الطائر الذي غرد خارج السرب عبدالنبي العكري في ذاكرة الوطن والمنفى

الطائر الذي غرد خارج السرب  عبدالنبي العكري في ذاكرة الوطن والمنفى

هناك أشخاص يحملون على عاتقهم إضاءة الدروب المعتمة التي إذا خفت شعاعها وتوارى نورها، نحو أماكن بعيدة قصية، فيأتي من يحمل المشعل ويسلط الضوء على تلك البقعة التي كانت يومًا ما يضوي شعاعها ونورها في الآفاق... ذلك ما كشفه لنا وحمله عبدالنبي العكري في ذاكرته التي وسمها بالوطن والمنفى. 

فور أن تفرغ من قراءة كتاب عبدالنبي العكري «ذاكرة الوطن والمنفى»، حتى يسرح بك الخيال إلى مناطق وأسماء وعبارات وأقوام بعيدين، ورموز كانوا حديث العالم في فترة زمنية فاصلة.  
أتذكر عندما اتصل بي صديقي ونصحني بأن أشتري كتاب «ذاكرة الوطن والمنفى» لعبدالنبي العكري، ومما قاله، بأن أحد الوزراء أهداه لأخيه، الذي ورد اسمه في الكتاب. وهو كتاب ليس سوى سفر طويل لا يمل قراءته، وهو جميل وشيق وممتع. 
سفر يؤرخ لفترة زمنية ربما نحن لم ندركها، تلك الفترة التي عاشت فيها منطقتنا الخليج والجزيرة العربية مخاضًا فكريًا وعصفت بها رؤى وأفكار، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وهو كتاب مشحون بالذكريات والأمكنة والأسماء التي لمعت ورسمت جزءًا من ذاكرة المنطقة. 
أراد عبدالنبي العكري أن يكتب مذكراته هو، فخرجت مذكرات للمنطقة، بل هي ذاكرة منطقة بأكملها من شخوصها وأسمائها وأماكنها، بما فيها من دول وناس وجغرافيا وتاريخ... في الحقيقة لم يترك الكتاب لا شاردة ولا واردة إلا واحتواها. 

محطات نضالية
يحتوي الكتاب الصادر عن دار فراديس للنشر والتوزيع عام 2015، على أحد عشر فصلًا، يبدأ من الخطوات الأولى للمؤلف في البحرين، فلبنان والحلم الجميل الذي عاشه هناك، ويعود إلى البحرين والإبحار عكس التيار، واليمن والطريق إلى ظفار، وأخيرًا ظفار والعمل السياسي والإعلامي، ويعرج إلى حركة السلم والتضامن العالمية وتناقضات المهام، ويحط بنا الطائر في محطات نضالية شهدتها المنطقة والعالم ككل، ثم المسيرة الحقوقية وما أدراك ما هي، ثم يعود بنا ذلك الطائر إلى رحلته في المنافي، وفي الختام يحن ذلك الطائر ويعود إلى عشه ووكره الأول، فيعود طائرنا المحلق إلى وطنه، ومن هناك يبدأ مرحلة أخرى في رحلة النضال بمجال حقوق الإنسان من داخل الوطن هذه المرة. 
كتب مقدمة الكتاب عبدالحميد مراد، الذي وصف الكاتب بالطائر الذي تمرد على القفص (ربما هو خرج من القفص أو تمرد على السرب وغرد بعيدًا)، وصفه بأنه طائر يعشق التنقل من غصن إلى آخر، رجل زئبقي لا يمكن أن تخضعه أية مقاييس أو معايير أو توجهات حزبية صارمة.
يستهل حسين موسى (الاسم الحركي للمؤلف)، مذكراته بخطواته الأولى في البحرين، حيث ولد في عام 1945م، في يوم مولد الرسول محمد ([)، فلذلك ســـمي عبدالنبي تيمنا بالنبي محمد. فيذكر لنا أنه تحدَّر من أسرة منفتحة ومحافظة في الوقت نفسه، وأن والده وطني بالسليقة، وكان متحمسًا لهيئة الاتحاد الوطني، وكان عبدالنبي يذهب مع والده لاجتماعات الهيئة، وأن والـــده كان يجلب للبيت صحف تلك الفترة، مثل الوطن والقافلة والخميلة ويكدسها في صندوق خشبي، لكنه بعد الهجمة على الهيئة يعمد إلى التخلص منها، ويتأسف الكاتب على ضياع وفقدان أرشيف مهم لتلك الفترة. 
في وصف دقيق يتحدث الكاتب عن أهم الأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية، كالعدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، وما كانت تبثه «صوت العرب»، الذي تزامن مع مظاهرة دعت لها هيئة الاتحاد الوطني وما شابها من أعمال عنف، واعتقال قيادات الهيئة، حيث سجن بعضهم ونفي البعض الآخر إلى سانت هيلانة. يتكلم الكاتب عن لبنان التي تشبع فيها بالفكر النضالي والثوري، وذلك نظرًا لما كانت تمثله لبنان في الستينيات، كيف لا وهي باريس الشرق، وأكثر الدول انفتاحا وتطوراً وحيوية. وشهدت لبنان خلال تلك الفترة تظاهرات احتجاجية على الانفصال في سورية ضد الوحدة العربية في 1961.
يقول الكاتب إن رابطة طلبة البحرين في بيروت هي النافذة التي أطل منها على المجتمع والسياسة والعالم، وكانت تلك الفترة تتلاطم فيها التيارات السياسية في لبنان. فمن حركة القوميين العرب والحركات الوطنية، والحياة الجامعية في الجامعة الأمريكية، التي يختلط فيها العديد من الجنسيات، إلى جانب اللبنانيين، كان هناك طلبة من مختلف الدول، وكانت الجامعة تشكل أجواء من التحرر، وهناك تيارات سياسية نشطة، كحركة القوميين العرب، وحزب البعث والشيوعيين، إضافة إلى التيارات اللبنانية كالكتائب، والأحرار، والاشتراكيين، والقوميين السوريين، والإخوان المسلمين. وفي لبنان ينضم الكاتب إلى حركة القوميين العرب على يد رفيقه المناضل عبدالرحمن النعيمي أبو أمل (سعيد سيف). 
 يعود الكاتب إلى البحرين، ويتحدث عن الفترة التي عاشها هناك، وهي فترة الستينيات، والأحداث التي وقعت فيها من تظاهرات واحتجاجات واعتقالات، وغيرها، والتي كان للكاتب نصيب منها، حيث اعتقل مرتين، وكذلك اعتقل رفيقه في النضال عبدالرحمن النعيمي. 
النقطة المفصلية في حياة الكاتب، والتي أشعلت جذوة الثورة في داخله، لعلها هي المهمة التي كلف بها من قبل المناضل النعيمي عضو المكتب السياسي للحركة الثورية، بالتوجه إلى بيروت ومنها إلى ظفار، المنطقة المحررة، والعمل كخبير زراعي لإقامة مزرعة تدريبية هناك.
فحكاية سعيد موسى مع ظفار تبدأ منذ وصوله إلى هناك قادمًا من عدن، وقد جاء إليها من بيروت، وقد وصف الكاتب الثورة العمانية في ظفار مثل الحلم والأمنيات، وصور المقاتلين موحدي الملابس. 
 
الوصول إلى ظفار
وفي ظفار التي وصلها في مارس 1971 عن طريق قارب (سمبوق)، وبلهجتنا نحن (سمبوج)، كانت مدينة حوف هي محطته الأولى، ومنها انطلق إلى منطقة «خضرفن»، التي أقام فيها المزرعة النموذجية، وقضى ليلة في مدرسة لينين، والتقى هناك مديرة المدرسة المناضلة هدى سالم (ليلى فخرو)، التي كانت تعد المناهج وتعلم في الوقت نفسه، تلك المرأة التي وصفها بالمرأة الاستثنائية وأم الأطفال ووالدهم.
ما يثير الانتباه هو أن الكاتب لم يدع شيئًا إلا وذكره، ففي ظفار سلط الضوء على الحياة الاجتماعية والسياسية ومعيشة الناس وأصولهم، وتطرق إلى الفنون واللغة الحميرية والشعر والغناء والرقصات الشعبية، بالإضافة إلى مؤسسات الثورة، كمستشفى الشهيدة فاطمة غنانة، ولجنة الخدمات الطبية، والمؤتمرات والتغييرات التي طرأت على الثورة في منهج تفكيرها، وتكلم عن الانقسامات التي عصفت بها، والحرب والأيديولوجيا، ثم اشتغل الكاتب من خلال العمل السياسي والإعلامي بالظروف التي ترافقت مع صعود الثورة وتحولها من العمل العسكري إلى السياسي.
 ومن ظفار ستستمر الرحلة لسنوات، سوف يحكي فيها (حسين موسى) سيرة البشر والحجر في منطقة شاسعة. وقد وصف الكاتب عدن في تلك الفترة، وقــــال عنها إنها كالمنامة في الخمسينيات، مشيرًا إلى التشابه بين المدينتين، فللمدينتين ميــــناءان، وتحدث عن تأثيــــر الإنجليز في نمط العيش بها، وأنها مدينة متحررة، ومنارة في وسط محيطها، وهي مدينة كوزموبوليتية من مخلفات الإنجليز، وسكانها خليط من اليمنيين ومن القارة الهندية والصومال وإريتيريا، حيث يتزاوج المقيمون فيها من مختلف الأصول. 
 من الأشياء التي ذكرها في عدن خلال تلك الفترة، حدثان، في عام 1971، الأول سقوط طائرة كانت تقل وزير الخارجية محمد صالح العولقي والكاتب محمد عبده المولي. والحدث الثاني، يذكر فيه الحملة التي انطلقت في عدن لإقرار قانون جديد للأسرة، وقد ترافق ذلك مع التظاهرات التي نظمها اتحاد نساء اليمن، وكانت أمينته العامة عايدة يافعي، حيث جرى إحراق العبايات في الشارع كرمز لتحرر المرأة من عبودية التقليد.  
في عدن انغمس الكاتب المناضل في الحياة العدنية، ونسج العلاقات فيها، وتعرف على اليمنيين من مختلف الاتجاهات، من سياسيين وفنانين وأدباء، مثل عبدالفتاح إسماعيل وعلي سالم البيض وعلي ناصر محمد، وعلي عنتر، وغيرهم، ومن الفنانين فيصل علوي ومحمد مرشد ناجي وكرامة مرسال، وغيرهم، وتعرف أيضًا على الجنسيات الأخرى، ومن بينهم العمانيون أعضاء الجبهة الشعبية. 
من الأشياء الجاذبــــة في الكتـــاب، الحديث عن اليمنيين ومصائـــرهم، تلك التفاصيل التي غابت عن كــــتابــــات كثيــرة، فرصدها أبو منصور، حيث رصد التحولات والتقلبات والأمزجة التي عصفت بالأحداث هناك، وكان شاهدًا عليها. ومن خلاله تعرفنا على الشخصيات اليمنية التي رسمت تاريخ اليمن الجنوبي آنذاك.  
الكتاب زاخر بالكثير من الأسماء والأماكن والأوطان, تتعرف فيه على قادة كانت لهم صولات وجولات، قادة شغلوا الدنيا والناس لفترات طويلة من الزمن. 
في هذا السفر سوف نتعرف أيضًا على الكثير من الشخصيات الأجنبية، واللجان التي تشكلت علي المستوى الدولي لمناصرة ثورات الشعوب المظلومة. من هذه الشخصيات يذكر كاتبنا، فريد هاليداي من بريطانيا، وجان بيرفينو، ومارك بيلاس وزوجته من فرنسا. ولجان المناصرة في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، والدنمارك، والسويد، وغيرها من الدول الأجنبية، وأهم الإصدارات من أفلام وكتب وصحف ومنشورات صادرة لدعم الثورة في ذلك الوقت، بالإضافة إلى لجان المناصرة التي تشكلت في الدول العربية، في الكويت واليمن الجنوبي ولبنان وغيرها. 

كويتي بهوية عمانية
تحدث الكتاب بشيء من التفصيل عن الفنون والآداب والفلكلور، فقد ألهمت الثورة الكثير الكثير، فألقى نظرة على ما كُتب من قصائد ومسرحيات وأفلام، كمسرحية العاشرة ليلاً في سمحان، وفيلم دقت ساعة التحرير دقت، ويسقط الصمت، وعندما يخيم الظلام على مسقط، بالإضافة إلى بعض الكتب التي صدرت. 
ولفت الكاتب إلى الشخصيات العمانية التي عرفها وعاشوا معًا تلك السنوات، شخصيات وأسماء، البعض منها رحل عن عالمنا والبعض لايزال، مثل، محمد أحمد الغساني، أحمد سالم البريكي، سعيد مسعود مريخ، عبدالعزيز القاضي، عبدالحافظ جمعان، جابر مرهون فليفل، مهدي جعفر، أحمد الربعي، الكويتي الذي قال عنه إنه أيضًا عماني بهويته النضالية، أم عزة (عفيفة)، حمدان الضوياني، نبيلة الغساني، وغيرهم الكثير.
وعن المحطات النضالية التي كان لها دور فعال، تحدث عن قبرص التي قال عنها إنها الأكثر قربًا للعرب من البلدان الأوربية جغرافيًا ومشاعر، وبغداد، والمغرب، وإيران والعلاقة مع ثورتها في عام 1979م، ثم من خلال الحرب العراقية - الإيرانية، ومصر وتداعيات «كامب ديفيد»، ولبنان قبل الاحتلال الإسرائيلي في 1982، وزمن الحرب الأهلية.
وتحدث الكاتب عن مرارة العيش في المنافي منذ خروجه من البحرين مرورًا بدول كثيرة استقر فيها، كلبنان ومصر ودمشق واليمن، وغيرها من الدول الأجنبية. ويظل سعيد موسى متنقلًا بين تلك المدن، مناضلًا ومقارعًا في المحافل والمؤتمرات الدولية.
تمتاز ذاكرة الكاتب بأسلوبها البسيط السلس، حيث رصد فيها كل التفاصيل الدقيقة وكأنه كان يحمل كاميرته ويلتقط بها مشاهد قد لا يلتفت إليها الآخرون، راصدًا تلك التحولات التي مرت بالمنطقة. 
كل ذلك وظل أبومنصور وفيًا لما يقوله، ترك أشياء كثيرة لنفسه ولم يبح بها، رافضًا إخراجها من ذاكرته، وفضل أن يرسم صورة ناصعة لتلك الفترة بعيدًا جدًا عن الصراع الأيديولوجي والجدل الفكري والنقد وجلد الذات، فأبقى الأشياء الأخرى والاختلافات في وجهات النظر بعيدًا، ولم يدخل في سجالها. لذلك جاءت هذه المذكرات صافية نقية، كما يحب هو.

العودة لحضن الوطن
رحلات طويلة شيقة ممتعة، كتاب زاخر بالأصوات والصور، أسماء لأشخاص أزاحهم الزمن جانبًا كما هي سنة الحياة، فأبى
أبو منصور إلا أن يستدعيهم من غياهب النسيان ويسلط الضوء مجددًا على سيرتهم. 
أماكن لعبت أدوار البطولة في مسيرة الكفاح الإنساني توارى دورها أيضًا، كم كان جميلاً لو امتدت تلك الرحلة.
لكن، وكما هي سنة الكون، لكل شيء من نهاية، كما بدأت تلك الحكاية الشيقة والحلم الجميل، لا بد أن ينتهي، ولا بد للرحلة أن تصل إلى مداها الأخير، فتأتي التطورات التي شهدتها المنطقة، والبحرين بالخصوص، بعد وصول الملك حمد بن عيسى آل خليفة للحكم والعفو الذي أصدره،  ويعود ذلك الطائر الذي حلق بعيدًا وترك السرب هائمًا، الطائر الذي لم يستكين يومًا، ها هو يعود إلى حضن الوطن محملًا بسنوات من النضال والكفاح، فيدخل البحرين مع رفاقه في 28 فبراير 2001م، وترحب به قريته (الدية) ترحيبًا يليق به. 
لكن الطائر الذي استنشق هواء الحرية وكسر القيد منذ البداية، سوف تكون عينه على حقيبة سفره. الطائر الذي عشق التنقل من غصن إلى آخر، كما قيل، سيظل وفيًا لتاريخه وعشقه. 
 وها هو يعود إلى حلمه في السفر والترحال حافظًا الود والصداقة لرفقاء دربه، فتجده  يلقي بعصا السفر في سلطنة عُمان، ويعود ويلتقطها مرة أخرى ويحزم حقائبه إلى اليمن ودمشق ولبنان ومصر وفرنسا وكل البلاد التي طبعت سيرته. 
كم كان جميلًا لو مازال حلمنا مستمرًا لم تقطعه شائبة، ومازال طموحنا أكبر وأمانينا كبيرة. لكن أبا منصور وعد بأنه سيحاول أن يفتح صفحات أخرى من تاريخ جميل ممتع... فليس لنا إلا كما قال هو... نقول له هذه المرة منا نحن: ألف تحية وتحية ■