لودو دي فارتيما مغامر أم جاسوس؟ أول أوربي في بيت الله الحرام

لودو دي فارتيما مغامر أم جاسوس؟ أول أوربي في بيت الله الحرام

يعد لويس فرتمانوس، أو لودو فيكو دي فارتيما، من رواد الحضارة الغربيين إلى الشرق، ويعتقد أنه أول أوربي يزور البقاع المقدسة في الجزيرة العربية.
ولد بمدينة بولونيا الإيطالية، تلك المدينة التي خضعت قرونًا لحكم ألبانيا، وأنشئت بها أول جامعة إيطالية (ق 11)، كما أُسس بها أول كرسي للدراسات الشرقية في تاريخ إيطاليا، تنفيذًا لقرار مجمع فيينا الكنسي (1312) برئاسة البابا كلمنص الخامس، ومنها أخذ لقب «البولوني»، الأمر الذي أشكل على عدد من الباحثين الذين عدّوه من بولونيا / بولندا.

عرف دي فارتيما بحبه للمعرفة، وشغفه بالمغامرة، ومن البندقية وفي أحد أيام شهر ديسمبر من عام 1502 انطلق في رحلة نحو الشرق الإسلامي، رحلة كان يرى فيها الأوربيون آنذاك ذهابًا للمجهول، أو ضربًا من الجنون، وفي أحسن الأحوال مغامرة غير مأمونة الجوانب والعواقب. 
حاول دي فارتيما أن يوضح الدوافع والأسباب التي حدت به إلى ركوب الصعاب وشد الرحال نحو بلاد العرب أو المور، كما كان يُطلق عليهم.
فكان أول ما سطره في أول صفحة من مذكراته «إن سألني أي إنسان عن سبب رحلتي هذه، فمن المؤكد أنه لا يوجد سبب أفضل من القول إن رغبتي المتقدة في المعرفة التي دفعت الكثيرين من الناس لرؤية العالم ومعجزات الخالق.
وبقدر ما هناك من الأماكن المعروفة التي تمت زيارتها ووصفت وصفًا كاملًا، فإنني عزمت على زيارة ووصف الأماكن التي ليست معروفة معرفة كافية».
عبارات تعطي انطباعًا عن تشوّق دي فارتيما إلى الاكتشاف والبحث والمعرفة، لكن حقيقة دواعي الرحلة هي استعمارية تجسسية لمصلحة التاج البرتغالي».
ويؤكد البحاثة عبدالرحمن الشيخ أن دي فارتيما «كان مكلفًا بوصف عادات الشعوب التي يمر بها في طريقه للهند، وفي الهند نفسها، وكتابة تقارير عن جيوشها، خاصة ما يتعلق بالمدافع، وحصر منتجاتها الزراعية والصناعية، لاسيما ذات القيمة في التجارة العالمية، وباختصار، فإن مهمته كانت التجسس الشامل على كل الشعوب والجماعات التي يمر بها، خصوصًا الإسلامية منها». 
ومما يعزز هذا القول أن دي فارتيما حين رجوعه لم يعد رأسًا إلى روما، بل إلى لشبونة، حيث حظي بلقاء ملك البرتغال الذي أنعم عليه بلقب فارس.

طموح البرتغاليين
لا ننسى أن البرتغال في هذه الفترة كانت تطمح - خصوصًا بعد اكتشاف العالم الجديد - أن تصبح قوة تجارية واستعمارية لا يستهان بها، وراودها أمل السيطرة على شرايين تجارة الهند مع شبه الجزيرة العربية، وهو ما سعت إلى تحقيقه عبر أسطول مكون من 20 سفينة أرسلته تحت قيادة فاسكو دي جاما في
10/3/ 1502 إلى المحيط الهندي من أجل سد مدخل البحر الأحمر في وجه تجارة العرب مع الهند.
وكان لا بدّ للبرتغال من المبعوثين والرحالة والجواسيس لاكتشاف المنطقة وإعداد الأبحاث والدراسات والخرائط اللازمة، ومن ضمن هؤلاء بيتري كوفيلا، الذي أرسله جان (ملك البرتغال) سنة 1487 لبحث إمكانية السفر إلى الهند عن طريق البحر الأحمر.
وبفضل هذه التقارير تسنّى للبرتغال أن تسيطر على البحار والسواحل المحيطة بجزيرة العرب في القرن الـ 16، وظلت هذه السيطرة متواصلة حتى بداية القرن
الـ 17، وشيد البرتغاليون حصونًا في كل من «هرمز» والبحرين وعمان لمراقبة حركة النقل التجارية في الخليج العربي، وفرضوا الرقابة على مدخل البحر، واتخذوا مراكز لهم في مسقط وصحار وسومطرة، إلا أنهم لم يبذلوا أي جهد للتوغل داخل الجزيرة العربية.

في بلد الله الحرام
انطلق دي فارتيما - كما تمت الإشارة -
 من البندقية نحو الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة التي مكث بها شهورًا، ليعود من جديد إلى الإسكندرية، بغية متابعة رحلته بحرًا نحو بيروت، ثم طرابلس وحلب ودمشق، ودام مقامه بها حوالي سنة، تعلّم خلالها اللغة العربية، بعدها قرر التوجه نحو الديار المقدسة، فادعى الإسلام، وتسمى بـ «الشيخ يونس المصري»، والتحق بإحدى القوافل المتجهة من الشام نحو الحجاز، وغادرت القافلة دمشق في
3/4/ 1503.
ويقول دي فارتيما إنها تكونت من 35 ألف جمل و40 ألف رجل، وعدد لا يستهان به من الخيول، وتعرف إلى ضابط للجند المرافقين للقافلة، وكان حديث عهد بالإسلام.
وطبعًا استغل دي فارتيما الوضع لتحقيق مآربه التجسسية «نظرًا لأنني كنت مشغوفًا بالاطلاع على المناظر والأوضاع المختلفة، ولم أكن أعرف ما هو السبيل إلى ذلك، لذا كوّنت صداقة عميقة مع القائد المملوكي، لكي يلبسني لباس المماليك، ويعطيني حصانًا جيدًا، ويجعلني في صحبة المماليك الآخرين».
ومرت القافلة في مسيرتها بحوران وقبائل بن شاكر وتبوك ومدائن صالح، وتعرضت لمتاعب كبيرة، وواجهت معركة ضارية مع قطّاع الطرق، مما جعلها تواصل سيرها باستمرار دون توقّف، لتصل بعد أسبوعين بدلًا من الأربعين يومًا المعتادة إلى مدينة الرسول [، وفي 18/ 5/ 1503 حلّت القافلة، بعد رحلة مضنية، بمكة المكرمة.

سجين في عدن
بعد انتهاء موسم الحج، انفلت دي فارتيما هاربًا من القافلة، بعد أن اتفق مع رئيس الركب مقابل التعاون معه في عملية تهريب، واختبأ في دار أحد المماليك، تعرّف عليه بأنه مسيحي، إلى أن غادرت القافلة، فاتجه إلى جدة، ومنها استقل سفينة متجهة إلى عدن.
وأثناء الرحلة، وعندما علم ملّاحو السفينة بأن زادهم على وشك النفاد، هاجموا قرية جيزان ونهبوها، وعند وصوله إلى عدن ألقت السلطة اليمنية القبض عليه بتهمة التجسس، وسيق للسجن.
وعن هذا الموقف كتب دي فارتيما «أخذني المسلمون ووضعوا القيد في قدمي، وكان يأتيني رجل يصيح عليّ».
وأثناء وجوده في السجن، وصل إلى عدن حوالي 60 مسلمًا هربوا سباحة، بعد أن وقعت سفنهم في أيدي البرتغاليين، وهجموا على قصر السلطان يريدون الفتك بالسجين، لكن الحارس أنقذه بإغلاق الباب في وجه المهاجمين، وقد نقل دي فارتيما بعد أن قضى في سجن عدن شهرين إلى الروضة شمال صنعاء، غير أنه ادعى الجنون، وأتقن دور المجنون إلى درجة أنه استطاع خداع عالمين انتُدبا لتقييم حالته، فأطلق سراحه.
وتابع دي فارتيما جولته بمدن ومناطق اليمن (لاهج - وحيس - والضمد - وحصنا المقارنة - وريمة - وتعز - وزبيد - وصنعاء)، ووضع عنها تقريرًا مستفيضًا ومفصلًا، حتى أنه اعتُبر أول أوربي نزل بلاد اليمن، وأول من نشر الأخبار عن مدنها وسكانها ومزروعاتها ومناخها.

الحاج يونس الدرويش
بعد عدة أشهر قضاها في عدن، غادر دي فارتيما عدن في مارس 1504، وكانت وجهته هذه المرة إيران، ومنها إلى الهند.
وفي الهند لم يجد صعوبة في تحقيق مراميه والوصول إلى مبتغاه، وساعده - عن قصد أو دونه - فارسي كان قد تعرّف عليه بمكة.
يقول البحاثة عبدالرحمن الشيخ: «لقد قام هذا الفارس واسمه خوجة ذو النور بالدور نفسه الذي قام بها ابن ماجد الملاح بالنسبة إلى فاسكو دي جاما، فإذا كان بن ماجد قد دلّ دي جاما على الطريق إلى الهند، دون أن يدري عواقب ذلك، فإن ذا النور قد قدّم خدمات هائلة لدي فارتيما، فهو الذي أتاح له التغلغل في المجتمعات الإسلامية بالهند، وقدمه مرة على أنه مملوك حاج، ومرة على أنه الحاج يونس المصري، بل وقدّمه أحيانًا على أنه رجل صوفي أو درويش، وجعل الناس يقبّلون يديه، وأحيانًا ركبتيه التماسًا للبركة».
وبفضل خوجة ذو النور، تجول دي فارتيما في الموانئ والمعسكرات، ورصد الاستعدادات العسكرية، وقدّم كل ذلك - كما ذكر هو في رحلته هذه - لنائب الملك البرتغالي في الهند، «ابل إنه شارك وخاض الحرب بجانب البرتغاليين في حصن سومطرة ضد الهنود».
وبعد مغامراته في جزر الهند الشرقية، ارتحل دي فارتيما إلى الحبشة، ثم موزمبيق، ومنها رأسًا إلى ميناء لشبونة، فاستقبله ملك البرتغال عام 1508، وتقديرًا لخدماته واعترافًا وامتنانًا لجميله، مُنح الوسام الملكي.
ويكتب دي فارتيما «ولأن الملك لم يكن في لشبونة، فقد ذهبت للقائه في مدينة ألمادا المقابلة للشبونة، وعندما وصلت ذهبت إليه لتقبيل يد عظمته، الذي أحاطني برعاية منه، واستبقاني في بلاطه عدة أيام، ليسمع منّي عن أمور الهند، وبعد بضعة أيام أظهرت له براءة (وثيقة) بالفروسية التي منحني إياها نائبه في الهند، متوسلًا إليه أن يعتمدها.
وعندما رآها ذكر لي أنه يسعده ذلك، وتناول مني الوثيقة التي خطّت على الجلد الرقيق، ووقّعها بيده، ووضع عليها ختمه، وتم تسجيلها، ومن ثم استأذنت عظمته في الرحيل ووصلت إلى روما».

أول رحلة
في روما قدّم دي فارتيما نسخة من رحلته إلى دوقة إيطاليا، وهي مقسمة إلى ثمانية أسفار، السفر الأول ملاحظات عابرة عن القاهرة وبيروت وطرابلس وحلب وحماة ودمشق. 
وكان السفر الثاني عن بلاد العرب الصحراوية، والثالث عن اليمن، والرابع عن فارس، وتناولت الأسفار الخامس والسادس والسابع بلاد الهند، أما الثامن والأخير فكان عن سواحل شرق إفريقيا.
وقد طبع الكتاب في روما سنة 1510، وترجم إلى اللاتينية وإلى عدة لغات أوربية أخرى، وكانت أول رحلة إلى الشرق يتعرف عليها الأوربيون، وبقيت متداولة قرنين من الزمان قبل اطلاعهم على رحلة جوزيف بيتس. 
وقد تضاربت آراء الباحثين حول مدى دقة تدوينات دي فارتيما وصحتها، والواقع أنه سجل كل ما سقطت عليه عيناه أو انتهى إلى مسامعه في كل الأمصار التي وطئت قدماه ثراها، وإن لم يكن ممنهجًا في تدويناته إلا أنه كان في أغلب الأحيان دقيقًا فيما يصف، وإن كان في بعض المرات يسرح به الخيال، فيشطح بقلمه. 
وطبعًا - وكما عوّدنا الغربيون في كل كتاباتهم - فإن دي فارتيما لم يشذ عن الطريق بإجحافه في حق المسلمين والافتئات والافتراء عليهم، وإلصاق كل ما هو شائن بهم، واصفًا إياهم بالرعاع، ومسقطًا ثقافته على تاريخهم.
والمسلمون في نظره مماليك (أي المسيحيون المتحولون إلى الإسلام)، ومورس (أي العرب)، وهذه التسمية - كما لا يخفى على أحد - أطلقت على العرب الذين طُردوا من الأندلس، وعلى المغاربة عمومًا، وهذا يدل على النعرة الصليبية المتجذرة في نفسيته والمتحكمة في وعيه، خصوصًا أن الرحلة تمت بعد سنوات معدودة من سقوط غرناطة (1492)، وتشريد المسلمين وطردهم من شبه الجزيرة الأيبيرية. 
غير أنه وصف الحرمين الشريفين والطريق إليهما بدقّة متناهية، ونفى ما كان شائعًا من أن جثمان الرسول الطاهر، [، كان معلقًا في الهواء فوق مكة، وقدّم أول مخطط للكعبة الشريفة، ووصف بها شعائر الحج، وبذلك تكون أول محاولة يقوم بها أوربي لوصف شعائر الحج يقدّمها للأوربيين الذين كانوا يجهلون عن الإسلام كل شيء ■