زكي رستم... الشرير الطيب
عادة ما يسير التاريخ الرسمي للفنان إلى جانب تاريخ شخصي، تتبّدل فيه ظروف تحتاج إلى شجاعة، كان يملك منها زكي محرّم محمود رستم الكثير، شجاعة لم تتجلَّ فقط في مواجهة رفض عائلته وأمه التي أصيبت بالشلل حزنًا عليه حتى ماتت، بل أيضًا في مواجهة مجتمع كان يرتاب أساسًا بالفنان، ومهنته التي يراها من منظورة ساقطة أخلاقياً ودينيًا واجتماعيًا، وينظر إلى “المشخصاتي” باستهانة.
بعد سبعة وعشرين عامًا من ولادته، كان أول ظهور له في الفيلم الصامت «زينب» عام 1930، عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب محمد حسين هيكل، إخراج محمد كريم، وإنتاج يوسف وهبي، دوره ثريّ يُدعى حسن، تزوج من زينب (بهيجة حافظ) التي قبلت به تحت ضغط من أهلها، كي يمنعوها من الزواج بالفلاح الأجير إبراهيم (سراج منير)، ليتكرر الدور لابن الحلمية، حفيد اللواء محمود رستم باشا، في أول فيلم ناطق «الوردة البيضاء» عام 1932، تأليف وإخراج محمد كريم، الذي يتزوج فيه أيضًا شفيق بك (زكي رستم) من رجاء (سميرة خلوصي) رغمًا عن حبها لمحمد أفندي (محمد عبدالوهاب)، ثم يخرج زكي رستم من ثوب الباشا في ثالث أفلامه عام 1932، ويرتدي في فيلم الضحايا، للمخرج إبراهيم لاما، ثوب زعيم عصابة المخدرات، يتزوج من بهيجة (بهيجة حافظ)، التي لا تعلم شيئًا عن تجارته غير المشروعة، إلى أن ينكشف ويقع بقبضة الشرطة في النهاية.
البداية
حصل زكي رستم على البكالوريا عام 1920، وضد رغبة والده، لم يلتحق بكلية الحقوق، ثم تمرّد على التقاليد وانضم لفرقة جورج أبيض عن طريق صديقه عبدالوارث عسر، ثم التحق بفرقة عزيز عيد، لينضم بعدها خلال أشهر قليلة إلى فرقة اتحاد الممثلين، وهي أول فرقة تحدد لها الحكومة إعانة شهرية ثابتة، ثم تركها إلى الفرقة القومية برئاسة خليل مطران، وبقي فيها رستم 10 أعوام.
منذ البداية، لم يُعنَ زكي رستم بأن يصنع صورة زائفة من بريق ووهج، حيث كان من القِلّة التي لم تضيّع شخصيتها في محاولة تقليد مظهر الممثلين الأجانب وأدائهم في السينما العالمية خلال ذلك الوقت، كما فعل البعض فأصبحوا مؤدّين دون طعم.
لغم مستور في «نظرة»
التناقض صفة جوهرية في الفنان، إنها مرادفة مبطنة للتحول والتقمص في الوقت ذاته، وكان زكي رستم تجسيدًا حيًّا لهذه الصفة الجوهرية، في فيلم «أنا وبناتي» عام 1961، تأليف وإخراج حسين حلمي، أدى رستم دور أرمل يعيش مع بناته الأربع، تربيته لهن صارمة حدّ الهوس، في مشهد يجلس محمود عبدالفتاح (زكي رستم) وهو يمضغ حبة العنب بفخر، ويهز رأسه على صوت محاسن (فايزة أحمد) وهي تغني «بيت العز يا بيتنا»، وتردد أخواتها الثلاث ميساء (ناهد شريف)، وميرفت (زهرة العلا)، ومنى (آمال فريد)، فرحين بمكافأة نهاية خدمة الأب، وحين «تتسلطن» محاسن وتضع كفّها اليمنى على خدها كمحترفي الغناء، تجرح نظرة الأب الشاشة، نظرة ليست كافية فحسب لمحاسن كي تلتزم الأدب، بل للمشاهد أيضًا كي لا ينسى في لحظة مرح أنه أمام أب صارم مُحافظ، ثم تعود ابتسامة الرضا على وجهه مرة أخرى في جزء من لحظة مرعبة، وهو يصفّق ويغني، ليعلم المتلقي أنه في حضرة ممثلٍ كل شيء فيه هادر، من نظرة العين إلى دقة القدم.
رائد مدرسة الاندماج
في فيلم الفتوّة عام 1957، تأليف وتمثيل فريد شوقي، وإخراج صلاح أبوسيف، أمر المعلم أبوزيد (زكي رستم) بقتل هريدي (فريد شوقي)، فتم غلق باب ثلاجة الفاكهة عليه، بعد انتهاء تصوير المشهد استعد المخرج أبوسيف لتصوير المشهد التالي، وكان يجلس بجواره فريد شوقي في ملابس شخصية هريدي، لم يستطع زكي رستم الاندماج في الدور وهو يرى هريدي جالسًا أمامه، فصرخ منفعلًا بجديّة «هريدي لازم يكون في التلاجة، هو قاعد هنا ليه؟»، كان يذوب في الشخصية إلى درجة أن يصفق له كل الموجودين بعد انتهاء المشهد، زملاؤه والعاملون في البلاتوه، مستوى فريد من الاندماج كانت تخشاه فاتن حمامة قائلة «يندمج لدرجة إنه لما يزّقني كنت ألاقي نفسي طايرة في الهوا».
أدرك زكي رستم - ضمن قِلّة - أن الفنان لا يصير فنانًا ما لم يستطع إغاظة المشاهد، ويزعجه، ويفك عقال روحه كي يحطم الحاجز بين كذب الأداء وحقيقته، يتقمص الدور الذي يمنح أداءه ما هو أهم وأخطر من التوجه إلى عقل خارجي، لا يتعدى الظاهر والرمز، إلى التوجه للحواس وليس العقل فقط.
أشهر «إفّيهات» الشر
أحد المكاسب الرئيسة للفنان هو حب الجمهور، ولا شك في أن معايير الحب تختلف حسب الزمن أو المُشاهد المستهدف، لذلك كان وجه زكي رستم مخيفًا للبعض، بسبب اتساع عينيه وملامحه الغليظة للوهلة الأولى، لكن في مرحلة أخرى يرى الناظر أن في وجهه بهاء خالدًا، وقساوة محيّرة، ولينًا يليق بمصاحبة هذا الوجه المحفور، الذي لا يخلو من جاذبية النبلاء، فتحت صلابته كانت الليونة المخفية، وخلف صوته العميق قدرة على تذوّق الكوميديا في أقسى المشاهد، لا ننسى الجملة الشهيرة من فيلم «رصيف نمرة خمسة» عام 1960 «عرفتش مين غريمك؟»، التي أصبحت من العلامات المسجلة لزكي رستم بجوار الجملة الخالدة في فيلم نهر الحب في العام نفسه «لازم تخجلي من نفسك يا نوال»، حتى الحرف أعطى له زكي رستم خلودًا بتفخيم فعل الأمر في «صدّقيني يا نوال».
في فيلم «خاتم سليمان» عام 1947، تأليف السيد زيادة وإخراج حسن رمزي، أدى رستم دور الإنسان المتعدد في واحد، الذي ينزع إلى الخير والشر، فحين وجد المعلم بيومي (زكي رستم) خاتم سليمان، حبس ليلى (ليلى مراد) في مكان مسحور، ورتّب جريمة لحبيبها محمود لطفي (يحيى شاهين) ليُدخله السجن، بعدما تحوّل من المعلم بيومي إلى حسني باشا سعيد، وحين ظهر الخير الكامن فيه بعد إصابته بالمرض، وعجز الجنّي عن شفائه، هرع حسني باشا إلى إنقاذ محمود وليلى، لينتهي الفيلم نهايته السعيدة للجميع وقتها، ويأتي بعد ذلك هدوء في الأداء، هدوء متعمّد كي يشعر المشاهد بالراحة، فكان فيلم «ياسمين» عام 1950، تأليف أبو السعود الإبياري وإخراج وتمثيل أنور وجدي، يقوم رستم بدور الجد «أبو سعاد»، الحنون الطيب، الذي سمح لحفيدته ياسمين (فيروز) بتهذيب شاربه برضا تام، شخصيته المرحة تلاها في العام نفسه بدور الموظف البسيط المطحون في فيلم «معلهش يا زهر»، تأليف يوسف عيسى وإخراج هنري بركات، الموظف صابر أفندي البسيط، الذي يرى في الوظيفة أمانًا ماديًّا، وبسبب ذلك يرفض زواج ابنته نجفة (شادية) من ابن البقال حسني (كارم محمود)، ليفكر في تزويجها من زميله في العمل الذي قدّم له طلبًا بالزواج على ورقة دمغة، وفي الوقت نفسه يكتشف معرفة قديمة بين زوجته اعتدال (ميمي شكيب) ومديره في العمل زهير بك (سراج منير)، لتتصاعد الأحداث وتنتهي بزواج الأحبة، واستقرار المعيشة لصابر أفندي وعائلته.
آخر الطريق
أن تتشابه مسميات بعض أدوار زكي رستم كشرير أو طيب، لا يعني أنه ينتمي إلى التصنيف ذاته، بل يعني أنه يمتلك أداء روحٍ أخرى، فهو لا يهدف في اختياره إلى أداء الخير أو الشر، بل إلى تحقيق قيمة جمالية، يأسر بها المتلقي كبرهان على واقعية الخيال، الذي أخلص له، فتعامل مع الحياة الفنية بواقعية شديدة، قَبِل بالمخاطرة فعاش وحيدًا، وبذل في سبيل تحقيق حلمه ثمنًا غير معتاد، لم يكن له أصدقاء سوى سليمان نجيب، تجنّب الشلليات الفنية ليكون ممثلًا، انهمك في شخوصه بكل جوارحه، عازفًا عن أن يكون شهيرًا أو يشغله أي من تلك المشهيات، فأتته الشهرة، لم يتودد لواهبي العطايا والمداهنين، فاختارته مجلة «باري ماتش» الفرنسية واحدًا من أفضل عشرة ممثلين عالميين، وحصل على وسام الفنون والعلوم والآداب من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1962.
عاش زكي رستم في عمارة يعقوبيان، وكما آمن بأن الأفضل للمبدعين ألا يتزوجوا أو ينجبوا أطفالًا، ظل طوال حياته عزبًا، فلم يتذمّر مما جناه في آخر حياته، بعد أن اختار طريقه بمطلق حريته، وحين اعتزل التمثيل عام 1968 اعتزل الناس جميعًا بعدما فقد السمع، واستعان على الوحدة بمخزون ماضيه الذي لا ينضب، استدعى أحب الذكريات، فيلمًا تلو الآخر، ناظر الزراعة في «الحرام»، طاهر بك في «نهر الحب»، الباشا عزيز في «أين عمري»، شحات أبو سريع في «ملاك وشيطان». مئتان وأربعون فيلمًا، وخمسة وأربعون مسرحية تركها الباشا الأرستقراطي، والأب الحنون، والمعلم في سوق الخضار، والفتوة والزوج القاسي. وفي الخامس عشر من فبراير عام 1972 مات من دون صخب، وفي ذكرى وفاته ندعو له بأشهر ما قال في «رصيف نمرة خمسة»: «روح يا شيخ الله يعمر بيتك» >
زكي رستم وفريد شوقي في لقطة من فيلم «رصيف نمرة 5»