نحن والزمن

نحن والزمن

كيف نتمثل الزمن وكيف نفكّك ألغامه؟ 
في روايته «البحث عن الزمن المفقود»، حاول مارسيل بروست أن يجعلنا نمسك بخيط رفيع يمكّننا من التحكم في الزمن باستعادته وتثبيته بالتذكر، أو عن طريق ما نقدمه من أعمال ترتبط به، وهو أمر يجعلنا نحنّط الزمن دون التحكم فيه، لأن الزمن هو الذي يتحكم فينا ويجرفنا كنهر هادر، ولا يمكن أن يعود تياره إلى الوراء لإعطاء الفرصة للغرقى حتى يستعيدوا أنفاسهم. لهذا يحق لنا أن نتساءل: ما علاقتنا بالزمن؟ وماذا فعلنا به؟ وماذا فعل بنا؟
  إنها أسئلة تدخل في تقرير مصائرنا، وتجعلنا نتوجس من انجراف تربة الزمن فنقضي بين طبقاتها دون أن يكون لنا صدىً يذكر. ولأننا جادون في هدره، فقد حوّلنا كل مستجَد طريف في عالم اليوم إلى أسلحة نستعملها ضد وجودنا الحضاري الذي ندفنه بالنهاية في مقبرة الزمن، كما جرى لأمم غابرة سادت ثم بادت لأسباب مخالفة لما نعيشه اليوم، فبقي زمانها مجمدًا في ثلاجة التاريخ، ونحن نحاول أن نذيبه بقصد تحديثه، ليعطينا صورة لما مضى. 
لكن، هل الزمن واقع مجسّد، أم هو مصطلح وهمي لا وجود له إلا في أذهاننا وتمثّلاتنا؟ ألا يمكن أن يكون ثابتًا ونحن الذين نبلى بفعل تحلّل خلايا أجسادنا؟
   لنتمعن في زمننا الذي نعيش فيه على وتيرة سريعة تطبع حياتنا بسبب طفرات تستجد باطّراد، فيمرّ بنا نهر الزمن دون أن نحسّ به، ونهدره أمام شاشات الحواسيب والهواتف الذكية، دون أن نعي أنه خاضع لحركة الكواكب وفق نظام فلكي دقيق، وكل المخلوقات عابرة وذاهبة إلى مصائرها مع تيار الزمن، وما نحن البشر سوى صنف من مخلوقات الله تلك.
علينا أن نستوعب دروس الزمن، ونعلم أنه أول مادة خام ينبغي استثمارها، وكما يقول سيرفانتيس: «يجب إعطاء وقت للوقت»، ذلك لأنّ الزمن هو رأس المال النفيس الذي يمكن أن نستثمره، لكننا نرى عكس ذلك في الوقت الحالي، خاصة مع تنامي المدّ الافتراضي الذي سلب العقول، فصار الزمن سلعة بخسة تضيع دون تقدير للعواقب التي تنتظرنا بسبب ذلك. 
  لقد أصبح الزمن ينسرب بين أصابعنا ونحن مستغرقون في تدوين التعليقات والتغريدات على شبكات التواصل الاجتماعي، بينما تتسابق الأمم المتقدمة والشعوب الواعية لاغتنام الدقائق والثواني، ولعل الاعتذار الرسمي الذي قدّمته إدارة «تسوكوبا إكسبريس» للشعب الياباني، بسبب انطلاق أحد قطاراتها مبكرًا بـ20 ثانية من المحطة، أبرز مثال على احترام هذه الدول للزمن وما يمثّله من قيمة عظمى. إنها دولة اليابان التي استطاعت أن تبني تقدّمها ارتكازًا على عنصرين ثمينين: الوقت والإنسان. فما الدرس الذي استفدناه نحن؟ هل نستهلك الوقت لمصلحتنا، أم أن الوقت يستهلكنا إلى أن نفنى؟
أرى أننا قد صرنا عبيدًا للشاشات، بل نبدو كحشرات ضعيفة لا حول لها ولا قوة، عالقة في الشبكة العنكبوتية التي تمتص يومًا بعد يوم أيامنا وشبابنا وهممنا، بل حتى طموحاتنا وأحلامنا. فمتى نستفيق من سبات هذا الإدمان الخبيث وننفض عنّا غبار الغفلة؟ حتمًا سيتحقق ذلك حين ندرك أهمية الزمن ■