬

هذا‭ ‬التحديث‭ ‬الذي‭ ‬اتخذ‭ ‬النماذج‭ ‬الأوربية‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬العمران‭ ‬وشق‭ ‬الطرقات‭ ‬المستقيمة‭ ‬وبناء‭ ‬المسارح‭ ‬والمصانع‭ ‬جعل‭ ‬مدننا‭ ‬تشبه‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭  ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تأثرت‭ ‬بالتمدن‭ ‬الأوربي،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الجغرافيا‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع،‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬المدن‭ ‬تبعًا‭ ‬لما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أنجزه‭ ‬الباحثون‭ ‬الغربيون،‭ ‬فالتطور‭ ‬الذي‭ ‬شهدته‭ ‬المدن‭ ‬أصلاً‭ ‬بفعل‭ ‬تطور‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الصناعية‭ ‬والتجارية،‭ ‬دفع‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬المدينة‭ ‬والظواهر‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬نموها‭ ‬واتساعها‭. ‬وأبرز‭ ‬من‭ ‬درس‭ ‬المدينة‭ ‬وخصص‭ ‬لها‭ ‬كتابًا‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الشهير‭ ‬ماكس‭ ‬ڤيبر،‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬دراسة‭ ‬صغيرة‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬المدينة‮»‬،‭ ‬استعرض‭ ‬فيها‭ ‬أنماط‭ ‬المدن‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬السالفة‭ ‬والوظائف‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بها،‭ ‬واستنتج‭ ‬أن‭ ‬المدينة‭ ‬المستقلة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬بواسطة‭ ‬أعيانها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى،‭ ‬وهي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭. ‬وكان‭ ‬أثر‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬كبيرًا،‭ ‬فقد‭ ‬اتخذت‭ ‬كنموذج‭ ‬لقياس‭ ‬مدى‭ ‬استقلال‭ ‬المدن‭ ‬وطبيعة‭ ‬السلطة‭ ‬فيها‭ ‬وخصوصًا‭ ‬سلطة‭ ‬الأعيان‭ ‬والعسكر‭ ‬ومقدار‭ ‬نفوذهم‭. ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬استخدمها‭ ‬كمعيار‭ ‬الباحث‭ ‬المعروف‭ ‬ألبرت‭ ‬حوراني‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬حول‭ ‬دور‭ ‬الأعيان‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭. ‬وهناك‭ ‬عالم‭ ‬اجتماع‭ ‬ألماني‭ ‬آخر‭ ‬ومعاصر‭ ‬لماكس‭ ‬ڤيبر‭ ‬هو‭ ‬جورج‭ ‬زيمل،‭ ‬الذي‭ ‬درس‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬‮«‬الفرد‭ ‬والمجتمع‮»‬،‭ ‬وتناول‭ ‬في‭ ‬دراساته‭ ‬مسائل‭ ‬العزلة‭ ‬والحرية‭ ‬وتأقلم‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬فإنه‭ ‬أعطى‭ ‬للمدينة‭ ‬أولوية‭ ‬في‭ ‬دراساته‭.‬

وكان‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬ڤيبر‭ ‬وزيمل‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬ولادة‭ ‬ما‭ ‬عرف‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بمدرسة‭ ‬شيكاغو‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وقد‭ ‬تخصصت‭ ‬بالدراسات‭ ‬الحضرية،‭ ‬بسبب‭ ‬النمو‭ ‬المتسارع‭ ‬الذي‭ ‬شهدته‭ ‬المدن‭ ‬الأمريكية‭ ‬بعد‭ ‬الهجرات‭ ‬الكثيفة‭ ‬ونشوء‭ ‬الضواحي‭ ‬الفقيرة‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬روادها‭ ‬وليام‭ ‬توماس‭ ‬وربرت‭ ‬بارك‭ ‬ولويس‭ ‬ويرث،‭ ‬وكان‭ ‬لهؤلاء‭ ‬دورهم‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭  ‬الحضري،‭ ‬فقد‭ ‬درس‭ ‬رواد‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬النواحي،‭ ‬وسعوا‭ ‬إلى‭ ‬تعريف‭ ‬المدينة‭ ‬باعتبارها‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬تعيش‭ ‬فيها‭ ‬ومن‭ ‬المرافق‭ ‬التي‭ ‬تُبنى‭ ‬فيها‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الطرقات‭ ‬ووسائل‭ ‬النقل‭ ‬والمدارس‭ ‬والإدارات‭ ‬التي‭ ‬تسير‭ ‬شؤونها،‭ ‬فهي‭ ‬برأي‭ ‬روبرت‭ ‬بارك،‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬رواد‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة،‭ ‬تركيب‭ ‬من‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬المتناقلة‭ ‬عبر‭ ‬الأجيال،‭ ‬ولكل‭ ‬مدينة‭ ‬ثقافتها‭ ‬الخاصة‭. ‬وقد‭ ‬اهتمت‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬بما‭ ‬يسمى‭ ‬الخريطة‭ ‬الحضرية‭ ‬التي‭ ‬تتوسع‭ ‬بشكل‭ ‬دائم،‭ ‬وبمرور‭ ‬الوقت‭ ‬يكتسب‭ ‬كل‭ ‬حي‭ ‬أو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬طابعه‭ ‬الخاص‭ ‬به‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬مدرسة‭ ‬شيكاغو‭ ‬التي‭ ‬درست‭ ‬المدن‭ ‬الأمريكية‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬قد‭ ‬اهتمت‭ ‬بآثار‭ ‬الحداثة‭ ‬والنمو‭ ‬المتسارع،‭ ‬فليس‭ ‬للمدن‭ ‬الأمريكية‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬ومتراكم،‭ ‬فنمو‭ ‬هذه‭ ‬المدن‭ ‬جاء‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬الحداثة‭ ‬وخصوصًا‭ ‬مع‭ ‬تطور‭ ‬وسائل‭ ‬النقل‭ ‬والاتصالات‭ ‬واتساع‭ ‬الضواحي‭ ‬الفقيرة‭ ‬بفعل‭ ‬الهجرات‭ ‬المتسارعة‭ ‬والكثيفة‭.‬

وقد‭ ‬سعت‭ ‬مدرسة‭ ‬شيكاغو‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمدينة،‭ ‬الأحياء،‭ ‬التنوع‭ ‬السكاني،‭ ‬التجارة‭ ‬والصناعة‭ ‬والثقافة‭ ‬والآثار‭ ‬النفسية‭ ‬على‭ ‬الفرد‭. ‬وكان‭ ‬تأثيرها‭ ‬لدى‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬العرب‭ ‬بارزًا،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬تخصصوا‭ ‬بدراسة‭ ‬وتدريس‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الحضري‭ ‬أو‭ ‬المديني‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الظواهر‭ ‬تتبدل‭ ‬وتتغير‭ ‬فقد‭ ‬تبيّن‭ ‬لبعض‭ ‬الباحثين‭ ‬العرب‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬مدن‭ ‬الغرب،‭ ‬لا‭ ‬ينطبق‭ ‬بالضرورة‭ ‬على‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬فالعزلة‭ ‬التي‭ ‬يعانيها‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬الأوربية‭ ‬أو‭ ‬الأمريكية،‭ ‬لا‭ ‬يعانيها‭ ‬المهاجر‭ ‬الذي‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬قريته‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬والذي‭ ‬يجد‭ ‬حاضنة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬أبناء‭ ‬قريته‭ ‬الذين‭ ‬يستقبلونه‭ ‬ويساعدونه‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬السكن‭ ‬والعمل‭.‬

كذلك‭ ‬فإن‭ ‬الضواحي‭ ‬الفقيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مرتعًا‭ ‬للجريمة‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬أمريكا‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ليست‭ ‬الضواحي‭ ‬التي‭ ‬نبتت‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬المهاجر‭ ‬العائلة‭ ‬والأقارب‭ ‬والتقاليد‭ ‬وتخفف‭ ‬من‭ ‬غربته‭ ‬وتساعده‭ ‬على‭ ‬التأقلم‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المدينة‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬وغيرها‭ ‬تتطلب‭ ‬بذل‭ ‬الجهود‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الباحثين‭ ‬الاجتماعيين‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لإيجاد‭ ‬قواعد‭ ‬منهجية‭ ‬لدراسة‭ ‬تطور‭ ‬المدن‭ ‬واتساعها‭ ‬وتنوعها‭ ‬وثقافتها‭ ‬ومشكلاتها‭. ‬سعى‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬إلى‭ ‬الإحاطة‭ ‬بالمدينة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهات،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬تعريفها‭ ‬مرورًا‭ ‬بدراسة‭ ‬مؤسساتها‭ ‬وعلاقة‭ ‬أحيائها‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض‭ ‬والسلطة‭ ‬التي‭ ‬تحكمها‭ ‬وأثر‭ ‬المواصلات‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬عادات‭ ‬السكان،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬تقسيم‭ ‬العمل‭ ‬فيها،‭ ‬وعلاقة‭ ‬الفرد‭ ‬بالمدينة‭ ‬وعزلته‭ ‬عنها،‭ ‬ومشاكل‭ ‬نموها‭ ‬ومشكلات‭ ‬الجريمة‭ ‬والبطالة‭ ‬والفقر‭... ‬إلخ‭.‬

 

اتجاه‭ ‬جديد

لكن‭ ‬الاتجاه‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬حول‭ ‬المدينة‭ ‬يتعلق‭ ‬بحق‭ ‬الإنسان‭ ‬المواطن‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬والاستفادة‭ ‬والمشاركة‭ ‬على‭ ‬قدم‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬المدينة‭. ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬هنري‭ ‬لوفيفر‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬عام‭ ‬1968‭ ‬كتابًا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الحق‭ ‬في‭ ‬المدينة‮»‬،‭ ‬وفيه‭ ‬يتناول‭ ‬التفاوت‭ ‬بين‭ ‬السكان،‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬التكافؤ‭ ‬في‭ ‬الفرص‭ ‬وتملك‭ ‬أدوات‭ ‬السلطة‭ ‬والنفوذ‭ ‬والمال،‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تناقص‭ ‬جودة‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬فئة‭ ‬منهم‭ ‬دون‭ ‬غيرهم‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬أطلقه‭ ‬لوفيفر‭ ‬قبل‭ ‬خمسين‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬يومنا‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬عالمية‭ ‬تمخضت‭ ‬عن‭ ‬صياغة‭ ‬الميثاق‭ ‬العالمي‭ ‬للحق‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬وهو‭ ‬نتيجة‭ ‬جهود‭ ‬ومناقشات‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬سنوات‭ ‬مع‭ ‬مطلع‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة،‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬المنتدى‭ ‬الاجتماعي‭ ‬العالمي‭ ‬والمنتدى‭ ‬العالمي‭ ‬للحضر‭. ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬هنا‭ ‬المادتين‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية‭ ‬من‭ ‬بنود‭ ‬الميثاق‭:‬

1‭ - ‬لكل‭ ‬شخص‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬التمييز‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الجنس‭ ‬أو‭ ‬العمر‭ ‬أو‭ ‬الحالة‭ ‬الصحية‭ ‬أو‭ ‬الدخل‭ ‬أو‭ ‬الجنسية‭ ‬أو‭ ‬العرق‭ ‬أو‭ ‬أوضاع‭ ‬الهجرة‭ ‬أو‭ ‬التوجه‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬الديني‭ ‬أو‭ ‬الجنسي‭.‬

2‭ - ‬يعرف‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬باعتباره‭ ‬حق‭ ‬انتفاع‭ ‬عادل‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬الاستدامة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والمساواة‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬فهو‭ ‬حق‭ ‬جماعي‭ ‬لسكان‭ ‬المدن،‭ ‬خاصة‭ ‬الفئات‭ ‬المستضعفة‭ ‬والمهمشة‭.‬

وهكذا‭ ‬انتقل‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬المؤرخين‭ ‬الذين‭ ‬يحدثوننا‭ ‬عن‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬الذين‭ ‬يدرسونها‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬إلى‭ ‬المفكرين‭ ‬الناشطين‭ ‬الذين‭ ‬يشغلهم‭ ‬مستقبل‭ ‬المدينة‭ ‬‭.

العمارة‭ ‬في‭ ‬المغرب‭- (‬أرشيف‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭)‬

العمارة‭ ‬في‭ ‬سورية‭ - (‬أرشيف‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭)‬

العمارة‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ - (‬أرشيف‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭)‬

العمارة‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ - (‬أرشيف‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭)‬