المخرج السينمائي علي بدرخان ملحمة رائعة عن قيمة الإنسان وجبروته
ثمة أعمال فنية جديرة بالتأمل لدى بعض المخرجين السينمائيين، تتناول حياة الناس على اختلاف أشكالها وأنماطها، وتناقش ما يمكن أن تفرزه هذه الأشكال والأنماط من ألوان متنوعة من الصفات الإنسانية كالجشع، والقهر، والظلم، والاغتراب، والاستبداد، والطبقية... إلخ، وتطرح أسئلة مصيرية حول طبيعة العلاقات، من خلال التناول الجاد لمختلف العوامل التي تتحكم في هذه العلاقات وفي توجيه المصائر.
هناك علامات لافتة وبصمات فريدة لدى هؤلاء المخرجين تميّز أعمالهم الفنية دون غيرهم، نتيجة لثقافة ووعي بأهمية «السينما» ودور الفيلم الروائي في التعبير عن قضايا الواقع وإشكالياته المتشابكة، وهو ما يسمّى بالرؤية الخاصة؛ حيث تُعرف أعمالهم من القضايا التي يتناولونها وكيفية هذا التناول فنيًا.
من هؤلاء المخرج العربي الكبير علي بدرخان الذي تعدّ أعماله علامات مضيئة في تاريخ الفن السابع بما تحمله من صدق فني يهجس في الأساس بقضايا الإنسان وهمومه في مختلف المراحل الزمنية. بدرخان، هو أحدْ أبرز المخرجين المصريين، وله رؤية خاصة تقوم على إعلاء قِيم الحق والخير والعدل والوفاء، وفي الوقت نفسه رفْض كل ما هو قبيح ومتدنٍّ، كالجشع والقهر والخيانة، يبحث دائمًا عن قيمة الإنسان وكأن أفلامه صرخة إنسانية ضد كل أشكال الزيف والادعاء، بل تنادي بالقيم النبيلة وتنشدها.
لذلك فهو يعزف لحنًا راقيًا تتداخل فيه أصوات ومعاني ودلالات تبيّن كُنْه الإنسان في مختلف التجليات أو بالأحرى التناقضات، حيث رقّة القلب والقسوة، والضعف الإنساني والجبروت، والجمال الرّوحي والقُبح... إلخ.
هذه التجليات وصراعاتها اليومية في الحياة هي الهاجس الملحّ والعامل المشترك في أعماله. وقد حقق في أفلامه المعادلة الفنية الأهم، وهي النجاح الجماهيري ورضا النقاد، نظرًا لانشغاله بقضية الإنسان واشتغاله عليها بجدية ووعي ورؤية متعمقة، وفي الوقت نفسه اعتكافه على التجهيز مدة طويلة.
قدّم بدرخان عشرة أفلام روائية طويلة، من بينها «الكرنك» (1975)، الذي اتفقت القائمتان المصرية والعربية على أنه من أهم مئة فيلم في تاريخ السينما، و«أهل القمة» (1981)، الذي تبوأ المرتبة الـ 37 من بين أفضل مئة فيلم في ذاكرة السينما المصرية.
علامة فريدة
يعتبر فيلم «شفيقة ومتولي» (1978) علامة فريدة في تاريخ السينما العربية، و«الجوع» (1986) أحد أهم الأفلام التي تناولت ثيمة الحرافيش والفتوات وإشكالية القهر في الحارة المصرية القديمة، أما آخر أعماله، «الرغبة» (2002)، فيعدّ أفضل الأدوار التي قدّمتها نادية الجندي على الشاشة الكبيرة منذ ظهورها عام 1958.
تناولت أعماله التي قدّمها بين عامي
(1973 - 2002) حياة الإنسان في مراحل زمنية مختلفة وأمكنة مختلفة، للتعبير عن واقع إنساني يسوده القهر والظلم، وأغلب ما قدّمه يأخذ هذا المنحى من أجل التعبير عن قضايا الإنسان، ويتكئ في ذلك على ما عُرف في الفن الروائي بـ «الواقعية السحرية»، حيث التعبير عن اليومي والمُعيش وتجميله، ليبقى إبداعًا فنيًّا وجماليًّا معبّرًا عن هذا الواقع، لذلك فإن أفلامًا مثل «الكرنك»، و«شفيقة ومتولي»، و«الجوع»، و«أهل القمة»، و«الرغبة» وطئت مناطق فنية شديدة الخصوصية وبالغة الصعوبة، وطرحت ملاحِم إنسانية عن قيمة الإنسان وجبروته، وعن صراع المال والجسد، وعن المرأة وكيف تم استغلالها وتسليعها من قبل قوى أخرى تمثّل السلطة والنفوذ.
أعمال بدرخان في مجملها ملحمة حقيقية عن صراع الإنسان، فلم يصور الحياة الإنسانية كبساتين فرح، أو خرائب عفنة، لكنه اهتم بالجوهر الإنساني بكل ما به من خير أو شر.
القهر الإنساني في كل زمان
القهر عند بدرخان لا يخص جنس المرأة أو الرجل، ولا يرمي إلى مرحلة زمنية معيّنة أو مكان محدد، لكنه يطول الإنسان أينما كان، لأن الجلاد هو الإنسان أيضًا. وتبدو قِيم الإنسان وجبروته سِمات بارزة ومؤثرة تتجه صوب الأسطرة والتأطير داخل نظام معقّد يبدأ من نقطة منعدمة، ثم يأخذ في الصعود، ويبدو ذلك في البناء الدرامي لشخصيات مثل فرج الجبالي (محمود عبدالعزيز) في فيلم «الجوع»، وزعتر (نور الشريف) في «أهل القمة» وأيضًا علاء (محمد عوض) في «شيلني واشيلك» (1977).
أو العكس، أي أن الشخصية تتطور عكسيًّا من نقطة بازغة يحتفي بها الجميع، إلى نقطة مهملة وخافتة لا يهتم لأمرها أحد، فتتأثر (الشخصية) بالظروف المحيطة حتى التلاشي واكتمال العدم، مثل شخصية نعمة (نادية الجندي) في فيلم «الرغبة»، وحسن (أحمد زكي) في «الراعي والنساء» (1991)، وأيضًا أبطال فيلم «الكرنك»، الذين جسّدوا شخصيات من جيل الشباب في قمة النضج والوعي والحضور، ثم الخفوت والتلاشي بسبب الإحباط والاكتئاب، إثر اعتقالهم وتعذيبهم.
ويتعقّب بدرخان مصائر شخصياته بمنتهى الحيادية، ليثبت أن عدو الإنسان الأول هو الإنسان، إذ يخوض رحلة يستبيح فيها كل شيء من قهر وظلم وقتل ونهب، من أجل النجاح في هذه الرحلة (الإنسانية)، لذا، فإن القهر يعدّ ملمحًا أساسيًّا، إذ تتعرض الشخصيات الرئيسة في جلّ أعماله لألوان من القهر على يد أصحاب السلطة والنفوذ وحتى الأقارب، وتجلّى ذلك من خلال بُعدين أساسيين، هما قهر المرأة، وقهر الرجل، فالأول ينتهي بالموت، كما في «شفيقة ومتولي»، أو بالجنون كما في «الرغبة»، أو بالفجيعة كما في «الراعي والنساء»، بينما يرتكز الآخر (قهر الرجل) على التعذيب والتنكيل كما في فيلمي «الكرنك» و«الجوع»، أو يتسم بالكراهية والتحدي كما في «أهل القمة»، أو يتخذ من (الجشع)، أو سطوة المال موضوعًا رئيسًا للصراع، كما في «شيلني واشيلك»، و«أهل القمة»، و«الجوع»، كما يتناول مصير الإنسان في مواجهة العائلة والمحيط الاجتماعي، كما في فيلمي «شيلني واشيلك»، و«الرغبة». وقد تنتهي حالات القهر بالإنصاف، فـ «زعتر» في «أهل القمة» يصبح ثريًّا مع موجة الانفتاح، بعد أن تعرّض للاضطهاد بسبب ماضيه كلصٍّ، وجابر (عبدالعزيز مخيون) الذي ظُلِم كثيرًا لوقوفه إلى جانب الفقراء في «الجوع» يتم إنصافه وإنقاذه من الموت، وأبطال «الكرنك» يصيبهم الإحباط، أي أن نهاية القهر ومدى تأثر الشخصية يختلفان وفق جنس الرجل أو المرأة.
بين الجرأة والوعي
يلاحظ أن هذه التجربة الفنية الجديرة بالتأمل، تقوم في كثير من نماذجها على اختراق «التابو» بجرأة شديدة ووعي بكيفية التناول وحدود الاختراق، فإلى جانب صراع المال، سنجد اتكاءً على ثيمة الرغبة، والسياسة من أجل إبراز الصراع الإنساني الذي لا يتحقق دون هذه العوالم (الرغبة، المال، السياسة). وقد ارتكز فيلما «شفيقة ومتولي»، و«الجوع» على هذه العوالم، وحفلت أفلام «الرجل الثالث» (1995)، و«نزوة» (1996)، و«الرغبة» أيضًا بطرح عديد من القضايا والهموم، ولم تخرج عن هذه العوالم.
يتسم بناء الشخصيات بدقة كبيرة، حيث يعتمد على المكونات البيئية وتحولاتها الناتجة عن التصاعد الدرامي، ويلاحظ أن بناء شخصيات كل من زينب، وشفيقة، وسهام، وزبيدة، التي أدتها سعاد حسني في «الكرنك، وشفيقة ومتولي، وأهل القمة، والجوع»، وكذلك نعمة (نادية الجندي) في «الرغبة»، والتي جاءت مرتبطة بالتطور الدرامي ومنبثقة عن الأحداث، جاء بِناء محكمًا ودالًّا في كل تفاصيله، ليطرح ترجمة دقيقة وصادقة لمشاعر المرأة إزاء تلك الظروف الاستثنائية والأحداث التي تعدّ - باستثناء «الرغبة» - أحداثًا تاريخية معبّرة عن واقع زمني معيّن، حيث يكشف التصاعد الدرامي والبناء النفسي للشخصيات عن طبيعة المرأة في المجتمعات العربية والتحول المصيري الذي يحدث لها في مثل تلك الظروف.
فشفيقة التي غادرها متولي (أحمد زكي) للعمل بالسخرة، هجرت البيت، وأصبح يُنظر إليها كجسد؛ بدءًا من دياب (محمود عبدالعزيز) وحتى الطرابيشي (أحمد مظهر) و«أفندينا» (جميل راتب)، لتنتهي حياتها بالموت، بعد أن مرّت بمواقف عديدة، وكذلك زبيدة في «الجوع» التي ضاعت كرامتها نتيجة لعلاقتها بأحد رجال الفتوة، ونعمة (نادية الجندي) انتهت حياتها بالجنون، بعد أن ذاقت الهوان في فيلم «الرغبة»، الذي ارتكز على صراع الجسد، والصراع مع المحيط الاجتماعي، وهذه الصراعات هي التي تتحكم بطبيعة العلاقات في غالبية أفلام بدرخان.
السمات الفنية في رسم الشخصيات
من سمات أفلام بدرخان في رسم الشخصيات ارتكازه على هموم الإنسان في بيئته المحلية، بالاتكاء على مختلف الهموم الإنسانية التي تعانيها الشخصية وأوجاعها وطموحها بمستقبل يؤمن بحرّية الإنسان وكرامته، فيجمع الخيوط الدرامية من هذه الهموم والأوجاع، ويبرزها كقضايا إنسانية عامة.
وقد تناول ما يمرّ به المهمشون من استبداد على يد «فتوة» ظالم، وتناول أزمة الفقراء الذين يتم اصطيادهم وترحيلهم من أجل العمل الإجباري في حفر قناة السويس، وأثر ذلك على الأسرة والمرأة التي يتم الاتجار بها من قبل بعض المنتفعين لتحقيق المكاسب. وتناول أيضًا قهر المرأة على يد مجتمعها ومحيطها العائلي والاجتماعي، وتوقّف عند إشكالية الهاجس السياسي والقهر والتنكيل بالشباب إبّان الحقبة الناصرية... إلخ.
كما نجد بروز عديد من الثنائيات الدالة، مثل ثنائية «السيد والعبد»، التي تناقش وتستعرض طبيعة العلاقة بين أصحاب النفوذ والفقراء، ورجال السلطة والبسطاء، وأغلب أفلامه بها هذه النزعة الإنسانية، وإشكالية الفقراء والمهمشين وما يعانونه في مجتمعاتهم، على الرغم من تعدّد الأماكن والمراحل الزمنية، تكاد تكون القاسم المشترك في جل أعماله، لذلك فإن إشكالية القهر والمهمشين، والفقر والثراء، السيّد والعبد، هي ثنائيات متلازمة، ولا يمكن أن نجد أحد طرفيها دون الآخر، وهاتيك الثنائيات والتقابلات هي التي تشكّل الملمح الأساس، وتشكل أيضًا طبيعة الصراع بين المهمشين والصفوة، وبين قاع المجتمع وقمته، ولذلك فقد تمحورت أفلام «الكرنك»، و«شيلني واشيلك»، و«شفيقة ومتولي»، و«الجوع»، و«الرجل الثالث»، و«نزوة»، و«الراعي والنساء»، و«الرغبة» حول القهر بدافع الرغبة، والمال، والسياسة، ويُلاحظ أن ثنائية «الفقر والثراء» لها دور شديد الأهمية في زيادة هذا القهر وبلورته فنيًّا.
كشف الفساد
يهتم بدرخان على نحو خاص بكشف الفساد؛ فساد السلطة، وفساد المجتمع، وفساد رجال الأعمال، وفساد الأخلاق أيضًا. ومن الملامح الخاصة لديه كشف طبيعة العلاقة بالسلطة، حيث تتخذ هذه العلاقة منحى واحدًا هو الاضطهاد، أي أن هناك إنسانًا مضطهَدًا وسلطة تتسم غالبًا بالاستبداد، وكما جاءت صورها في «الكرنك»، حيث يقوم صفوان (كمال الشناوي) ممثل السلطة وأعوانه بتعذيب مجموعة من الطلاب المعتقلين، وكذلك فرج في «الجوع»، الذي يمارس القهر ضد الفقراء، وهو القادم من هامش المجتمع، والذي يتحول سريعًا إلى مستبد، ويتبدل من فتوة للبسطاء إلى فتوة يحرص على مصالح الأغنياء، بعد أن تزوج من ملَك (يسرا) المرأة الثرية التي يتولى إدارة أعمالها.
إذن، فقد اتخذت العلاقة مع السلطة صورة واحدة هي علاقة إنسان بجلّاده، وتجلّت هذه الصورة في أغلب أفلام بدرخان؛ بينما لم تأخذ العلاقة هذا المنحى في «الراعي والنساء»، بعد أن أصبح حسن (أحمد زكي) مسؤولًا عن النساء الثلاث في منطقة نائية، لأن السلطة عند بدرخان ليست سلطة الرجل أو الأب أو سلطة ذكورية عمومًا، إنما هي السلطة الرسمية أو من ينوب عنها، ولذا فهي ليست علاقة تكامل، بل هي علاقة إنسان بسيط وسلطة تنكّل به، كعلاقة اللص التائب (زعتر) بضابط المباحث محمد (عزت العلايلي) في «أهل القمة»، بينما سادت علاقة الضابط نفسه مع المهرّب (عمر الحريري) الاحترام، لأنه يدّعي الأمانة وأعمال الخير. كذلك علاقة متولي، وشفيقة بنماذج السلطة، بدءًا من ترحيله للعمل وحتى المواقف التي قابلتها شفيقة في علاقتها بأفندينا، والطرابيشي في «شفيقة ومتولي»، وكذلك العلاقة المتوترة بين كمال حسين (أحمد زكي) والسلطة في «الرجل الثالث»، والتي انتهت بطرده من الخدمة.
وفي «الجوع» اتسمت العلاقة بين الحرافيش والفتوة بالتوجّس، حتى منع عنهم الغذاء، وفي «الكرنك» كانت العلاقة مرعبة من ناحية ضابط البوليس السياسي تجاه الطلبة المعتقلين، حيث يقوم بتعذيبهم وحرق السجائر في أجسامهم، حتى رحيل أحدهم حلمي (محمد صبحي).
أثر اللقطة الواقعية على البناء الفني
من السمات البارزة أيضًا الارتكاز على أبعاد سياسية واجتماعية في رصد وتعقّب تحولات المجتمع، من خلال رؤية جديدة ساعدت على طرح أسلوب غير مسبوق ونوعية مختلفة من الأفلام الاجتماعية التي تنطوي على دلالات كاشفة عن تطوّر المجتمع ونقد بنائه الهش، من خلال كشف زيف المدعين الذين يتصدرون المشهد، سواء كانوا رجال أعمال أو ممثلين للسلطة أو غيرهم، ممن يعتبرون أنفسهم من طبقة مختلفة تفوق الطبقات الأدنى اجتماعيًا.
فقد رصد بدرخان أثر التحولات السياسية في الحقبة الناصرية وسيطرة مراكز القوى على المجتمع واصطياد الشباب والعبث بهم نفسيًّا وجسديًّا في «الكرنك»، وأيضًا التحول الاقتصادي في مصر إلى سياسة الانفتاح، وأثر ذلك على انهيار المجتمع بسبب صعود طبقة جديدة على السطح تمتلك المال ولا تمتلك الثقافة ولا الوعي الذي يخدم المجتمع في «أهل القمة»، وقدّم شهادات تاريخية عن أثر الظروف الاقتصادية والاجتماعية على حياة البسطاء في فيلميه «شفيقة ومتولي»، و«الجوع»، وبيّن أثر وجود قوى معيّنة على مصائرهم. وعلي بدرخان مهتمّ بالشارع وبالحارة الشعبية بناسها ومقاهيها، وقام في «أهل القمة» بتصوير الشارع والسوق التجاري في بورسعيد، حيث الباعة والمعروضات والبضائع والازدحام داخل السوق، دون أن نلاحظ أي فارق مع الواقع، وكان لذلك أثر كبير في التأكيد على البناء الواقعي للحدث ومصداقيته، وإضفاء روح الألفة والحراك التجاري نتيجة لانفتاح السوق على المشهد. وفي «الجوع» بدت الحارة الشعبية بتفاصيلها ومقاهيها واقعية جدًّا، وفي «الرغبة» يبدو التقارب الاجتماعي بين مجموعة البسطاء للتدليل على الترابط الاجتماعي بينهم.
المرأة... القوة والحضور
يشير تعدد صور المرأة في أفلام بدرخان إلى أنها امرأة واقعية معجونة بماء الواقع، بها كل مواصفات المرأة وتنوعها من حنان وحب وأنوثة وغضب وضعف وأيضًا طمع وتآمر وحقد وغيرة... إلخ. فهي ليست مقهورة أو ضعيفة على نحو خاص، كما نجدها عند رضوان الكاشف مثلًا، أو عند إيناس الدغيدي وخالد يوسف، لكنها قوية تستطيع أن تتدبر أمورها، وهي شخصية مستقلة، تؤثر في الأحداث وفي مصائر الآخرين، لا تعتمد على الرجل وإن عاشت في منطقة قاحلة. في «الجوع» هي الزوجة والأم اللتان دفعتا المهمش الطيّب «فرج الجبالي» إلى أن يجور على الجميع ليلبي طلباتهما، وهي الزوجة التي تآمرت مع الحرافيش لإسقاط زوجها. وفي «شيلني واشيلك» هي المعلّمة التي استطاعت بذكائها أن تنتشل الرجل من عالمه البدائي وتجعله إنسانًا سويًّا، وفي «أهل القمة» حسمت «سهام» مصيرها بحثًا عن الاستقرار وعن (السكن) بمفهومه العميق، وفي «الرغبة» اختارت الأختان مصيريهما؛ سواء «نعمة» أو «نوال» (إلهام شاهين). المرأة - في جلّ أعماله - شخصية مستقلة وصاحبة قرار، رافضة لكل أشكال الوصاية، وما تمرّ به من ظروف، يكون نتيجة لاختياراتها، ففي «شفيقة ومتولي» اختارت - برغبتها - ترك بيت الجدة، وفي «الراعي والنساء» اختارت وفاء (يسرا) أن تعيش في منطقة مهجورة، حتى في «الجوع» حينما استسلمت لأحد رجال الفتوة كان أيضًا باختيارها. أما ما وقع على «زينب» من قهر في «الكرنك»، فكان نتيجة لظروف سياسية استثنائية لا تفرّق بين رجل وامرأة.
ملامح أخرى في سينما بدرخان
أولاً: يفضل بدرخان الاعتماد على الأعمال الأدبية، فأفلام «الجوع» المستمد من حكاية «سارق النعمة» من ملحمة (الحرافيش)، و«أهل القمة»، و«الكرنك» كلها عن أعمال لنجيب محفوظ، و«الراعي والنساء» عن قصة أجنبية بعنوان «جزيرة الماعز»، وفيلم «شيلني واشيلك» الذي كتبه صلاح جاهين عن قصة «الكلمة الثالثة» للكاتب ألكسندر خوسيه. أما «الرغبة» فهو مقتبس عن مسرحية «عربة اسمها الرغبة» للكاتب الأمريكي تنيسي وليامز، وقدّمها للسينما في الخمسينيات المخرج العالمي إيليا كازان بنفس الاسم، ومن بطولة فيفيان لي ومارلون براندو.
ثانيًا: حينما تعاون مع صلاح جاهين في فيلم «شفيقة ومتولي» تمكّنا معًا من الوصول إلى أغنية درامية معبّرة عن الأحداث، وكانت إضافة جادة للحدث الدرامي بكلمات دالة ومعبّرة عن السياق الفيلمي، أما أداء سعاد حسني فقد جاء بمقدرة فنية كبيرة ليضيف إلى دور الأغنية الدرامية وأهمية توظيفها في السينما؛ لاسيما أن الفيلم قصة للكاتب المسرحي شوقي عبدالحكيم استلهمها من معاناة المصريين في مرحلة حفر القناة، واستطاع جاهين أن يكتب سيناريو وحواراً معجوناً بتراب مصر وعرق المهمشين.
ثالثًا: تأثرت السينما الأحدث بأعمال بدرخان، ليس كمدرسة فنية هو مؤسسها فحسب؛ بل في التأثر بأعماله، ففيلم «كركر» (2007) من تأليف أحمد عبدالله وإخراج علي رجب، وبطولة محمد سعد، هو تقليد جيد لفيلم «شيلني واشيلك» الذي أخرجه بدرخان للسينما عام 1977 بما يعدّ نقلًا حرفيًّا وإعادة إنتاج لتجربة سينمائية، فالظروف والأحداث التي تمرّ بها الشخصية الرئيسة في الفيلمين واحدة، وأسلوب التحايل الذي اتبعته العائلة في الفيلمين من أجل الحصول على المال، واحد.
رابعًا: تعتبر سعاد حسني هي النجمة المفضلة لديه، فقد قامت ببطولة ستة أفلام من أعماله، بداية بـ «الحب الذي كان» (1973) مع محمود ياسين وإيهاب نافع ومحمود المليجي، وسيناريو وحوار رأفت الميهي، وانتهاء بـ «الرغبة» من بطولة أحمد زكي.
خامسًا: كُرِّم بدرخان في مهرجانات السينما العربية والدولية، وحصدت أعماله عديدًا من الجوائز مثل الجائزة الذهبية من مهرجان نانت (فرنسا)، والطانيت البرونزي من مهرجان قرطاج السينمائي الدولي (تونس)، فضلاً عن عديد من جوائز أحسن فيلم وأحسن إخراج؛ لكن بدرخان المولود في القاهرة (أبريل 1946) يعتبر التكريم الأهم في حياته هو حصوله على جائزة النيل للفنون والآداب 2017 في مصر، ليكون ثاني مخرج يحصل عليها بعد المخرج الراحل يوسف شاهين .