صليحة أم كلثوم التونسية

صليحة  أم كلثوم التونسية

في محضر الملتقى الدولي الأول بعنوان «الزيتونة في الفكر والثقافة»، الذي نظمته جمعية تازمورت في الجزيرة التونسية الوديعة «جربة»، كان اللقاء.
اجتمعت كوكبة من الأساتذة والأستاذات المشتغلين بالتراث بمعناه الواسع، وجلّهم من المغرب العربي، لتقصي مدلولات هذه الشجرة المباركة. وعلى هامشه، دخلنا، نحن بقية المشاركين، وإياهم في لذة اكتشاف معارف وأحوال وخصوصيات مجتمعاتنا العربية المتعددة المشارب والجذور والحضارات.

 

برزت‭ ‬شيراز‭ ‬العبيدي‭ ‬بين‭ ‬الحضور،‭ ‬فنانة‭ ‬مصوّرة‭ ‬ملأت‭ ‬فضاءات‭ ‬التواصل‭ ‬المنسوجة‭ ‬فيما‭ ‬بيننا‭. ‬أخبرتني‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬ملتزمة‭ ‬قضايا‭ ‬نشر‭ ‬وصون‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬التونسي‭ ‬غناءً‭ ‬ورقصًا،‭ ‬وأن‭ ‬عرض‭ ‬الفرقة‭ ‬الأخير‭ ‬قدم‭ ‬‮«‬فوندو‭ ‬فراق‭ ‬غزالي‮»‬‭.‬

‮«‬فراق‭ ‬غزالي‮»‬‭ ‬أغنية‭ ‬سمعناها‭ ‬نحن‭ ‬المشرقيين‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بصوت‭ ‬الفنانة‭ ‬وردة‭ ‬من‭ ‬توزيع‭ ‬الموسيقار‭ ‬بليغ‭ ‬حمدي،‭ ‬ومطلعها‭: ‬

فراق‭ ‬الحياة‭ ‬يذبل‭ ‬الرّوح

ويا‭ ‬عين‭ ‬بالدمع‭ ‬نوحي‭ ‬

نبكي‭ ‬والقلب‭ ‬مجروح

من‭ ‬يوم‭ ‬فارقت‭ ‬روحي

العين‭ ‬تنحب‭ ‬والقلب‭ ‬مجروح

حتى‭ ‬لذيذ‭ ‬النوم‭ ‬ما‭ ‬يحلالي‭ ‬

بدا‭ ‬واضحًا،‭ ‬حينذاك،‭ ‬أن‭ ‬الأغنية‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الموسيقي‭ ‬المغاربي،‭ ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬أحسبها‭ ‬باللهجة‭ ‬الجزائرية،‭ ‬إذ‭ ‬أدتها‭ ‬الفنانة‭ ‬وردة‭ ‬في‭ ‬حفلة‭ ‬بالجزائر‭. ‬وقادني‭ ‬الفضول‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الأغنية‭ ‬وأصلها‭.‬

فوندو‭ ‬‮«‬فراق‭ ‬غزالي‮»‬،‭ ‬أغنية‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬التراثي‭ ‬والشعبي‭ ‬التونسي‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المقامات‭ ‬المتنوعة،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬الشاعر‭ ‬المكني‭ (‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬مكنين‭) ‬أحمد‭ ‬بالشاويش،‭ ‬نظمها‭ ‬حين‭ ‬أمره‭ ‬والده‭ ‬أن‭ ‬يطلّق‭ ‬زوجته‭ ‬فاطمة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحبها‭. ‬وأشهر‭ ‬من‭ ‬غناها‭ ‬هي‭ ‬صليحة،‭ ‬رائدة‭ ‬الطرب‭ ‬المغاربي‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭. ‬

وهنا‭ ‬نفتح‭ ‬قوسين،‭ ‬ونشرح‭ ‬للقـــارئ‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬الـ«فوندو‮»‬‭ ‬هو‭ ‬قالب‭ ‬غنائي‭ ‬تونسي،‭ ‬يقع‭ ‬بين‭ ‬الشعبي‭ ‬والتراثي‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المقام‭ ‬والإيقاع‭. ‬وأصل‭ ‬الكلمة‭ ‬الإيطالية‭ (‬ينعت‭ ‬بها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحجارة‭ ‬الكريمة‭) ‬دخلت‭ ‬إلى‭ ‬المحكية‭ ‬التونسية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬تطلق‭ ‬كتوصيف‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ثمين؛‭ ‬ثم‭ ‬انتشرت‭ ‬هذه‭ ‬المفردة‭ ‬لتشمل‭ ‬الأغاني‭ ‬التونسية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬معانيها‭ ‬وألحانها‭ ‬العمق‭ ‬والأصالة‭ ‬والجذور،‭ ‬وذلك‭ ‬وفق‭ ‬الصادق‭ ‬المرزوقي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الأغنية‭ ‬التونسية‮»‬‭. ‬

يعتمد‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬فوندو‮»‬‭ ‬على‭ ‬المقامات‭ ‬نفسها‭ ‬المستعملة‭ ‬في‭ ‬الأزجال‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يتماثل‭ ‬النص‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬الأغاني‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬العامية‭ ‬والفصحى،‭ ‬عبر‭ ‬توليفة‭ ‬من‭ ‬اللهجتين‭ ‬البدوية‭ ‬والحضرية،‭ ‬ينتقل‭ ‬القالب‭ ‬الشعري‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬الزجل‭ ‬والموشح‭.‬

 

سيرة‭ ‬فنانة

أما‭ ‬صليحة‭ ‬فقد‭ ‬تعرفت‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الطابع‭ ‬البريدي،‭ ‬وكانت‭ ‬الشخصية‭ ‬النسائية‭ ‬الوحيدة‭ ‬المكرمة‭ ‬‮«‬طوابعيًّا‮»‬‭ ‬من‭ ‬اللواتي‭ ‬عشن‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بمجموعة‭ ‬الطوابع‭ ‬التونسية‭ ‬الصادرة‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬2016‭.‬

وسنعرض‭ ‬للقارئ‭ ‬العــربي‭ ‬سيرة‭ ‬فنــانة‭ ‬تونسية‭ ‬رائدة‭ ‬كُرمت‭ ‬جلّ‭ ‬تكريم‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬والصحافة‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬ديسمبر‭ ‬2018،‭ ‬بمناسبة‭ ‬مرور‭ ‬ستين‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬وفاتها‭. ‬وأحيت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الفرق‭ ‬الموسيقية‭ ‬ذكراها،‭ ‬باستعادة‭ ‬أغانيها‭ ‬التراثية‭ ‬وبعض‭ ‬منها‭ ‬كان‭ ‬بتوزيع‭ ‬عصـــري‭. ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬المهرجان‭ ‬الذي‭ ‬أقيم‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬بمناسبة‭ ‬الذكرى‭ ‬المئوية‭ ‬لميلادها‭ ‬وحمل‭ ‬اسمها،‭ ‬وآخر‭ ‬بمناسبة‭ ‬مرور‭ ‬50‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬وفاتها‭.‬

تضمنت‭ ‬هذه‭ ‬المهرجانات‭ ‬أمسيات‭ ‬موسيقية‭ ‬تتغنى‭ ‬بأعمالها‭ ‬ومعارض‭ ‬وثائقية‭ ‬وندوات،‭ ‬كما‭ ‬تمت‭ ‬تسمية‭ ‬أحد‭ ‬شوارع‭ ‬العاصمة‭ ‬باسمها‭. ‬ونجدها‭ ‬مناسبة‭ ‬قيّمة‭ ‬لأن‭ ‬تُكرم‭ ‬صليحة،‭ (‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬تونس‭)‬،‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬العربية‭ ‬عبر‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أعرق‭ ‬المطبوعات،‭ ‬هي‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭.‬

تعدّ‭ ‬صليحة‭ ‬سيّدة‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬تونــس،‭ ‬وقد‭ ‬اقترن‭ ‬اسمها‭ ‬بالإذاعة‭ ‬الوطنيّة‭ ‬والراشدية،‭ ‬أو‭ ‬المعهد‭ ‬الرشدي،‭ ‬وهو‭ ‬المؤسسة‭ ‬الثقافــية‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬من‭ ‬موقعها‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬سبيــــل‭ ‬المحافظـــة‭ ‬على‭ ‬مقوّمات‭ ‬الشخصيّة‭ ‬الوطنيّة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أهدافها‭ ‬إنقاذ‭ ‬التراث‭ ‬الموسيقي‭ ‬التّونسي‭ ‬من‭ ‬موجات‭ ‬الابتذال‭ ‬والهجنة‭ ‬والعجمة‭.‬

ولدت‭ ‬صليحة،‭ ‬واسمها‭ ‬صلّوحة‭ ‬بنت‭ ‬إبراهيم‭ ‬الحنّاشيّة‭ ‬عام‭ ‬1914‭ ‬بدشرة‭ ‬نبّر‭ ‬من‭ ‬القرى‭ ‬الجبلية‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬الكاف‭ ‬المتاخمة‭ ‬للحدود‭ ‬التونسية‭ - ‬الجزائرية،‭ ‬وكان‭ ‬والدها‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬جزائري‭. ‬عاشت‭ ‬طفولة‭ ‬قاسية؛‭ ‬فكانت‭ ‬فقيرة‭ ‬محرومة،‭ ‬وعملت‭ ‬بخدمة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬البيوت‭ ‬إثر‭ ‬انتقال‭ ‬العائلة‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬العاصمة‭ ‬في‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬

 

اكتشاف‭ ‬صليحة

في‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬اكتشفها‭ ‬مثقفو‭ ‬تونس‭ ‬وأطلقوا‭ ‬حنجرتها‭ ‬الذهبية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رسوا‭ ‬وإياها‭ ‬على‭ ‬الـ«فوندو‮»‬،‭ ‬وهو‭ - ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ - ‬قالب‭ ‬تراثي‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الغناء‭ ‬البدوي‭ ‬والحضري‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬النص‭ ‬والمقامات‭ ‬والإيقاعات‭.‬

فغنت‭ ‬‮«‬فراق‭ ‬غزالي‮»‬،‭ ‬و‮«‬يا‭ ‬خيل‭ ‬سالم‮»‬،‭ ‬و«شوشانة‮»‬،‭ ‬و«لميت‭ ‬لم‭ ‬المخايل‮»‬‭ ‬وأبدعت‭ ‬فيها‭. ‬ولدوافع‭ ‬تاريخية‭ ‬واجتماعية‭ ‬تلقف‭ ‬‮«‬السمّيعة‮»‬‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬فوندو‮»‬‭ ‬بحماس‭ ‬وإعجاب‭. ‬فمع‭ ‬حركات‭ ‬النزوح‭ ‬الكثيفة‭ ‬إلى‭ ‬المدينة،‭ ‬كان‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬فوندو‮»‬‭ ‬عنوانًا‭ ‬لتعايش‭ ‬الموسيقى‭ ‬المدنية‭ / ‬الحضرية‭ ‬بالشعبية،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬البدوي‭ ‬يتصالح‭ ‬مع‭ ‬المدينة‭ ‬سمعيًّا،‭ ‬ويدخل‭ ‬مساحة‭ ‬الحيّز‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬رفضه‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر،‭ ‬لاعتبارات‭ ‬ثقافية‭ ‬واجتماعية،‭ ‬وذلك‭ ‬بحسب‭ ‬محمد‭ ‬قطاط‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬عايشة‭ ‬غرابي‭ ‬فوصفتها‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬صالحت‭ ‬الشمال‭ ‬بالجنوب‭ ‬والشرق‭ ‬بالغرب‮»‬‭.‬

تمكنت‭ ‬صليحة،‭ ‬بفضل‭ ‬موهبتها‭ ‬الفنية‭ ‬المتميزة،‭ ‬من‭ ‬النجاح‭ ‬خلال‭ ‬عقدي‭ ‬الأربعينيات‭ ‬والخمسينيات،‭ ‬لتصبح‭ ‬مطربة‭ ‬تونس‭ ‬الأولى‭.‬

كان‭ ‬سرّ‭ ‬نجاحها،‭ ‬وفق‭ ‬معظم‭ ‬المراجع،‭ ‬هو‭ ‬محافظتها‭ ‬على‭ ‬المسحة‭ ‬البدوية‭ ‬في‭ ‬صوتها‭ ‬وسلامة‭ ‬مخارج‭ ‬الحروف،‭ ‬والرعاية‭ ‬اللافتة‭ ‬التي‭ ‬حظيت‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المؤلفين‭ ‬والملحنين،‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬العربي‭ ‬الكبادي،‭ ‬وأحمد‭ ‬خير‭ ‬الدين،‭ ‬وجلال‭ ‬الدين‭ ‬النقاش،‭ ‬ومحمد‭ ‬المرزوقي،‭ ‬وخميس‭ ‬الترنان،‭ ‬ومحمد‭ ‬التريكي‭. 

كانت‭ ‬تونس‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬تعيش‭ ‬نهضة‭ ‬ثقافية‭ ‬مهّدت‭ ‬الطريق‭ ‬لظهور‭ ‬ثقافة‭ ‬حديثة‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات‭.‬

 

تحولات‭ ‬عديدة

كان‭ ‬الطاهر‭ ‬الحداد‭ (‬1899‭ - ‬1935‭) ‬قد‭ ‬أصدر‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬امرأتنا‭ ‬في‭ ‬الشريعة‭ ‬والمجتمع‮»‬،‭ ‬مطالبًا‭ ‬فيه‭ ‬بضرورة‭ ‬تحرير‭ ‬المرأة‭ ‬التونسية‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬ماضٍ‭ ‬مقيت‭. ‬

كما‭ ‬تميزت‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬وما‭ ‬تلاها‭ ‬بظهور‭ ‬تحولات‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬انعكس‭ ‬إيجابيًا‭ ‬على‭ ‬المناخ‭ ‬الثقافي‭ ‬والفني‭ ‬الذي‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أوجهه‭ ‬بالمعهد‭ ‬الرشدي‭.‬

فنانة‭ ‬ارتسمت‭ ‬حياتها‭ ‬بمآسٍ‭ ‬تراجيدية‭ ‬لغياب‭ ‬الاستقرار‭ ‬العاطفي‭ ‬والأسري،‭ ‬لكنها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مسيرة‭ ‬فنية‭ ‬قاربت‭ ‬نحو‭ ‬سبعة‭ ‬وعشرين‭ ‬عامًا،‭ ‬تركت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأغاني‭ ‬قاربت‭ ‬الستين،‭ ‬أقل‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬فيها‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬زاخرة‭ ‬بالتنوع‭ ‬والثراء‭ ‬ورهافة‭ ‬الدلالة‭.‬

لكن‭ ‬السؤال‭ ‬البديهي‭ ‬الذي‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الأذهان؛‭ ‬هو‭: ‬لماذا‭ ‬انحصرت‭ ‬نجوميتها‭ ‬بالمغرب‭ ‬العربي‭ ‬فقط؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬قصور‭ ‬في‭ ‬تعميم‭ ‬أغاني‭ ‬‮«‬الرشدية‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬المدرسة‭ ‬الغنائية‭ ‬التونسية‭ ‬الملتزمة‭ ‬لأسباب‭ ‬شتى،‭ ‬ومنها‭ ‬امتدادات‭ ‬الصوت‭ ‬القصيرة‭ ‬التي‭ ‬ميّزت‭ ‬جماليات‭ ‬الأداء‭ ‬التونسي‭ ‬عن‭ ‬المشرقي،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬المصري؟

‭ ‬عبّرت‭ ‬صليحة‭ ‬بصوتها‭ ‬عن‭ ‬تحوّل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الغناء‭ ‬التونسي،‭ ‬لكن‭ ‬المشروع‭ ‬الذي‭ ‬طمح‭ ‬إليه‭ ‬الراشديون‭ ‬انحصر‭ ‬تأثيره‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬والمغرب‭ ‬العربي،‭ ‬ولم‭ ‬يكتب‭ ‬له‭ ‬الانتشار‭ ‬خارجًا،‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬العمالقة‭ ‬المصريين،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬قول‭ ‬هيكل‭ ‬الحزقي‭. ‬

ولعل‭ ‬الأسباب‭ ‬عديدة،‭ ‬ومنها‭ ‬شخصية‭ ‬صليحة‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬مشروع‭ ‬مؤسساتي‭ ‬مقولب؛‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬مزاجها‭ ‬ونمط‭ ‬عيشها‭ ‬وموتها‭ ‬المبكر‭. ‬ولا‭ ‬يمكــــن‭ ‬إغفال‭ ‬مقومات‭ ‬تقنية‭ ‬مثل‭ ‬قنوات‭ ‬الإنتاج‭ ‬والتوزيع‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬الكفيلة‭ ‬برواج‭ ‬الأغنية‭ ‬التونسية‭ ‬وانتشارها‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‭. ‬

إن‭ ‬تكريم‭ ‬صليحة،‭ ‬بطلة‭ ‬المشروع‭ ‬الموسيقي‭ ‬التونســي،‭ ‬هو‭ ‬تكريــــم‭ ‬للأغنية‭ ‬التونســــية‭ ‬التراثية‭ ‬والشعبية‭ ‬على‭ ‬حدٍ‭ ‬سواء؛‭ ‬لكنه‭ ‬يتخطى‭ ‬الحركة‭ ‬الفنية‭ ‬وتحولاتها،‭ ‬التي‭ ‬عبّرت‭ ‬عنها‭ ‬صليحة‭ ‬بصوتها،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬الاستنهاضي‭ ‬الذي‭ ‬شهد‭ ‬تقلبات‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية،‭ ‬ليشمل‭ ‬مجتمعًا‭ ‬وقوىً‭ ‬حية‭ ‬وفّرت‭ ‬الأرضية‭ ‬الصلبة‭ ‬لتونس‭ ‬الحديثة‭. ‬

تونس‭ ‬المجتمع‭ ‬والناس‭ ‬والتاريخ‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬ويعيشون‭ ‬عهود‭ ‬التنوير‭ ‬ثقافة‭ ‬وتراثًا‭ ‬شعبيًّا‭ ‬وآخر‭ ‬قوليًّا‭ ‬شاجيًا‭ ‬ومذكرًا‭ ‬بحالات‭ ‬الزمان‭ ‬وتبدلاتها‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬‭.